هذا ولدنا | الواسطة المدمرة والرقابة الغائبة

بواسطة | يوليو 23, 2023

بواسطة | يوليو 23, 2023

هذا ولدنا | الواسطة المدمرة والرقابة الغائبة

في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اتسعت الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية، وامتدت من فارس شرقا إلى مصر غربا، ما أدى إلى ازدياد الأعباء الإدارية، وتوسُّع النطاق الإداري وكذلك المهام الإدارية؛ فاستعان الخليفة بعدد من أصحابه، ومنهم الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري، وقد كان زاهدا ورعا تقيا عابدا، فلما التقىاه عمر قال له: ”يا أبا موسى، إني وليتك على البحرين”، فقال أبو موسى: “حيث شئت يا أمير المؤمنين”. فقال عمر لرجل بجانبه: “انظروا ما يملك أبو موسى من مال ومتاع واحصوه”، فتعجبَّ أبو موسى وقال: “يا أمير المؤمنين، أتستعملني وتُخوّنني؟!!”، فرد عليه عمر قائلا: “لو خوّنتك ما استعملتك، ولكن لا أُعين الشيطان عليك، فالآن أُحصي ما لديك من مال وأنظر لعملك، هل تجمع تجارة مع إمارة، إنّا بعثناكم عمالا لا تجارا”.
لا يستقيم أمر الدولة إن كانت التعيينات مبنية على قاعدة “هذا ولدنا” أو: ابن طائفتنا، ابن قبيلتنا، ابن بلدنا… ليكون هذا فوق المحاسبة وفوق السلطة وفوق الرقابة وفوق كل شيء!. إنما يستقيم أمر الدولة إن كانت وظيفة الرقابة فعالة، فتراقب أفعال الموظفين والوزراء والحكام والإدارات الحكومية، وتمنعهم من أن يستخدموا سلطتهم في تحقيق منافعهم الخاصة ويتجاهلوا المصلحة العامة، وتحاسبهم إن أخذوا شيئا من مال المواطنين بلا حق ودون سند قانوني؛ وبذلك فقط تكون للدولة حياة دائمة تحت راية العدل والمحاسبة.
فالإدارة الرشيدة والحكم الرشيد من أهم سبل الإصلاح الإداري في الدول، ولا تقوم الإدارة الرشيدة ولا يقوم الحكم الرشيد إلا بوجود رقابة حازمة دقيقة، ترد المخطئ إلى الصواب، وتؤاخذ المقصر وتثيب المجد، وتجعل آلية الثواب والعقاب وسيلة إدارية لتقويم السلوك لا وسيلة للتنفيع الخاص والمحسوبية والواسطة، ولا وسيلة للانتقام والشخصنة مع الآخرين؛ ولذلك کان موضوع الرقابة على ممارسات الأفراد والأجهزة الحكومية من أدق وأهم موضوعات الإدارة العامة المعاصرة والقانون الإداري في النظم الوضعية. وإذا کان هذا هو الحال بالنسبة للنظم الوضعية، فإن الرقابة على أعمال الإدارة والسلطة والدولة والوظائف الحكومية في النظام الإسلامي كانت سبقا وإنجازا معرفيا وحضاريا نتغنى به ونتفاخر؛ فبالرغم من أن عمال وموظفي الإدارة في الدولة الإسلامية “الأولى” كانوا -كما نظن- على درجة من التقوى والصلاح، فإن ذلك لم يمنع القائمين على الدولة من تفعيل مبدأ الرقابة الصارمة.
ويذكر الباحثون العرب في مجال الإدارة العامة أن الرقابة في المفهوم العربي الإسلامي لها أنواع عدة: منها الرقابة الربانية الذاتية، والرقابة الرئاسية، ورقابة الحسبة.
أما الرقابة الربانية الذاتية، فهي استشعار الموظفين لرقابة الله -عزَّ وجلَّ- لعباده ومخلوقاته، فالله -سبحانه وتعالى- رقيب على جميع الخلق، يعلم سرهم وعلانيتهم، ظاهرهم وباطنهم، وما تخفيه صدورهم من خير أو شر، فالموظف المسلم كلما زاد إيمانه برقابة الله سبحانه وتعالى- على ممارساته، استشعر مخافة الله في أعماله الإدارية والوظيفية والحكومية، وصار الضمير الحي فيها بأعلى درجات اليقظة واستشعار المسؤولية.
وأما الرقابة الرئاسية، فهي تأتي حسب التدرُّج الرئاسي الهرمي في الدولة أو الحكومة، وتتضح الرقابة الرئاسية في قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته.. ألا كلكم راع ومسؤول عن رعيته).
 وقد كان -عليه الصلاة والسلام-، وأصحابه من بعده، يراقبون ولاتهم وعمالهم وموظفي الدولة الكبار والصغار، رغم أن سمة الصلاح الداخلي غلبت على ذلك الجيل، إلا أن الإنسان مخلوق ضعيف وليس معصوما من الخطأ.
أما  الحسبة فقد أطلق عليها البعض اسم “الرقابة الشعبية أو المجتمعية”، وهي تعني: الأمر بالمعروف وصالح الأعمال التي تفيد المواطن والدولة، والنهي عن المنكر وسيئ الأعمال التي تضر الدولة والأفراد؛ وفي الإسلام نوعان من المحتسبين، فالأول هو المحتسب الرسمي، الذي تعينه الدولة الإسلامية للقيام بالمهام الموكلة إليه، والثاني هو  المحتسب المتطوع، فالشعب يجب أن لا يبقى صامتا متخاذلا أمام القصور الذي قد يبدو من الإدارات الحكومية، والذي يعطل مصالح البلاد والعباد؛ فقول كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجبٌ عقلي ومنطقي وديني في غياب المحتسب الرسمي لأي ظرف كان، وقد قال الله تعالى: ﴿ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ [سورة آل عمران: 104]، وقال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أَضعف الإيمان).
فالقصص الواردة في حضارتنا العربية والإسلامية عن تفعيل أدوات الرقابة الإدارية على أعمال السلطة ورجالها كثيرة، إلا أنه من الواجب علينا أن نحول تلك المواقف التاريخية إلى ممارسات حية وإطار تفعيلي، لكي نقدم أنموذجا حضاريا في تقويم أفعال الإدارات الحكومية، لما في التقويم والنقد البنّاء من خير للمواطن وللدولة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...