والله مُتمُّ نوره | حرق القرآن والتناقض في مفهوم الحرية

بقلم: سعدية مفرح

| 6 يوليو, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: سعدية مفرح

| 6 يوليو, 2023

والله مُتمُّ نوره | حرق القرآن والتناقض في مفهوم الحرية

{يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتمُّ نوره…} [سورة الصف: ٨]، ولكنهم لا يؤمنون بالقرآن الكريم كما نؤمن به، نحن المسلمين، وبالتالي فإنهم مستمرون بمحاولاتهم لإطفاء نوره؛ ولكل منهم، أفرادا ودولا وجماعات، أسبابه في ذلك، وهي أسباب تتلون وفق معطيات كل عصر من عصور التاريخ، بما يناسبه ويتوافق مع الثقافة السائدة فيه.
أما ونحن نعيش عصرا ينادي فيه عالَمهم المتقدم، وفق معاييرهم الخاصة التي فرضت على الجميع بحق أو بغير حق، بحريات التعبير وحقوق الإنسان في أن يفكر ويعمل ويقرأ ويأكل ويشرب ويرتدي ويعبد ويعتقد كما يشاء، فقد أصبح من الغريب أن نشهد محاولات من ذلك النوع، وبالحجج القديمة نفسها؛ وكأن تلك الحقوق الإنسانية، مرة أخرى وفقا لمفهومهم، لهم وحدهم، رغم أنهم يصدرون الفكرة، ويفرضونها أيضا بمفارقة عجيبة، على الناس كافة!. ومن هذه النقطة تحديدا يمكننا استقراء حوادث حرق نسخ من القرآن الكريم في بعض العواصم والمدن الغربية، بمناسبة الحادثة الأخيرة على الأقل!.

الاعتداء على مشاعر ملياري مسلم في العالم، لا يرضون المساس بكتابهم المقدس باعتباره، وفقا لما يؤمنون به، كتاب الله الوحيد المحفوظ بإرادته تعالى، لا يمكن تجاهل رمزيته الخاصة، ولا الادعاء بمفاجأة حجم ردود الفعل عليه من قبل المسلمين في كل بقاع الأرض تقريبا

لم تكن حادثة حرق نسخة من القرآن الكريم في العاصمة السويدية مؤخرا هي الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، فمن الواضح أن محاولة إهانة المقدسات الإسلامية تحديدا، أخذت منحىً متصاعداً في السنوات الأخيرة، وربما منذ 11 سبتمبر 2001، حتى أصبحت هي الممارسة المفضلة لدى من يريد إغاظة المسلمين أو جرح مشاعرهم الدينية، أو حتى لمجرد تحقيق شهرة عابرة تساهم فيها وسائل الإعلام التي تتلقف الحادثة وتداعياتها وكأنها تحدث للمرة الأولى.
لقد اكتشف الغربيون المناهضون للفكرة الإسلامية عموما ولتنامي انتشار الدين الإسلامي عالميا أن المسلم، وبغض النظر عن درجة التزامه بتعاليم دينه ودرجة تدينه، يُظهر احتراما كبيرا لكل ما يتعلق بهذا الدين، وهو حريص على حماية مقدساته باعتبارها هوية دينية ومرجعية ثقافية له. وبالتالي فإن كل محاولة لإهانة هذه المقدسات هي حرب لا على الدين الإسلامي فقط باعتباره مجرد دين، بل أيضاً على هوية ثقافية وثقافة شمولية للمسلمين في كل مكان.
ومن هذا المنطلق يمكن بسهولة أن يقتنع العالم كله بأن حادثة حرق المصحف الشريف الأخيرة في العاصمة السويدية هي جريمة كراهية مكتملة الأركان، وعمل عدائي خالص، بالإضافة إلى كونها تعزيزا لما يسمى بالإسلاموفوبيا؛ فهي تستدرج، بالضرورة المعروفة سلفا والمرصودة مسبقا، ردود فعل قوية، لا يمكن غالبا السيطرة عليها أو احتواء تفاعلاتها بين جماهير العامة ردا على تلك الجريمة، ما يجعلها تحرض بقية العالم، من غير المعنيين بالأمر والبعيدين أساسا عن تفصيلات الشريعة الإسلامية وثقافة الدين لدى المسلمين، على هذا الدين وتشويهه بتصويره مصدرا للعنف والفوضى الجماهيرية في التعبير عن ردود الفعل.
ثم إن الاعتداء على مشاعر ملياري مسلم في العالم، لا يرضون المساس بكتابهم المقدس باعتباره، وفقا لما يؤمنون به، كتاب الله الوحيد المحفوظ بإرادته تعالى، لا يمكن تجاهل رمزيته الخاصة، ولا الادعاء بمفاجأة حجم ردود الفعل عليه من قبل المسلمين في كل بقاع الأرض تقريبا؛ ذلك أنه أصبح حدثا متكررا، كما أن ردود الفعل عليه تكررت أيضا لدرجة أنها صنعت ثقافة خاصة بها. وبالتالي لا يمكن، بعد معرفة حجم التداعيات، قبول الممارسة بتكرارها أو الإلحاح عليها باعتبارها حرية تعبير، حتى وإن تطابق شكلها العام مع توصيف حرية التعبير في دساتير وقوانين البلدان الغربية.
وفي الممارسة الأخيرة لذلك الفعل في العاصمة السويدية ما يزيد من التأكيد على أنها ليست مجرد حادثة عابرة في سجل حريات الرأي وحقوق الأفراد في التعبير؛ فمع أن من بادر إلى جريمة حرق المصحف الشريف هذه المرة فرد، مثل كل مرة سابقة، إلا أن موافقة الحكومة السويدية عليها وإعطاء ذلك الفرد إذنا رسميا يسمح له بذلك، بل وتأمين سلامته الشخصية بحماية الشرطة أثناء قيامه بالعملية وتصويرها وبثها على الهواء مباشرة عبر حساباته في التواصل الاجتماعي، تجعل من تلك الحادثة حربا تبدأها السويد على الإسلام باعتباره دينا، وعلى المسلمين باعتبارهم أفرادا، مواطنين كانوا أو غير مواطنين، وعلى دول غير المواطنين منهم باعتبارها دولا إسلامية. وبالتالي فلا مبالغة أبدا بالقول إنها جريمة كراهية وحرب ممنهجة، ليس ضد الإسلام والمسلمين والدول الإسلامية وحسب، بل أيضا ضد السلم العالمي، فالإسلام هو الدين الرسمي ل 57 دولة في العالم، وبالتالي لا بد من تبعات لجريمة من هذا النوع في كل الدول التي تشتبك مع عناصر تلك الجريمة بدرجة أو أكثر أو أقل.

من الواضح أنها فرصة مناسبة جدا لمراجعة كل تلك الأفكار، التي يُصدِّرونها لنا باعتبارها أفكارا إنسانية وضعت من أجل الجميع وعلى الجميع أن يؤمن بها ويعمل وفقا لمعطياتها.

ولأن حرية الرأي تعني، من ضمن ما تعنيه، حرية التعبير عن الرأي من دون اللجوء إلى العنف أو التمييز ضد أي فئة أخرى، فإن حرق نسخة من القرآن الكريم ينتهك حرية التعبير نفسها ويناقض مفهومها؛ ليس لأن هذا الحرق هو نفسه ممارسة عنيفة لا علاقة لها بسلمية التعبير الحر وحسب، ولكن أيضا لأن هذه الممارسة تؤذي آخرين وتضيِّق عليهم حريتهم في ممارسة دينهم والتعبير عنه في بلاد تسمح بالتعددية الدينية وتكفلها للمواطنين ولغيرهم، ما يجعل من سماح الحكومة السويدية بذلك الفعل حالة غريبة جدا، ويعرض مبادئ الليبرالية التي تدعي أنها تؤمن بها إلى خطر واقعي. ولا بد أنها ستستغرق وقتا طويلا، إن أرادت أصلا، لكي تعيد الثقة مجددا بمبادئ نظامها الليبرالي العام، وتبرئ ساحتها من جريمة التحريض الحكومي على العنف المجتمعي بالنظر إلى عدد المسلمين الذين يحملون الجنسية السويدية، والذين سيشعرون من الآن فصاعدا بوطأة التمييز العنصري ضدهم، وأجواء الكراهية التي تحيط بهم وتريد منهم تربية أبنائهم في بيئة تشجع على ذلك النوع من الأذى للمواطن لمجرد أنه يدين بالإسلام.
وما ينطبق على السويد يمكن أن ينطبق على بلدان أوربية أخرى، شجعت بشكل مباشر أو غير مباشر على تغذية الإسلاموفوبيا، باعتبارها نوعا من السلوك العاطفي السلبي ضد المسلمين، لمجرد أنهم مسلمون وبغض النظر عن أفكارهم أو أعمالهم الأخرى.
وإذا كانت الدول الغربية، مع ما تبشر به من قيم في الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ادَّعت وصولها إلى حدودها القصوى في السنوات الأخيرة، قد فشلت في حماية تلك القيم، وفقا لمنظورها الخاص وثقافتها العامة وأفكارها النظرية، مع كل معطيات التعددية السياسية وتداول السلطة فيها والحريات الكبرى والصغرى، فماذا ننتظر من دول أخرى ينظر إليها العالم عادة على أنها شمولية رافضة للتعددية بكل تجلياتها المختلفة؟.
من الواضح أنها فرصة مناسبة جدا لمراجعة كل تلك الأفكار، التي يُصدِّرونها لنا باعتبارها أفكارا إنسانية وضعت من أجل الجميع وعلى الجميع أن يؤمن بها ويعمل وفقا لمعطياتها. فحوادث من هذا النوع تفضحهم بكل بساطة، وبمقارنات بسيطة بين حدود الحريات في القول والعمل والتصريح بالأفكار والآراء لديهم نستطيع أن نتيقن حجم الفضيحة؛ فمن لا يستطيع أن “يقول” رأيه بقضايا شائكة مثل المحرقة اليهودية  في بلادهم، على سبيل المثال، يستطيع أن “يحرق” نسخة من القرآن الكريم، ليس بموافقتهم وحسب بل بحمايتهم أيضا، وفي هذا التناقض البسيط ما يشي بسر الحكاية كلها!.

سعدية مفرح

مستشارة ثقافية من الكويت

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...