هذا الدم لن يذهب هباءً

بقلم: جعفر عباس

| 1 مايو, 2024

بقلم: جعفر عباس

| 1 مايو, 2024

هذا الدم لن يذهب هباءً

نعم، تجري الدماء أنهارا في غزة والضفة الغربية، وتتعرض الممتلكات الشخصية والمرافق العامة فيهما للدمار الشامل، ولكن ردة فعل الرأي العام العالمي إزاء كل ذلك جاءت مذهلة!

فبينما يعجز الجمهور العربي عن إبداء التعاطف الجماعي المكشوف مع أهل فلسطين، إما لأن أولياء الأمور باعوا القضية الفلسطينية، أو لأن الحراك الجماهيري محظور بأمر أولياء الأمور؛ نجد دولا عديدة في أوربا والقارة الأمريكية تنتفض رفضا للهجمات التترية الإسرائيلية على غزة.. وها هي الجماهير الأوربية والأمريكية تنادي بالصوت الجهور لتحرير فلسطين من قبضة الاستعمار الاستيطاني، وهذا أمر لم تنجح في تحقيقه منظمة التحرير الفلسطينية عبر تاريخها الطويل، عندما كان لها العديد من السفارات في كل القارات.

تشهد كبريات الجامعات الأمريكية حراكا طلابيا غير مسبوق، ليس فقط لاستنكار جرائم إبادة البشر بالقصف والتجويع  والحرمان من الإيواء والدواء في غزة، بل للمناداة بإنشاء دولة فلسطين الحرة المستقلة على أرض فلسطين التاريخية.. وانطلقت الشرارة التي أيقظت ضمائر شباب أمريكا من طلاب جامعة كولمبيا، الذين نظموا بدءا من 17 أبريل المنصرم اعتصاما في الحرم الجامعي للمناداة بوقف الحرب على غزة، ولرفض المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في القطاع، وامتثلت إدارة الجامعة لضغط اللوبي الصهيوني، وأتت بالشرطة التي اعتقلت العشرات من الطلاب المعتصمين، فإذا بالمئات من الطلاب يعتمرون الكوفية الفلسطينية وينضمون إلى الاعتصام.

ثم انتقلت الشرارة إلى جامعات ما يسمى برابطة اللبلاب، وهي الجامعات ذات التقييم الأكاديمي العالي، والتي يرتادها أبناء وبنات أعضاء الكونغرس والمليونيرات، مثل جامعات نيويورك وييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة نورث كارولينا وهارفارد؛ وطلاب هذه الجامعات يرفعون شعارات موحدة مثل “فلسطين حرة” و”لن نستريح ولن نتوقف، أوقفوا الاستثمارات واكشفوا عنها”.. والشعار الأخير هذا دعوة لسحب استثمارات الجامعات في المؤسسات والشركات الداعمة لإسرائيل، خاصة تلك العاملة في مجال تجارة الأسلحة؛ ويقول قادة الحراك الطلابي الأمريكي المناصر للحقوق الفلسطينية إن منطلقاتهم أخلاقية قبل أن تكون سياسية. وأكثر ما يزعج قادة الكيان الصهيوني هو أن روابط طلابية يهودية عديدة، أشهرها نادي “الصوت اليهودي من أجل السلام”، تشارك بحماس في الانتفاضات الطلابية الرافضة للهجمات البربرية التي تتعرض لها غزة.

استنجاد إدارة جامعة كولمبيا بالشرطة لفض الاعتصام الطلابي المؤيد لحق شعب فلسطين في الحياة وفي دولة ذات سيادة، عاد عليها بنتائج عكسية، لأن كثيرين من أساتذة هذه الجامعة انضموا إلى المعتصمين.. وفي جامعة جورجتاون، التي شهدت اعتصاما مؤازرا لفلسطين، شكل أعضاء هيئة التدريس ونقابة الموظفين رابطة للتضامن مع الطلاب رافعين شعار “العدالة لفلسطين”؛ وبعد اشتباكات عنيفة بين الشرطة وطلاب جامعات نيويورك ولوس أنجلس وأوستن تكساس، وارتفاع الأصوات مستنكرة أن تزعم الحكومة الأمريكية رعايتها وصيانتها لحق التعبير السلمي للمواطنين، ثم تمارس القمع تجاه من يمارسونه، بالصعق الكهربائي والرش برذاذ الفلفل، كما حدث في جامعة تكساس وفي جامعة أيموري في ولاية جورجيا. وقد أصدر حاكم ولاية تكساس مرسوما يقضي بأنه من حق الطلاب التعبير عن آرائهم.

ولأن الحراك الطلابي المناصر لفلسطين في الولايات المتحدة مؤشر على تحولات هائلة في اتجاهات الرأي العام الأمريكي، ما قد يسفر عن ضغوط شعبية تؤدي إلى غل يد الحكومة الأمريكية، التي ظلت ممدودة على الدوام لإسرائيل، تقدم لها السلاح والعتاد الحربي، فقد شهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سلاح “معاداة السامية” الصدئ، قائلا إن ما يحدث في الجامعات الأمريكية “يُذكِّر بما حدث في الجامعات الألمانية في الثلاثينيات من القرن الماضي إبان الحكم النازي”، مواصلا في ذلك محاولات الابتزاز العاطفي، الذي ظلت إسرائيل تتسول وتتوسل به العون الاقتصادي والعسكري من الولايات المتحدة.

قال نتنياهو في حسابه في منصة إكس (تويتر سابقا): “ما يحدث في الجامعات في الولايات المتحدة أمر صادم بكل بساطة.. لقد سيطر حشد من المعادين للسامية على جامعات رائدة، إنهم يدعون إلى تدمير دولة إسرائيل، ويهاجمون الطلاب والمحاضرين اليهود”.. ولم يفت الرجلَ أن يفتح النار على إدارات الجامعات التي لم تسعَ لفض اعتصامات طلابها، قائلا إن رد فعل بعض رؤساء الجامعات على الوضع كان مخزيا؛ وعملا بمبدأ “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”، أضاف نتنياهو: إسرائيل متهمة ظلمًا بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتجويع الجماعي.

كل هذا جزء من كذبة كبرى.. لقد رأينا عبر التاريخ أن الهجمات المعادية للسامية تكون مصحوبة دائمًا بشيطنة اليهود، ونشر فرية الدم المسفوح. وقد تولى الرد على هذه التخرصات، المرشح الرئاسي الأمريكي السابق بيرني ساندرز قائلا: لا يا سيد نتنياهو، القول إن حكومتك قتلت 34 ألفا في 6 أشهر ليس معاداة للسامية، ولا مناصرة لحركة حماس، والقول إنك دمرت بنية غزة التحتية ونظامها الصحي و221 ألف مسكن ليس عداء للسامية”.

وما يدركه نتنياهو وعشيرته هو أن مناصرة مئات الآلاف من الطلاب الأمريكيين للحقوق الفلسطينية، واشتعال المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة في مدن بريمن وبرلين وهامبورغ الألمانية، وفي هلسنبوري وأوبسالا ومالمو بالسويد، وفي لندن وجنيف وكوبنهاغن وغيرها، مؤشر على مولد جيل جديد من أبناء وبنات الدول الغربية، لا تنطلي عليه أكذوبة أرض الميعاد بأمر السماء، ومؤشر على أن كل هذا التعاطف الذي تحظى به غزة يجعل الدماء المُسالة فيها مهرا للحرية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

كثيرًا ما أمعنت النظر صغيرًا في لوحة زيتية كانت تزين صالون بيت جدي، تتوسطها صورة رجل طاعن في السن والتعب، يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء على جبينه ويمشي حافيًا في صحراء من الرفاق. وكبيرًا عرفت أنها لوحة "جبل المحامل" للفنان سليمان منصور، وهي ترمز إلى الشعب...

قراءة المزيد
ذلك يوم عزَّ فيه العرب

ذلك يوم عزَّ فيه العرب

" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات عن النبي الأكرم ﷺ مقولته، عندما ذُكرت أمامه معركة ذي قار التي قادها العرب في جاهليتهم ضد القوات الساسانية الفارسية، وكان النصر فيها من نصيب العرب. وكأن النبي الأعظم يشير- والله أعلم- إلى مفهوم السيادة والحرية لدى العرب،...

قراءة المزيد
Loading...