هل تبتلع الفوضى إسرائيل؟

بواسطة | سبتمبر 12, 2023

بواسطة | سبتمبر 12, 2023

هل تبتلع الفوضى إسرائيل؟

تبدأ المحكمة الإسرائيلية العليا الثلاثاء القادم النظر في الالتماسات التي قدمتها مؤسسات حقوقية كثيرة، ضد القانون الذي أقره الكنيست “البرلمان” مؤخرا، والذي يلغي الرقابة القضائية على قرارات الحكومة وتعييناتها. ويُعد هذا القانون أول تشريعات خطة “التعديلات القضائية”، التي طرحتها الحكومة بهدف إحكام سيطرتها على الجهاز القضائي والمسّ باستقلاليته إلى حد كبير.
حكومة نتنياهو، ومن منطلق الحرص على تقليص فرص إلغاء القانون من قبل المحكمة العليا، حرصت على منحه مكانة خاصة باعتبار أنه “قانون أساس”، يتم تمريره بأغلبية أصوات أعضاء الكنيست المطلقة؛ فعلى الرغم من أن المحكمة العليا سبق أن ألغت قوانين عادية سنها الكنيست بحجة أنه يشوبها عوار قانوني، فإنه لم يسبق لها إلغاء قانون أساس، لأن جملة القوانين الأساسية في إسرائيل تلعب الدور نفسه، الذي تلعبه الدساتير في الكيانات السياسية والدول الأخرى، وهذا منحها حصانة حتى الآن. وسيترتب على القرار الذي ستصدره المحكمة، سواء في الجلسة التي تعقدها الثلاثاء أو في الجلسات اللاحقة، تداعيات بالغة الخطورة على مستقبل إسرائيل وقدرتها على أداء مهامها ووظائفها ككيان سياسي، بكل ما تعنيه الكلمة.
يمكن أن تغرق إسرائيل في فوضى عارمة نتيجة الأزمة الدستورية، التي قد تتفجر في حال قبلت المحكمة العليا الالتماسات وألغت القانون الذي يضع حدا للرقابة القضائية على قرارات الحكومة؛ إذ إن إسرائيل عندها ستعلق في ورطة غير مسبوقة تنشأ عن اندلاع تنازع فج بين السلطات التي تشكل نظام الحكم، فالعديد من الوزراء أعلنوا أنها سيرفضون قرار المحكمة بإلغاء القانون، وأنهم سيتعاملون على أساس انتهاء الرقابة القضائية على القرارات التي تصدرها الحكومة، كما كان رئيس البرلمان الليكودي أمير أوحانا واضحا في تهديد المحكمة العليا عندما تعهد بعدم السماح بـ “الدوس” على الكنيست، على اعتبار أنه يمثل “الشعب الذي هو مصدر السيادة وليس الجهات غير المنتخبة”، في إشارة إلى المحكمة العليا.
هذا الواقع سيشل قدرة مؤسسات ومنظومات الحكم في إسرائيل على العمل، حيث إنها ستكون مطالبة إما بالخضوع لتعليمات الحكومة أو الالتزام بقرارات المحكمة العليا، وهذا سيمثل وصفة لإطباق الفوضى على هذا الكيان؛ وستكون تداعيات هذا الواقع كارثية على إسرائيل، لأن الأزمة الدستورية يمكن أن تعطل عمل المؤسسات الحيوية التي تضمن بقاء إسرائيل، مثل الجيش، الأجهزة الاستخبارية، الوزارات، المؤسسات الحكومية، القطاعات الخدماتية وغيرها.
ومما يفاقم الأمور خطورةً، حقيقة أن إسرائيل ليست كيانا عاديا، بل يعيش في حالة هلع أمني دائم بفعل ما يعتبره مخاطر وجودية على بقائه، ما يفاقم تأثير تداعيات الأزمة الدستورية. فعلى سبيل المثال، سيسرِّع النزاع بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، من تفكك الجيش والأجهزة الأمنية؛ فلئن كان آلاف الضباط والجنود في قوات الاحتياط قد أعلنوا حتى الآن رفضهم أداء الخدمة العسكرية احتجاجا على التعديلات القضائية، فإن الصراع غير المسبوق بين السلطات سيوسع ظاهرة رفض الخدمة العسكرية، سيما في أوساط الضباط والجنود الذين يخدمون في الأذرع والأسلحة الحيوية، وخاصة سلاح الجو، الذي يعد القوة الضاربة لإسرائيل، و”لواء المهام الخاصة”، الذي يضم وحدات النخبة التي تعمل خلف خطوط “العدو”، والوحدات الاستخبارية، وتحديدا تلك المسؤولة عن إدارة الجهد الحربي السيبراني، سواء على الصعيد الهجومي أو الدفاعي. وفي مرحلة لاحقة يُتوقع على نطاق واسع أن تمتد ظاهرة رفض الخدمة العسكرية إلى القوات النظامية والدائمة، ما قد يمهد لمرحلة تعجز إسرائيل فيها عن أداء مناشطها الحربية الحيوية، وتحديدا في ظل التقديرات التي تصدرها الأجهزة الاستخبارية في تل أبيب، والتي تشير إلى تعاظم التهديدات الإستراتيجية التي باتت تتربص بالكيان الصهيوني.
ويمكن أن يفضي السيناريو السابق إلى حدوث تمرد داخل الأذرع العسكرية والمؤسسات المدنية على حد سواء؛ فإنه قد يكون متوقعا على نطاق واسع أن يعلن قادة الجيش والشرطة والاستخبارات التزامهم بالقرارات الصادرة عن المحكمة العليا، لكن من غير المستبعد في الوقت نفسه أن تعلن مستويات قيادية متوسطة ذات توجهات يمينية في المؤسستين العسكرية والأمنية، عن ولائها للحكومة والتزامها بتعليماتها. وفي الوقت ذاته، فإن حالة الفوضى يمكن أن تنتقل إلى الوزارات والمؤسسات الحكومية الخدماتية، حيث من المتوقع أن ترفض قطاعات بيروقراطية كثيرة في هذه الوزارات والمؤسسات الإذعان إلى تعليمات الحكومة إذا تعارضت مع قرارات المحكمة العليا.
في المقابل، وفي حال حدث العكس، فرفضت المحكمة العليا الالتماسات وأبقت على القانون الذي يلغي الرقابة القضائية على قرارات الحكومة، وإن كان هذا احتمالا ضعيفا، فإن ذلك سيفضي إلى تداعيات مماثلة لأنه سيؤجج حركة الاحتجاج الجماهيري ضد التعديلات القضائية، ويجعل القائمين عليها أكثر تصميما على إحباطها.
إن مفتش عام شرطة الاحتلال كوبي شفتاي كان قد أعلن أن حوالي 4.7 مليون إسرائيلي شاركوا في حركة الاحتجاج على التعديلات القضائية، وهو ما يفوق نصف عدد سكان إسرائيل، وعلى هذا فإن تسليم المحكمة العليا بالقانون الذي سيلغي الرقابة القانونية على قرارات الحكومة، سيشعل حركة الاحتجاج وينقلها إلى مربعات متقدمة؛ فقادة حركة الاحتجاج سيدركون حينها أن عدم الغاء المحكمة العليا القانون الذي ينهي الرقابة القانونية على قرارات الحكومة سيدفع نتنياهو ووزراءه إلى مواصلة تمرير بقية التشريعات الواردة في خطة “التعديلات القضائية”، وضمنها التشريع المتعلق بتشكيل اللجنة المكلفة باختيار القضاة، وهو التشريع الذي سيمنح الحكومة الأغلبية في هذه اللجنة بحيث تتمكن من تعيين القضاة المتوافقين مع خطها الأيديولوجي.
لكن ما تقدم لا يمثل عزاء للشعب الفلسطيني، الذي سيدفع ثمنا باهظا، سواء في حال أقرت المحكمة العليا القانون أو في حال سارعت إلى إلغائه. فإبقاء المحكمة العليا الإسرائيلية على القانون الذي يلغي الرقابة القضائية على قراراتها سيمنح حكومة نتنياهو، الواقعة تحت تأثير قوى اليمين الديني المتطرف المشاركة فيها، الفرصة لتطبيق برنامجها الهادف إلى حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني في ظل غياب أي قدر من الممانعة القانونية؛ وإضفاء المحكمة العليا شرعية على هذا القانون سيعني توسُّع إسرائيل في تطبيق سياسة تدمير المنازل ومصادرة الأراضي وتنفيذ عمليات الاغتيال والاعتقال بهدف تهجير الفلسطينيين عن أرضهم. وبالمقابل، في حال ألغت المحكمة القانون، فإن هذا قد يدفع حكومة نتنياهو إلى تحدي المحكمة وإصدار القرارات الجائرة بشأن الشعب الفلسطيني، وضمن ذلك قرارات ضد المسجد الأقصى؛ حيث يتوقع أن تتعاون بعض القطاعات البيروقراطية المهنية ذات التوجهات اليمينية داخل الجيش والمؤسسات الأمنية والمدنية مع الحكومة في تنفيذ هذه القرارات.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...