هل تجدر بالتوثيق؟ | ربما!

بواسطة | يوليو 26, 2023

بواسطة | يوليو 26, 2023

هل تجدر بالتوثيق؟ | ربما!

أحسب أن لي تجربة ذات خصوصية مع اللغة العربية، ليس بمعنى أنني قمت بتطويعها حتى صرت ممسكا بقرونها، ولكن لأن اللغة العربية هي التي قامت بتطويعي، وأثرت وغيّرت في مسار حياتي الأكاديمية والمهنية.
فلغتي الأم هي اللغة النوبية، التي تحدث بها أسلافي لآلاف السنين، وما زلتُ أجيدها وأتكلم بها، كما الملايين في شمال السودان وجنوب مصر؛ ومع غياب قواسم مشتركة بين العربية والنوبية وجدت نفسي، طفلا ثم صبيا، في مواجهة مصاعب جمة للإلمام بمجرد أبجديات العربية، في وطن تُعتبَر العربية فيه اللغة الرسمية في مجالي التدريس والعمل العام.
وما من شيء يثبت عظم الفوارق بين العربية والنوبية، كما هو البون بين حروفهما وأصواتهما، فلا وجود في اللغة النوبية للحروف (الأصوات): ث، ح، خ، ذ، ز، ص، ض، ط، ظ، ع، غ. والقاف في النوبية يمنية، أي غير مقلقلة، وهناك حروف وأصوات في اللغة النوبية لا مكان لها في العربية، وبعض أهلي إلى يومنا هذا ينادونني “جافر أبَّاس”، ليحل المد بالألف محل حرف العين في اسمي واسم والدي؛ وشيوع قلب الغين قافا -والعكس- في السودان بعض من تأثير اللسان النوبي، الذي كان سائدا حتى منطقة الخرطوم الحالية إلى ما قبل نحو 600 سنة، كما أن النوبية لا تعرف التثنية ولا تعرف التذكير والتأنيث.
ولأن عجمة اللسان جعلتنا -نحن النوبيين- موضع سخرية أقراننا الناطقين بالعربية في المدارس، وعرضة للضرب المبرح عندما يطلب أحدنا من المدرس في براءة: “ممكن يا أستاذ (أستاذ) تشرهي (تشرح لي) الدرس مرة تاني (ثانية)؟”؛ فقد وجدت نفسي منجذبا إلى اللغة الإنجليزية، حيث- كما الحال في النوبية- لا تذكير ولا تأنيث ولا مثنى، كما أن منهج اللغة الإنجليزية لم يكن فيه ذكر للقواعد النحوية “غرامر”، بل كنا نستنبط قواعدها من تراكيب الجمل في نصوص القراءة، دون أن يكون لأي قاعدة اسم خاص.
وبما أن قواعد النحو العربي، من حال وتمييز وإعلال وإبدال وغير ذلك، جعلت بيني وبين اللغة سَدّا، فقد قررت تجاهلها بنصيحة من معلم ما زلت أحفظ جمائله، قال لي: “اقرأ كثيرا بالعربية، وستأتيك معظم القواعد طائعة، حتى وأنت لا تدري بقدومها”؛ وكان الرجل معلما للغة الإنجليزية، وقد استوقفه شغفي بها ونفوري من العربية، وقال لي ما معناه: عيب أن تكون راغبا في الرطانة بلسان غريب، وتتعثر في التحدث والكتابة بلسان بني وطنك؛ ثم أهداني ديوانَي “الخمائل” و”الجداول” للشاعر إيليا أبو ماضي، وحدثني عنه قليلا، فعرفت أنه لبناني كل حظه من التعليم المرحلة الابتدائية، وعاش معظم سنوات عمره في الولايات المتحدة، حيث أجاد الإنجليزية كأبنائها، ولكنه لم يجد سوى العربية أداة للتعبير عن كوامن أحاسيسه، فكتب به أعذب الشعر وفاز بلقب “أمير شعراء المهجر”.
حفظت معظم ما جاء في ديوانَي “أبو ماضي” عن ظهر قلب، ثم وجدت نفسي منجذبا إلى أبي الطيب المتنبي، ومنه إلى البحتري وأبي تمام وغيرهم، وانعكس عشقي للشعر العربي على أدائي في كتابة موضوعات التعبير، حيث أكثرت من الاستشهاد بالشعر، أو جاء في التعابير التي استخدمتها بعض روح الشعر. وببلوغ منتصف المرحلة الجامعية كنت قد قرأت -تقريبا- جميع كلاسيكيات الرواية الإنجليزية، وقررت وضع الإنجليزية وآدابها على الرف، وطفقت أقرأ كل ما هو رائج من الروايات العربية، وبهذا اكتمل التطبيع الجزئي بيني وبين اللغة العربية، ولكنني كنت “ألحن” كثيرا عند التحدث بالفصحى؛ ولهذا لم أجد بدّا من دراسة أساسيات قواعد النحو، ووجدت في كتاب “النحو الواضح” لعلي الجارم بعض ما أنشده من دروس، ثم قررت حكومة المارشال جعفر نميري، وفي ذات العام، وضعي في السجن بوصفي معارضا لها، رغم أنني لا أذكر أنني عارضتها بشيء سوى الثرثرة في مجالس الأنس، وأمضيت شهورا عددا في زنزانة، ليس لأنني معارض عظيم الشأن، ولكن لأن أقسام السجن الأخرى كانت تنوء بمن فيها من سجناء سياسيين، ثم خلا قسم الزنازين من معظم نزلائه وبقي معي قبطان سفينة مصري مسيحي، وجدوا في سفينته سبائك ذهب واتهموه بتمويل المعارضة، وحسب طلبنا أتوه بإنجيل وأتوني بمصحف، فعكفت على قراءة سُوَره بتركيز وبطء شديدين، واكتشفت أنني أفهم معنى ودلالات معظم ما أقرأ دون حاجة إلى الشروح في الهوامش، ودون الاستعانة بقاموس، وأدركت أنه سبق لي قراءة معظم تلك السور، ولكن على عجل ودون تبصُّر وتأنٍ، وأدركت معنى “إن من البيان لسحرا” التي يرجّح معظم العلماء أن الرسول الكريم قالها في معرض مدح بعض ألوان الفصاحة.
أقول مجددا، إن قيمة تجربتي مع اللغة العربية ليست في أنني صرت ضليعا فيها بأي قدر أو معيار، فما زلت أكابد وأجاهد كي أتقنها أكثر؛ بل قيمتها في أنها تُفحم من وُلدوا ناطقين بها، ويتعللون بصعوبة إتقانها، ولا يرون بأسا في إشباع معمارها هدما وتشويها. وقد ذكرت في مقال لي هنا في “مدونة العرب” قبل أربعة أسابيع، وجود إجماع عالمي على أن اللغة الصينية هي “أصعب” لغات العالم، فعدد حروفها غير متفق عليه، ويتراوح ما بين 3000 وأكثر من 4000 حرف، ومع هذا صاغ بها أهلها جميل الأدب من شعر ونثر وحكمة!.
وكما أنه “لا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا الصبابة إلا من يعانيها”، فإنه لن يعرف جمال وبهاء اللغة العربية إلا من يعشقها ويتآنس بها ومعها، وقد صدق شاعر العرب الكبير أحمد شوقي في قوله:
إن الذي ملأ اللغات محاسنًا .. جعل الجمال وسره في الضاد.
وأبدع المستشرق الفرنسي إرنست رينان حين قال: اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة أو شيخوخة!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...