هنا بغداد!

بقلم: سامي كمال الدين

| 3 يونيو, 2023

بقلم: سامي كمال الدين

| 3 يونيو, 2023

هنا بغداد!

من منفى إلى منفى تُدحرِج الأيام الشاعر كريم العراقي، كما أغلب شعراء بغداد.. ويحي عليهم!.
فأحمد الصافي النجفي، شاعر العراق الكبير وأحد الثوار الذين جاهدوا لتحرير وطنهم من الاستعمار، عاش منفيا وكانت أمنية حياته أن يرى بغداد؛ فعاد إليها بعد 46 عاما قضاها في المنفى، وهو أعمى.. رأته ولم يرها، فأنشد فيها:
يا عودة للدار ما أقساها .. أسـمع بغـداد ولا أراهـا
وهو الذي أنشد فيها قبل رحيله منها:
إن البلاد لكالحسان تفاوتت .. حُسـنا وإن عـروسها بغداد
فيها الليالي كالنهار نضارة .. وكـأنـمـا  أيّـامـهـا  أعــيـاد
أما سعدي يوسف فقد التقيته في دولة قطر ذات عام، فوجدته يحمل بغداد ويعلقها على صدره، قلت له: خريطة بغداد فى سلسلة؟!.
أجابني: إنها الوطن المحاصر بأكثر من سلسلة، وقد حملتها على صدري وسكنت معها لندن، ولن أعود إليها مرة أخرى.
كذلك مظفر النواب، الذي التقيته على مقهاه فى دمشق يبكي الأيام الخوالي. وهكذا البقية الباقية تعيش مشردة فى المنافي، كما الذين رحلوا. فلميعة عباس عمارة، وهي من رائدات الشعر الحديث وقد رحلت منذ عامين، عاشت في المنافي أيضا، وكذلك أحمد مطر.
ما يزال كريم العراقي يحمل بغداد فى قلبه رغم كثرة منافيه، وقد جاءتني هذه المنافي مسجلة على الورق عبر ديوانه “هنا بغداد”. رحت أعبث فى أوراق الديوان، ثم تركته على مكتبى عدة أيام، أنظر إليه بين الفنية والفنية، لا أحاول الاقتراب منه، أخشاه!. نعم، أخشى أن تجتاحني الأوراق الباكية المشردة، أخاف أن أستمع إلى قصة بغداد الضائعة فلا أنام.
سامحك الله يا كريم، فقد جافاني النوم وأنا أنتقل من قصيدة إلى أخرى ومن ألم إلى ألم
“عيناها بيتى وسريري ..  ووسادة رأسي أَضلُعها
 تمحو كلَّ هموم حياتى ..  لو مس جبينى إصبعُها
ضمينى يا أحلى امرأة .. لو صمتت قلبى يسمعُها
بغداد .. وهل خلق الله مِثْلَكِ فى الدنيا أجمعها” 
يهدي كريم ديوانه إلى أبنائه، ضفاف ومرسي وحبيبة وعلي، “الذين لم تستطع السويد ولا لندن قطع جذورهم العراقية “. والسويد هى المنفى الاختياري الأخير للشاعر الذى ولد بالشاكرية فى بغداد، وعمل فيها (صبي قهوجي)، قبل أن يصير قاصا وشاعرا شهيرا.
غنى له كاظم الساهر حوالى 86 أغنية، مثل “ها حبيبي”، و”كثر الحديث”، و”أطفال العراق”، و”آه يا عرب”، و”قصة حبيبين”، و”كان صديقى”، و” أقول الآه “،و.. “تذكر كلما صليت ليلا.. ملايينا تلوكُ الصخر خبزا”؛ وتغنى بأشعاره أغلب المطربين. كما أن لكريم العراقى مجموعته القصصية المتميزة “حكايات بغدادية”، وفيها يتعانق السرد مع الواقع والخيال، في عقد يزين صدر العراق.
يكتب العراقي القصيدة الفصحى أيضا، وقد كنت أول صحفي يتعرف إليه كريم فى مصر، حين جاء إليها وكاظم الساهر فى أواخر التسعينيات، وكانا ممنوعين من دخول مصر، وعندما دخلا وأقاما أول حفل في مصر، قدمهما الفنان الكبير صلاح السعدني التقديم الذي يليق بهما وبفنهما، وبحب الشعب المصري لأهل العراق.
 كان كريم كلما هبط فى مطار القاهرة، أكون أول من يهاتفهم، وذات مرة قال لي: يا سامى أنا جئت إلى القاهرة ، فأجابه الهاتف: أنا لست سامى.. أنا صدام!.
قال كريم بحسه الساخر: لقد هربت منك 17 عاما، والآن أجدك فى مصر!.
قال له : أنا لست صدام حسين، أنا صدام شقيق سامي!. ولم يكن كريم يعرف أن والدي أسمى أخي “صدام” حبا بالرئيس العراقي صدام حسين. وكان كريم يواجه حكما بالإعدام في عهده، قبل أن يهرب من العراق!.
كنت مع كريم في بداياته في مصر، وهو يبحث عن شقة يقيم فيها فى القاهرة، إذ لم يكن له بيت، نشر له الناقد الكبير رجاء النقاش فى مجلة الكواكب -التي كان رئيس تحريرها- قصيدة يقول مطلعها: ” أيا رب لي عشرة الآف بيت من الشعر، وليس لي بيت أقيم فيه”. وقرأ ما كتبه كريم صديقُه كاظم الساهر، الذي تزامل معه لسبع سنوات فى الجيش العراقى، أثناء حرب الخليج الأولى، واستمرت الصداقة حتى الآن؛ فأهداه عشرة آلاف دولار، عربونا يدفعها للحصول على شقة في القاهرة، وكان هذا قبل أن يحقق مجده في مصر ويكتب أغاني لأهم المطربين في العالم العربي، مثل أصالة ولطيفة، ويحصل على جائزة الأمير فيصل العالمية عام ٢٠١٩ .
ورغم الحزن الساكن فى ديوان كريم العراقى إلا أن متعة الجمل، ورقة العبارة، وموسيقى الكلمات، تنقلك إلى عالم رحب من الشعر .
 “هنا بغداد” ديوان يستحق أن تحمله معك أينما سافرت…
” يقولون أمي فى العراق مريضة .. فقُـلت لهـْم كلُ الـعراقِ مـريـضُ                                                                                                         
 وبـاءٌ وقــتـلٌ واخـتطـافٌ وفـتـنـةٌ .. ودمـعٌ، وكـلُّ الـدمـوعِ يـفــيـضُ”
وقع في يدي الديوان بعد أن فارقت القاهرة، وباعدت السنوات بيني وبين صديقي الشاعر الكبير، إلا من مهاتفة هنا أو هناك، ومع انتشار السوشيال ميديا راحت فيديوهاته وقصائده تملأ الآفاق أكثر وأكثر، حتى عرفت أنه مريض بالسرطان فأردت أن أكتب هذه الكلمات عن صديق وشاعر موهوب، حققت موهبته مكانتها الكبيرة في العالم العربي؛ متمنيا له من الله خالص الشفاء.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...