هل تجدر بالتوثيق؟ | ربما!
بقلم: جعفر عباس
| 26 يوليو, 2023
مقالات مشابهة
-
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع...
-
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها...
-
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر...
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
مقالات منوعة
بقلم: جعفر عباس
| 26 يوليو, 2023
هل تجدر بالتوثيق؟ | ربما!
أحسب أن لي تجربة ذات خصوصية مع اللغة العربية، ليس بمعنى أنني قمت بتطويعها حتى صرت ممسكا بقرونها، ولكن لأن اللغة العربية هي التي قامت بتطويعي، وأثرت وغيّرت في مسار حياتي الأكاديمية والمهنية.
فلغتي الأم هي اللغة النوبية، التي تحدث بها أسلافي لآلاف السنين، وما زلتُ أجيدها وأتكلم بها، كما الملايين في شمال السودان وجنوب مصر؛ ومع غياب قواسم مشتركة بين العربية والنوبية وجدت نفسي، طفلا ثم صبيا، في مواجهة مصاعب جمة للإلمام بمجرد أبجديات العربية، في وطن تُعتبَر العربية فيه اللغة الرسمية في مجالي التدريس والعمل العام.
وما من شيء يثبت عظم الفوارق بين العربية والنوبية، كما هو البون بين حروفهما وأصواتهما، فلا وجود في اللغة النوبية للحروف (الأصوات): ث، ح، خ، ذ، ز، ص، ض، ط، ظ، ع، غ. والقاف في النوبية يمنية، أي غير مقلقلة، وهناك حروف وأصوات في اللغة النوبية لا مكان لها في العربية، وبعض أهلي إلى يومنا هذا ينادونني “جافر أبَّاس”، ليحل المد بالألف محل حرف العين في اسمي واسم والدي؛ وشيوع قلب الغين قافا -والعكس- في السودان بعض من تأثير اللسان النوبي، الذي كان سائدا حتى منطقة الخرطوم الحالية إلى ما قبل نحو 600 سنة، كما أن النوبية لا تعرف التثنية ولا تعرف التذكير والتأنيث.
ولأن عجمة اللسان جعلتنا -نحن النوبيين- موضع سخرية أقراننا الناطقين بالعربية في المدارس، وعرضة للضرب المبرح عندما يطلب أحدنا من المدرس في براءة: “ممكن يا أستاذ (أستاذ) تشرهي (تشرح لي) الدرس مرة تاني (ثانية)؟”؛ فقد وجدت نفسي منجذبا إلى اللغة الإنجليزية، حيث- كما الحال في النوبية- لا تذكير ولا تأنيث ولا مثنى، كما أن منهج اللغة الإنجليزية لم يكن فيه ذكر للقواعد النحوية “غرامر”، بل كنا نستنبط قواعدها من تراكيب الجمل في نصوص القراءة، دون أن يكون لأي قاعدة اسم خاص.
وبما أن قواعد النحو العربي، من حال وتمييز وإعلال وإبدال وغير ذلك، جعلت بيني وبين اللغة سَدّا، فقد قررت تجاهلها بنصيحة من معلم ما زلت أحفظ جمائله، قال لي: “اقرأ كثيرا بالعربية، وستأتيك معظم القواعد طائعة، حتى وأنت لا تدري بقدومها”؛ وكان الرجل معلما للغة الإنجليزية، وقد استوقفه شغفي بها ونفوري من العربية، وقال لي ما معناه: عيب أن تكون راغبا في الرطانة بلسان غريب، وتتعثر في التحدث والكتابة بلسان بني وطنك؛ ثم أهداني ديوانَي “الخمائل” و”الجداول” للشاعر إيليا أبو ماضي، وحدثني عنه قليلا، فعرفت أنه لبناني كل حظه من التعليم المرحلة الابتدائية، وعاش معظم سنوات عمره في الولايات المتحدة، حيث أجاد الإنجليزية كأبنائها، ولكنه لم يجد سوى العربية أداة للتعبير عن كوامن أحاسيسه، فكتب به أعذب الشعر وفاز بلقب “أمير شعراء المهجر”.
حفظت معظم ما جاء في ديوانَي “أبو ماضي” عن ظهر قلب، ثم وجدت نفسي منجذبا إلى أبي الطيب المتنبي، ومنه إلى البحتري وأبي تمام وغيرهم، وانعكس عشقي للشعر العربي على أدائي في كتابة موضوعات التعبير، حيث أكثرت من الاستشهاد بالشعر، أو جاء في التعابير التي استخدمتها بعض روح الشعر. وببلوغ منتصف المرحلة الجامعية كنت قد قرأت -تقريبا- جميع كلاسيكيات الرواية الإنجليزية، وقررت وضع الإنجليزية وآدابها على الرف، وطفقت أقرأ كل ما هو رائج من الروايات العربية، وبهذا اكتمل التطبيع الجزئي بيني وبين اللغة العربية، ولكنني كنت “ألحن” كثيرا عند التحدث بالفصحى؛ ولهذا لم أجد بدّا من دراسة أساسيات قواعد النحو، ووجدت في كتاب “النحو الواضح” لعلي الجارم بعض ما أنشده من دروس، ثم قررت حكومة المارشال جعفر نميري، وفي ذات العام، وضعي في السجن بوصفي معارضا لها، رغم أنني لا أذكر أنني عارضتها بشيء سوى الثرثرة في مجالس الأنس، وأمضيت شهورا عددا في زنزانة، ليس لأنني معارض عظيم الشأن، ولكن لأن أقسام السجن الأخرى كانت تنوء بمن فيها من سجناء سياسيين، ثم خلا قسم الزنازين من معظم نزلائه وبقي معي قبطان سفينة مصري مسيحي، وجدوا في سفينته سبائك ذهب واتهموه بتمويل المعارضة، وحسب طلبنا أتوه بإنجيل وأتوني بمصحف، فعكفت على قراءة سُوَره بتركيز وبطء شديدين، واكتشفت أنني أفهم معنى ودلالات معظم ما أقرأ دون حاجة إلى الشروح في الهوامش، ودون الاستعانة بقاموس، وأدركت أنه سبق لي قراءة معظم تلك السور، ولكن على عجل ودون تبصُّر وتأنٍ، وأدركت معنى “إن من البيان لسحرا” التي يرجّح معظم العلماء أن الرسول الكريم قالها في معرض مدح بعض ألوان الفصاحة.
أقول مجددا، إن قيمة تجربتي مع اللغة العربية ليست في أنني صرت ضليعا فيها بأي قدر أو معيار، فما زلت أكابد وأجاهد كي أتقنها أكثر؛ بل قيمتها في أنها تُفحم من وُلدوا ناطقين بها، ويتعللون بصعوبة إتقانها، ولا يرون بأسا في إشباع معمارها هدما وتشويها. وقد ذكرت في مقال لي هنا في “مدونة العرب” قبل أربعة أسابيع، وجود إجماع عالمي على أن اللغة الصينية هي “أصعب” لغات العالم، فعدد حروفها غير متفق عليه، ويتراوح ما بين 3000 وأكثر من 4000 حرف، ومع هذا صاغ بها أهلها جميل الأدب من شعر ونثر وحكمة!.
وكما أنه “لا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا الصبابة إلا من يعانيها”، فإنه لن يعرف جمال وبهاء اللغة العربية إلا من يعشقها ويتآنس بها ومعها، وقد صدق شاعر العرب الكبير أحمد شوقي في قوله:
إن الذي ملأ اللغات محاسنًا .. جعل الجمال وسره في الضاد.
وأبدع المستشرق الفرنسي إرنست رينان حين قال: اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة أو شيخوخة!.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...
0 تعليق