هل تفقد الكرة الأوروبية مركزيتها العالمية؟

بواسطة | يوليو 31, 2023

بواسطة | يوليو 31, 2023

هل تفقد الكرة الأوروبية مركزيتها العالمية؟

في بدايات انتشار كرة القدم، والحديث عن الفترة بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن كرة القدم الأوروبية مهيمنة عالميا، ولم تكن هي مركز اللعبة، وكان لها منافسون كثر في البرازيل والأورجواي والأرجنتين، وكان اهتمام الناس باللعبة ذا طابع محلي واضح؛ لكن مع تعافي أوروبا من آثار تلك الحرب المدمرة، وبداية اهتمامها بالجانب الكروي، زادت الأموال فيها تدريجيا، وصارت أوربا كلما تحسنت فيها القوانين التي تسهل عمل الأجانب وتقدمت التكنولوجيا، تحقق تقدما أكبر في انتشار كرتها في العالم.
ترسخت فكرة التفوق الكروي الأوروبي في أذهان الجميع، فليس هناك لاعب كرة قدم واحد لا يفكر بالذهاب هناك لو سنحت الفرصة، وزاد من قوة هذا الاعتقاد المقابل المالي الأفضل الذي يحصده اللاعب، والاختبار الحقيقي لقدراته، فلا يمكن اعتبار نجم ما “سوبر ستار” حاليا، إن لم نشاهده يلعب في الدوريات الأوروبية الكبرى، وينافس باستمرار من أجل دوري أبطال أوروبا.
لكن صيف 2023 – 2024 جعل بعض المتابعين يشعر، بل ربما يصرّح، أن التفوق الأوروبي المطلق ربما يتعرض لاهتزاز ما، وأن الدوريات الكبرى المعروفة باسم “توب 5” قد لا تبقى أوروبية للأبد؛ فهناك طموح سعودي رهيب، مدعوم برؤية 2030 وسيولة كبيرة، وتخطيط أمريكي مستمر مدعوم بفكرة استضافة كأس العالم، ورغبة بدمج المهاجرين الجدد بالمجتمع الأمريكي، فهؤلاء لا يعرفون “كرة القدم الأمريكية” ولا “البيسبول”، وهناك استمرار حراك تركي، ومحاولات مكسيكية لإبقاء كرتهم جاذبة محليا.

أنفق 100 نادٍ في أوروبا على شراء اللاعبين “شراء – بيع” في آخر 5 مواسم ما بين 2018 و2023، ما يقارب 7.1 مليار يورو، بمتوسط 1.4 مليار يورو للموسم

في فيلم “Real Steel” الصادر عام 2011، يتحدث طفل مع والده الذي كان ملاكما محترفا، ويسأله: “لماذا ترك الناس مشاهدة الملاكمة التقليدية، واتجهوا لمشاهدة ملاكمة الروبوتات؟”. فأجاب الوالد، الذي يؤدي دوره هيو جاكمان: “لأن الأموال كانت في ملاكمة الروبوتات، وحيثما يكون المال، سيكون الجمهور”. وجواب الوالد في ذلك الفيلم، يعني أن وجود المال يعني وجود التجربة الجماهيرية الأفضل، ويعني وجود جودة اللعب الأفضل، والاهتمام الإعلامي الأكبر الباحث عن حصة من هذه الأموال، والحملات التسويقية الأكبر؛ ما ينتج عنه في نهاية الأمر اندماج الجماهير مع المجتمع الجديد، ولو كان ملاكمة بين روبوتات، لأن الناس تبحث أساسا عن الترفيه والتسلية، بغض النظر عن المكان الذي يحصلون فيه على ذلك.
في كرة القدم، الحالة مختلفة وأكثر تعقيدا قليلا، فالمال بالتأكيد هو الدافع الأكبر، لكن هناك عناصر أخرى لا بد أن تتوفر لنتحدث فعلا عن فقدان أوروبا لمركزيتها المطلقة الحالية، التي تجعل بطلا للدوري في البرازيل أو هدَّافا في الأورجواي، يوافق على تمثيل فرق متوسطة أو صغيرة في القارة العجوز، من باب تسويق نفسه واختبار قدراته.
لنبدأ بالكلام عن المال، فقد أنفق 100 نادٍ في أوروبا على شراء اللاعبين “شراء – بيع” في آخر 5 مواسم ما بين 2018 و2023، ما يقارب 7.1 مليار يورو، بمتوسط 1.4 مليار يورو للموسم، ولأن 100 ناد يشكلون 5 بطولات بشكل عام، فمتوسط إنفاق الدوري الواحد ضمن الدوريات الكبرى في أوروبا سيكون 280 مليون يورو سنويا للدوري الواحد، في حين أن السعودية حتى لحظة كتابة المقال كان استثمارها هذا الموسم في شراء اللاعبين 300 مليون يورو، وهو رقم تستطيع السعودية استدامته، أي أنها من هذه الناحية تلبي المطلوب.
لكن المشكلة تتضح لنا عندما نعرف أن مجموع دخول أعلى 30 ناديا في أوروبا -حسب ديلويت- يقارب 11 مليار يورو سنويا، وهذه العوائد دون تدخل حكومي، بل هي عوائد البث والمباريات والمبيعات المتنوعة والجولات الدولية، وبهذا يصبح هناك تحدٍ حقيقي أمام دولة واحدة لهز مركزية أوروبا الكروية، لأن هذا الرقم يعادل 1.5% من الناتج القومي السعودي، على سبيل المثال، والسبب في هذا التحدي هو تعامل أوروبا مع كرتها بشكل جماعي لا فردي، فقيمة لاعبيها وشهرتهم ترتفع بسبب دوري أبطال أوروبا، وتسهيل حركة اللاعبين بين أبناء القارة، وشعبية الأندية هناك تعتمد على المواجهة بينها، بعضها مع بعض.
واستدامة المنافسة المالية مع الكرة الأوروبية، يحتاج إلى نهضة جماعية، واتفاق بين الجميع على أنه حان وقت الاستثمار في كرة القدم باعتبارها رياضة اقتصادية، وليست نشاطا اجتماعيا فحسب؛ وهذا الموضوع لا يبدو أنه حاصل في منطقتنا حتى الآن؛ كما أنه ليس في أمريكا على المدى القصير، ولا في شرق آسيا الثري أيضا، اتفاق جماعي على خلق كيان كروي إقليمي قوي اقتصاديا.

لا يمكن هز مركزية الكرة الأوروبية عبر دولة واحدة، فالنظام الأوروبي الكروي قائم على المال، لكنه متشعب الركائز التي تجعله أقوى

أمر آخر يجعلنا نقول إن مركزية الكرة الأوروبية مستمرة لسنوات، يتعلق بإنتاج اللاعبين؛ ففرنسا على سبيل المثال تفوقت على البرازيل من حيث تصدير لاعبيها للدوريات الأوروبية الكبرى “غير الفرنسية”، كما تساهم إسبانيا وبلجيكا وكرواتيا وهولندا والبرتغال وصربيا برفد الدوريات الكبرى بعدد كبير سنويا من المواهب الصاعدة، ما يعني تجديدا مستمرا للدماء، وخلق قيمة اقتصادية مستمرة. ويجب الانتباه إلى أن تنشئة موهبة يعني رأس مال جديد، يتم بيعه ونقله، ما يصنع تدفقا ماليا مهما لتعزيز اقتصاد البطولات هناك.
فالأكاديميات، وما تعنيه من تنشئة اللاعبين، ليست نشاطا رياضيا في أوروبا كما يعتقد البعض، بل هي مصانع مثل مصانع السيارات، إذ يتم إنشاء لاعبين بتكلفة منخفضة، ثم إرسالهم للسوق لتصل قيمة بعضهم إلى أكثر من 100 مليون يورو، وهنا يتأخر العالم كثيرا عن أوروبا في غزارة إنتاجها، ولعل أمريكا وكندا هما الأكثر دراية بكيفية تدارك هذا الخلل، بما أن لديهم تاريخا ناجحا في هذا المجال عبر رياضات أخرى.
إيجازا لما سبق، لا يمكن هز مركزية الكرة الأوروبية عبر دولة واحدة، فالنظام الأوروبي الكروي قائم على المال، لكنه متشعب الركائز التي تجعله أقوى، وتشمل تلك الركائز شبكة تجهيز اللاعبين، وتشريعات تسهيل حركة المواهب واللعب عبر القارة، إضافة إلى بطولات عريقة ومصادر دخل عديدة. ولبناء كيان مشابه لا بد من مشروع إقليمي كامل، ينافس في كافة المجالات التي أسلفت ذكرها، وعندها قد نتحدث عن احتمال دخول منطقة على الخط الأوروبي لخطف جزء من الكعكة المالية الكبيرة.
لكن هذا لا يعني توقف العمل، فالسعودية مثلا لديها فرصة حقيقية بأن تجعل مساهمة دوريها في اقتصادها الوطني أكبر، كما أنها تخلق بطولة ذات اهتمام عربي على الأقل، وهذا من شأنه رفع قيم البث التلفزيوني، وقد يشجع على السياحة إلى البلاد، كما أنه يعجل من الخصخصة الكروية هناك.
وهناك معادلة أخرى أود أن أختم بها المقال، تتعلق بحصة الإنفاق على كرة القدم؛ فصحيح أنني أستبعد التفوق الكامل على الكرة الأوروبية لسنوات طويلة، لكن إن كان المواطن لدينا يعشق كرة القدم، ويدفع مثلا 50 دولارا عليها، وكانت نسبة إنفاقه على الكرة الأوروبية 90%، فمن الجيد أن نحاول جعله ينفق 80% على الكرة الأوروبية في الفترة الأولى، لينفق الباقي على كرته المحلية من خلال تطوير المنتج المقدم له، ثم 70% مع مواصلة التطور، وهكذا دواليك؛ وهذا الهدف هو ما تحاول دول مثل السعودية وأمريكا والمكسيك وتركيا فعله هذه الأيام.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...