ورقة من أحداث لبنان!

بواسطة | أغسطس 1, 2023

بواسطة | أغسطس 1, 2023

ورقة من أحداث لبنان!

حين تقدم المصلحة الخاصة والطائفة على الدولة، تكون النتيجة ما سوف نقرؤه في هذا المقال!.
عام 1968، تلقت السلطة اللبنانية معلومات استخباراتية عن هجوم إسرائيلي وشيك سوف يستهدف مطار بيروت، فأعلن قائد الجيش، إميل بستاني، حالة الطوارئ، وشدد على حماية أمن مطار بيروت.
وفي إحدى الليالي تلقى مكتب الأمن في المطار اتصالا من برج المراقبة، يبلغه عن هبوط قوات إسرائيلية على المدرج، وبدوره اتصل مسؤول المكتب بالعميد الركن إسكندر غانم، قائد موقع بيروت في الجيش اللبناني، الذي لم يتخذ أي إجراء؛ بينما كانت القوة الإسرائيلية تتحرك بهدوء في المطار، وتقوم بتدمير 13 طائرة مدنية تتبع لأسطول “ميدل إيست”، بل كانت هي الأسطول كله في ذلك الوقت، وتخريب واجهة المطار. أصوات الانفجارات سمعها أهل بيروت، فاتصل قائد الجيش بإسكندر غانم، الذي أخبره أن الجيش يتحرك ولكنه لا يستطيع الوصول لأن طريق المطار مقطوع، ذلك العذر الذي يقال عنه أقبح من ذنب. ثم غادرت القوة الإسرائيلية دون أن تتعرض لأي محاولة صد!.
أثار ذلك الأمر كثيرا من التساؤلات حول هذه الغارة الغريبة، فشُكلت على إثر ذلك لجنة برلمانية للتحقيق مع إسكندر غانم، وتبين لهم أنه أعطى إجازات لكثيرين في القيادات العسكرية مخالفا أمر الطوارئ، وأثبتت اللجنة عبر تحقيقات طويلة إدانته في عدة تصرفات، في تهاونه بأمر الطوارئ، وكذلك تقاعسه عن التعامل مع الحدث، وعدم اتخاذه أي إجراء لمجابهة ذلك الاعتداء الإسرائيلي.
رئيس لبنان آنذاك، شارل الحلو، طلب ملف التحقيق قبل اتخاذهم أي قرار ليطلع عليه، وهو أمر بدا غريبا من الرئيس؛ وكان ما قام به الرئيس هو إبقاء الملف لديه في مكتبه دون إعادته إلى اللجنة البرلمانية لإكمال إجراءاتها، وهدفه من ذلك وصول إسكندر غانم إلى السن القانوني للتقاعد، وكان سيصل إليه بعد عدة أشهر، وهذا يمنع عنه أي إجراء تأديبي حسب القانون؛ وذلك ما كان، وأفلت به من العقاب.
أثار الأمر احتجاجا كبيرا، وخاصة من نواب المعارضة، وتصدر أمر الاحتجاج النائب سليمان فرنجية، الذي قال بقوة: إن الرئيس غطَّى على فضيحة كبيرة لا يمكن احتواؤها.
عام 1970، أصبح سليمان فرنجية رئيسا للبنان، وهو الذي كان قد تصدر تلك المعارضة، ولم يكن على وفاق مع قائد الجيش جان نجيم، الذي استمر بالمحافظة على حياد الجيش وعدم توريطه في الصراعات الداخلية. حاول سليمان مع وجود إشارات لحدوث حرب أهليه مستقبَلاً، استباق الأمر وتجيير الجيش “القوة الأكبر” لصالحه وصالح طائفته.
عام 1971 حدث أمر غريب، فبعد إقلاع الطائرة المروحية التي تقل قائد الجيش من القصر الجمهوري عقب نهاية لقائه مع الرئيس فرنجية، سقطت الطائرة ليلقى جان نجيم حتفه، وليبحث فرنجية بعدها عن شخص لهذه المهمة حسب مواصفات معينة ليستخدمه لمصلحته، فوجد ضالته في إسكندر غانم!. استدعاه من التقاعد، حيث كان يعمل مستشارا لدى الملحق العسكري الأمريكي في السفارة الأمريكية في بيروت، وقام بترقيته الى رتبة عماد؛ وحتى يأخذ الأمر شرعية أكثر أخذ موافقة رئيس الحكومة صائب سلام.. تم تعيينه مع دون أي اكتراث بفضيحته السابقة، ففرنجية يحتاج شخصا بمواصفات معينة لمهمات قادمة.
عمل إسكندر غانم فور تعيينه جاهداً لإحلال كثير من الكوادر المارونية في الجيش، واستبعاد كوادر الطوائف الأخرى، واستبعد كذلك الداعين لاستقلال الجيش.
عام 1972، جاء 30 من الكوماندوز الإسرائيلي، وكأنهم في رحلة استجمامية، عبر قوارب مطاطية، فوصلوا إلى شاطئ بيروت على مرأى ومسمع المواطنين الذي كانوا يستجمون على الشاطئ؛ قطعوا الطريق إلى الشارع واستقلوا سيارات استأجرها عملاء لهم كانوا ينتظرونهم قرب البحر.. ثلاث ساعات قضاها الكوماندوز يتجولون بكل هدوء في العاصمة بيروت، قتلوا فيها كثيراً من كوادر القيادات الفلسطينية واللبنانية، منهم الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، وكانوا وهم ينفذون عملياتهم يمرون أمام مراكز الدرك وثكنات الجيش!. والمضحك أنهم عالجوا اختناقا مروريا في أحد الشوارع حتى لا يعيق مرورهم. بعد تنفيذ مهمتهم غادر الإسرائيليون بهدوء بقواربهم التي كانت تنتظرهم دون اعتراض أحد.
النقاش الذي حدث بعد تلك الغارة كان يوضح أن لبنان كان يعيش بداية اللادولة!. صائب سلام، رئيس الوزراء ووزير الداخلية، حين تلقى الاتصال عن العملية قال للمتصل إنها من اختصاص الجيش لا قوى الأمن، وقام بالاتصال بقائد الجيش إسكندر غانم، الذي قابل الاتصال ببرود؛ وبعد ساعتين اتصل به مرة أخرى ليسأله: ماذا فعلت لمواجهة الغارة؟ فيجيب غانم بكل سخرية: أي غارة؟.
حين سئل إسكندر غانم عن سبب عدم تحركه، برر ذلك بأن الدستور لا يسمح لرئيس الوزراء أن يصدر أوامر لقائد الجيش، فالأوامر التي توجه لقائد الجيش من اختصاص رئيس الجمهورية فقط.
مشهد أغرب من الخيال يبين بوضوح الحالة اللبنانية بكل تعقيداتها.. على مرأى من الجميع تحدث غارة إسرائيلية، ويتجول أفرادها المعدودون على الأصابع في المدينة باطمئنان، ويقتلون بكل هدوء من يريدون؛ ورجال القيادة في الدولة يتحدثون عن اختصاص قانوني لمواجهة أولئك الغزاة الأجانب؛ فلا صائب سلام حرك قواه الأمنية، ولا إسكندر غانم حرك قطاعات الجيش.
كثيرون طالبوا الرئيس سليمان فرنجية بعد ذلك بإقالة إسكندر غانم، لكنه رفض؛ الأمر الذي جعل صائب سلام يقدم استقالته، ليستمر إسكندر غانم في منصبه حتى عام ١٩٧٥. ولكن لا تظنوا أنه غادر المشهد بعد ذلك.. بل إنه ترقى إلى منصب وزير الدفاع!.
هذه صفحة قليلة الأسطر من تاريخ لبنان، تبين معضلة لبنان، التي ما يزال يدفع ثمنها حتى يومنا هذا.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...