نظرية المؤامرة وصابونة الفندق والمحاضرة الدبلوماسية

بواسطة | يونيو 9, 2024

بواسطة | يونيو 9, 2024

نظرية المؤامرة وصابونة الفندق والمحاضرة الدبلوماسية

لي صديق يعتنق نظرية المؤامرة ولا يضع بطاقة البنك في فم الصراف الآلي إلا إذا كان بصحبته من يحمي ظهره. طلب مني أكثر من مرة أن أرافقه إلى الصراف ففعلت مرغما وكنت أقول له: أنت تسرق وقتي من أجل أن تنفي عن نفسك الوهم، وهذا الوقت الذي تسرقه مني ليس بأهون عليّ من مالك الذي تخشى عليه السرقة.

أنت تقتل الوقت حين تخرج من بيتك من أجل أن تنجز عملا لا تقتنع بوجاهته ولا بأهميته ولا حتى بمنطقيته. قد يتوهم القارئ الكريم أنني متحامل على هذا الصديق أو أنني لا أراعي تهيؤاته ومخاوفه. حسنا، سأخبرك بقية القصة. إن صديقي هذا من الموسرين الذين يمتلكون من المال ما لا يسعه الخزن ومن الأراضي والبيوت في مختلف البلدان ما لا يعلمه إلا الله، غير أنه كلما أراد السفر طلب من أحد أصدقائه أن يوصله إلى المطار، وحين يصل إلى وجهته لا بدّ من وجود صديق آخر بالانتظار. ذكرتُ لك أنه غنيّ حتى لا تعتقد أن الفقر يقوده إلى ما أخبرتك به آنفا، والآن أخبرك أنه ليس بخيلا حتى لا تعتقد أنني أقدح في صديقي. إنما هي نظرية المؤامرة، فماذا لو وقع من صاحبنا شيء ثمين في سيارة رجل غريب؟ ماذا لو نسي هويته أو جوازه في سيارة أجرة؟ لا سبيل على الإطلاق إلى إقناعه بأنّ الهيئات الناظمة لعمل سيارات النقل تحتفظ لكل سائق برقم وسجلّ، وأن معظم سيارات الأجرة صارت خاضعة لأجهزة المراقبة على مدار الساعة.

ولصديقي هذا نوادر كثيرة منها أنه نزل مرة فندقا في شمال فرنسا فأعجبته صابونة الفندق. أرسل لي صورتها يسألني كيف يستطيع أن يشتري مثلها فأجبته على الفور بأن أقصر الطرق أن يسأل عامل الفندق، فقال لي: هؤلاء الفرنسيون في غاية الغرور والتكبر ولا أريد أن أبدو معجبا بأي شيء عندهم حتى لا أزيدهم غطرسة وتعجرفا. بحثت عن الصابونة في بعض المواقع فعثرت عليها واشتريت لصاحبي منها ما يوافق حاجته ثم بدا لي حين وصلتْ لي أن أجرّب واحدة منها فلما أن غسلتُ يديّ بها وجدت أنها تدبغ اليدين برغوة لزجة تعلق بهما ثم لا يزيلها الماء إلا بثلاثة أضعاف الوقت الذي يحتاجه زوال رغوة الصابون العادي، فإذا كان غسل يديك بصابونة عادية يستغرق سبع ثوان، فإنّ صابونة صديقنا تطيل وقت الغسل إلى نحو ثلاثين ثانية وهذا لعمري خسرانٌ مبين.

لقد أجمع المنطق والأدب والتجارب وكثير من الأدباء والفلاسفة على أن تبديد الوقت هو تبديد لمورد لا يمكن استرداده، على أنّ بعضهم وجد في الأمر متسعا فقال إن الوقت الذي تبدده وأنت مستمتع مبتهج لا يعد وقتا ضائعا. فمناط الأمر الفائدة باعتبار أن المتعة من الفوائد.

يقول أكثم بن صيفي: أمس عظة واليوم غنيمة وغدا لا تدري من أهله، وفي بعض الروايات قيل: واليوم هبة. أيا كان فإنه لا شك بأن الوقت الحاضر هدية من الله سبحانه ونعمة تستحق الشكر وتستوجب حسن التصرف، ومن الطرافة أن التسمية الإنكليزية للزمن الحاضرpresent  تتفق لفظا وكتابة مع كلمة هدية present، وأيّ هدية!

إنك حين تمعن النظر في مسار يومك لا تعدم أن تجد سُرّاق الوقت يتربصون بك ويقعدون لك، أولهم هاتفك الذي صار جزءا من يدك، وليس آخرهم صديق جدّك الذي يرسل لك كل يوم عشرين رسالة أولاها صورة سماء برتقالية وشمس خضراء مكتوب عليها بلون بنفسجي وبخطّ يحاول أن يشبه الديواني “صباح الخير” ثم تترادف من بعدها رسائل الأخبار التي لا يعرف أحد مصدرها: حصان طائر عثر عليه في أقاصي منغوليا، وبقايا مركبة فضائية وجدت في بستان رجل هندي، ومقالة تحليلية طويلة تثبت بالدليل القاطع أن إسرائيل سوف تزول الأسبوع القادم. وكل هذه الرسائل مروّسة بعبارات من قبيل “هام جدا، اقرأ حتى النهاية”.

قبل أيام أردت أن أتخفف من أفكاري وهمومي بجلسة قراءة في مقهى على أطراف المدينة. تأبطت مذكرات جلال أمين رحمه الله وذهبت إلى مقهاي الأثير، ما إن جلست وجيء بالقهوة السوداء حتى أقبل رجل بالكاد يعرفني وأعرفه:

  • السلام عليكم
  • وعليكم السلام، تفضل
  • لا أريد أن أثقل عليك، أنا مستعجل أصلا ولكن سأجلس معك قليلا إن لم تكن منشغلا في شيء
  • لا بأس يا رجل حياك الله

ثم جلس ساعتين كاملتين كادت تخرج بهما روحي من صدري.

ومثل ذلك يقع لك في الطريق وفي السوق وحتى في الطائرة. ومن أغرب ما مرّ بي من سرّاق الوقت أن أحدهم ترجم كتابا من القطع الكبير بلغ عدد صفحاته 500 صفحة وطلب مني أن نجلس جلسة نراجع فيها الأصل الأجنبي ونعرضه على الترجمة لنتأكد من دقتها. ظننته يمزح بادئ الأمر ثم حين استوثقت من عزمه دللته على رجل ذلك عمله الذي يعتاش به وقلت له: إن أردت الاستعانة به سأوصيه بأن ينقص لك من الأجر.

تصدف صديقا لك في السوق قد طال انقطاعك عنه فتحب أن تقف وتسلم عليه وتسأله عن أحواله في وقت لا يتعدى دقيقة أو دقيقتين فلا أنت أهملت صاحبك ولا أنت عطلته عن شغله، أما أن يطول بكما الحديث فيسرق أحدكما من الآخر خمس دقائق فما فوقها فذلك من سوء التقدير وانعدام اللباقة وغياب المنطق.

وقد يأتيك صديق موسر فيطلب منك أن تساعده في عمل يحتاج وقتا طويلا، قد يكون الوقت والجهد الذي يتطلبه هذا العمل مساويا لما يحتاجه إنشاء رسالة دكتوراه ومناقشتها، فماذا تفعل؟ هل تقول له إن أمواله كفيلة باستئجار من ينجز له عمله؟ أم تجامله على حساب عمرك؟

هل يعي أولئك الناس أن الوقت هو العمر، هو حياتنا التي لا نملك غيرها.

أختم بقصة الدبلوماسي العربي المخضرم الذي قابلته في منتدى دبلوماسي بإحدى العواصم الغربية. كان هناك أمسية شعرية على هامش المنتدى يحييها شاعر عراقي شاب، وكنت متلهفا لسماع شعره. الوقت المجدول للأمسية ساعة واحدة إذ إنها تقع بين محاضرتين. ارتأى القيمون على المنتدى أن يقتطعوا من ساعة الأمسية دقائق قليلة يدعى فيها الدبلوماسي المخضرم لإلقاء إحدى قصائده تكريما لحضوره وإضفاء للهيبة والفخامة على أجواء الأمسية. فلما ارتقى صاحبنا المنبر بدأ بمقدمة عن عمله الدبلوماسي استغرقت ربع ساعة ثم أردفها بقصيدة بلغ عدد أبياتها ثمانين بيتا ألقاها في نصف ساعة إلقاء من لا يخفض الصوت ولا يخشى الفوت. فما نزل عن المنصة حتى كان كاد الشاعر العراقي المسكين يموت كمدا. سألت نفسي عندئذ: إذا كان المنطق لم يسعف الرجل، ثم فاته حسن التقدير، أفلم تسعفه تلك السنون الطويلة في العمل الدبلوماسي في أن يستشعر سآمة الناس؟ وأين خبرة العمر وتجارب السنين؟  تذكرتُ حينها مقولة الأديب السعودي الراحل غازي القصيبي رحمه الله: متى يفرق العرب بين الكلمة والخطاب والمحاضرة؟

أقوال ليست مأثورة

ثلاثة لا تجامل فيهم أحدا أبدا: دينك ووقتك ومزاجك، وخيرٌ لك أن يبغضك الناس من أن يسرقوا عمرك.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...