والموت أيضا ..فن!

بواسطة | نوفمبر 17, 2023

بواسطة | نوفمبر 17, 2023

والموت أيضا ..فن!

المقال يستعرض الموت برؤية فنية إسلامية، حيث يسلط الضوء على حياة النبي والشهداء كدروس في قبول القضاء وتحضير للموت.

دروس من حياة النبي والشهداء تظهر الفن في قبول القضاء والوداع بكرامة

كأي مهمة أخرى، يعد الموت مسألة شاقة على المبتدئين، هينة على من تدربوا عليها ومارسوها!
تريدني أن أحدثك عن الحياة، إذ الموت كئيب والحديث عنه مقبض؟! عن الدنيا؟!
وما دنياك إلا شبر أرض وساعة زمن، من أجلهما يحدثك الجميع عن فن العيش فيها، واستثمارها، ولو صدقوا لحدثوك عن فن الرحيل.. إذ إن للذهاب فن لا يتقنه إلا القليل.. القليل جداً.
تحكي كتب التاريخ أن “وسباسين”، إمبراطور روما وبطلها، عندما حضرته سكرات الوفاة، كان نائما على فراشه وحوله قادة جيشه، وإذ به يقف فجأة ويصرخ “الإمبراطور يجب أن يموت واقفا”، قبل أن تزهق روحه على أكتاف قادته.. هذا رجل حرب وكبرياء، يرى أن الموت مضطجعا أو متوسدا الفراش ساعة الموت عيب ومعرة.

وخالد بن الوليد، تراه يقابل الموت ساخرا من نوازع السلامة التي طالما قيدت همم الناس، ومن الخوف الذي كشف مستور الرجولة، فنراه يقول: “لقد طلبتُ القتل مظانَّه، فلم يقدر لي إلا على فراشي، لا نامت أعين الجبناء”.
والشهيد في ديني رجل يتقن فن الموت في أسمى صورة، إذ إنه رجل يقايض حياة بحياة، يقف على حد معادلة صفرية تقول “إما حياةً شريفة، وإما موتًا شريفًا”.. الشهيد رجل ينحاز لمبدأ، إما أن يحققه، أو يكمل انحيازه مضحِّيًا بروحه كي يظل المبدأ قائماً، وعليه فإنه يموت موتة كبيرة، يرتقي شهيدًا، في الوقت الذي يسقط الصرعى في كل مكان.. ولأسباب تخصهم.
الموت فن، ولا تظنَنَّ أن ساحات القتال فقط أو الشجعان فحسب هم من يتقنونه، الذين أحبوا الله بصدق يموتون أيضا بإبداع!، الذين آمنوا بأن الحياة مزرعة، رحلة، فندق في طريق، هؤلاء في الغالب يموتون بشكل رائع.
الذين يؤمنون أن الحياة هدية مفخخة!. آمنة لمن يقرؤون “كتيب الاستخدام”، خطِرة على من يرون أنها ملهاة.. يكفي العقل مجردا، والتجربة وحدها كي يفكوا رموزها.

الذين يتواضعون أمام الحياة يموتون أيضا بتواضع جميل، لا تسوِّد وجوههم خيبة الحسرات المتكررة.. على عكس المتكبر والذي يحمل في روحه حنقا يجعل مشهد رحيله مضطربا، غير جدير بالتأمل والسكون، وإن كان جديرا بالتأسي وأخذ العبرة.
نعم.. الشجاع يموت واقفا، ويسخر من موت الفراش، وأهل الله وخاصته يموتون بسكينة، إلا أن أكثر لحظات الموت نبلا وجمالا هي تلك التي نراها في موت أصحاب الرسالات.
صاحب الرسالة مهموم، مهموم بالحياة وتحدياتها، مهموم بالناس وضلال بوصلتهم، مهموم بالخير وتعثر خطواته، مهموم بالماضي وعبرته، والحاضر بوطأته، و المستقبل وصناعته.. صاحب الرسالة يموت مهموما، يرحل بفؤاد موجوع، عجيب أمره، غير آسف على دنيا، بيد أنه يحمل همومها!

وسيد النبلاء هو محمد صلى الله عليه وسلم، تضرب الحمى جسده، ويدرك أن لحظة النهاية قد آنت، وتجده رغم وجعه الذي لا يُطاق واقفا وقد اتكأ على الفضل بن عباس، يخبر الناس بأمور تفيدهم في قابل الأيام، يسأل عن جيش أسامة ويشتبك مع من يرون في قيادة فتى صغير أمرًا غير مقبول، ثم يتذكر فيخبر عائشة أن تتصدق بدنانير في البيت، ثم يخرج وينظر لأصحابه وهم يصلون فيبتسم حتى ظن البعض أن العافية قد زارته، ثم يقف فجأة يطلب ممن له حق عنده أن يطلبه، ويشدد مؤكدا لإبعاد الخجل أو خوف الفضيحة، منبها أن “فضوح الآخرة أشد سوءًا”، ثم يطلب من أي شخص ارتكب ذنبًا أو له حاجة أن يقف ليدعو له.
يأتي الليل فيذهب إلى المقابر يسلم على أهلها، يعود فيمر على كل أهله، ويطمئن عليهم.. يضع رأسه وقد غطاها عرق الحمى على فخذ عائشة تارة، وبين يدي علي بن أبي طالب تارة أخرى، يتمتم حبيبنا، تقترب منه عائشة فتسمعه يقول ببطء “بل الرفيق الأعلى”.. يغمض النبي عينيه ويموت.

النبي محمد صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف يكون الموت جميلا، وإن كان مؤلما وله سكرات؛ إذ تشعر معه وكأن الموت حدث عادي، مقابلة محددة سلفًا، هي أهم من كل ما يشتبك معه، لكنه كصاحب رسالة، لا تحمله فرحة لقاء الحبيب أن ينسى ولو في سكرة موته مساكين تعلقوا بأقدامه كي ينقذهم.
قبيل موته، أشار النبي أن الله -جل اسمه- قد خيَّره بين الخلود في الدنيا ثم دخول الجنة، وبين الموت ولقاء الله، فاختار النبي لقاء ربه.. يبدو أن النبي كان قلقا بشدة، يبدو أن خوفه علينا كان باعثا لأن يخيِّره ربه، يبدو أنه أراد إعلامنا بهذا القرار كي يؤكد لنا حساسية الموقف، أشياء كثيرة قد تبدو لنا، لكن ما لا يمكن الخلاف حوله أن النبي محمدًا كان مهمومًا حتى موته، وعليه كان موته فنًّا عظيما، لا يقل عن حياته عظمة ورقيًّا.

الموت مشهد جميل، يكرهه الجاهل إذ يظن الموت قبرا، والظالم إذ يرى فيه الوعيد، غير أن المؤمنين يعرفون هذا جيدا، يدركون أيضا أن إتقان هذا الفن يتأتّى بالتدريب!
نعم، من يريد موتًا جميلًا، فليعش حياة جميلة، حياة ترى الموت مشهدًا أخيرًا، يحتاج كي يكون جميلًا أن يكون متّسقًا مع باقي المشاهد، من يحيا محبًّا للحياة والناس، داعمًا لقيم الخير والحب، سيموت موتة دافئة؛ ومن يحيا شريفا كريما عزيز النفس سيموت واقفا مرفوع الرأس؛ ومن يعش راضيًا شاكرًا ربَّه ونِعمَه سيموت مبتسمًا، خفيف الروح، طيب الفؤاد.
وفي الغالب ستجد من يكرهون الموت يكرهون الحياة كذلك، يُخربون كليهما، يزرعون الشر ويجنون الندم، يتركون الأرض تصحبهم لعناتها، ويستقبلهم الموت بعبوس يليق بهم.

من ظنوا أن الحياة ملهاة، غابة، مولدًا لا صاحب له، سيفجؤهم الموت.. كثيرا.
وعليه، فعساك أدركت يا صاحبي، أن الشهيد صاحب فن فريد، وأهل الصلاح يعرفون جيدا قيمة ما يقومون به، وأن الموت حكاية لا يتقن سردها إلا من أحبوا الحياة!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...