وللدجل سوق رائجة

بواسطة | مارس 13, 2024

بواسطة | مارس 13, 2024

وللدجل سوق رائجة

حل رمضان أهلا ونزل سهلا في القلوب والأفئدة، ونسأل الله أن يُنزل الأمن والسلام والسكينة والطمأنينة في قلوب أهلنا في غزة، وأن يُنزل الفزع والهلع والجزع في قلوب من يسفحون دماء الفلسطينيين، الذين اغتصبوا الأرض وأهلكوا الزرع والضرع، استنادا إلى تخاريف زعموا بمقتضاها أنهم شعب الله المختار، وأن فلسطين هي أرض الميعاد التي تخص اليهود لكي ينطلقوا منها ويسودوا في الأرض، بعد القضاء على من لا يشايعهم.

رغم أن الدولة الإسلامية تمددت لقرون من الشرق الأقصى حتى المحيط الأطلسي غربا، وغرست راياتها في أوربا، فإنها لم تركن إلى الخرافات والادعاءات الكاذبة لتبرير تمددها في كل الاتجاهات؛ ولكن ما يثير الدهشة والعجب هو أنه رغم كل ما يقال عن أننا نعيش حاليا في عصر العلم والمعلومات، وانحسار الأمية الألف بائية، فإن شكلا شديد الخطر من الأمية ما زال فاشيا بيننا.. أعني الاعتقاد بأن لبعض بني البشر القدرة على الرجم بالغيب، وتغيير مجريات الأحداث.

جاء في دراسة للمنتدى القومي للفكر والتنمية، أن العرب ينفقون أكثر من خمسة مليارات دولار سنويا على أعمال الدجل والشعوذة، ما يشي بأن الملايين من العرب “المسلمين” ضالعون في سوق الشعوذة، بل صارت هناك قنوات فضائية تلفزيونية عربية متخصصة في فك السحر وإحباط العين الحاسدة. وتفيد دراسة أعدها مركز “البحوث الاجتماعية والجنائية” في مصر، أن هناك نحو ثلاثمائة ألف شخص في مصر يدعون القدرة على علاج المرضى بتحضير الأرواح، و”إخراج الجن من جسد الإنسان”، إضافة إلى عدد مماثل يزعمون قدرتهم على علاج المرضى بالتمائم وبعض الأعشاب “المبروكة”؛ وفي هذا تقول د. آمنة نصير، أستاذة الفقه بجامعة الأزهر، إن الأميّة (بمعنى عدم القدرة على القراءة والكتابة) ليست وحدها المسؤولة عن الاتجاه إلى السحر والاعتقاد في التمائم، بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في أميّة العقيدة والفكر.

كتب البروفسر علي كوباني، أحد أميز من تخصصوا في الطب العدلي في السودان، إنه أتاه ذات يوم أربعة أشخاص ذوي لحى محفوفة بعناية، ويرتدون ملابس بيضاء نظيفة، وقالوا إنهم يريدون نقل رفات “شيخهم” الذي توفي قبل تسعة أشهر من المقبرة العامة، إلى الضريح الذي اكتمل بناؤه، وإنهم يريدون منه نبش الجثمان حسبما تقتضي الأصول المرعية، ليتسنى لهم تشييعه إلى مكان يليق به؛ فقال لهم كوباني إنه سيحرص على أن تكون العملية دقيقة، لأنه من المؤكد أن الجثمان تحلل ولم تبق منه سوى العظام، هنا صاح فيه أحدهم: كُفَّ عن قلة الأدب، فجثمان شيخنا (المبروك) لا ولن يتحلل، وأنت ستتولى نبش القبر، وسترى بنفسك أنه يرقد فيه في كامل هيئته الجسمانية.

جاء اليوم الموعود وتوجه كوباني ومساعدوه إلى المقبرة، ووجدوا حولها خلقا كثيرا من مريدي الشيخ المتوفى، يقرعون الطبول ويطلقون البخور وينشدون الأناشيد التي تمجد الشيخ الراحل، وبدأت عملية النبش في حذر بالغ حتى وصلوا إلى الرفات، واكتشفوا أنه لم يبق من الجثمان سوى كومة من العظام، فإذا بأحد الرجال الأربعة يهتف: الله أكبر فقد وجدنا شيخنا سليما في كامل هيئته، فرددت الحشود التكبير وعلا دوي الطبول احتفاء بتلك “المعجزة”.. ويقول كوباني إن من أطلق تلك الكذبة، نظر إليه نظرة وعيد مؤداها: لو فتحت فمك بكلمة تنفي ما قلته، فستنزل أنت في القبر الذي كان فيه شيخنا.

ذاع في الضفة الغربية المحتلة لحين من الدهر أمر تيس يدر اللبن، فقرر الآلاف أنه تيس مبروك، وشرع صاحبه في بيع جرعات منه نظير مبالغ طائلة، بزعم أن لبنه يزيل العقم ومن ثم يأتي بالذرية، ونفق التيس بعد شهور قليلة من بعد إدراره اللبن، وأخضعه طبيب بيطري للتشريح، واكتشف أنه كان مصابا بورم سرطاني، وأن الآلاف شربوا الإفرازات الصديدية الناتجة عن الورم، ولحسن حظهم فإن السرطان لا ينتقل بالعدوى.

وفي لبنان استعانت سيدة برجل ذاع أمر قدراته الخارقة ليحبط مسعى زوجها للاقتران بأخرى، فأعطاها مساحيق لتضعها في مشروب تقدمه لزوجها، ونجح “المفعول” في إحباط مشروع الزوجة الثانية، لأن الرجل مات مسموما، واتضح أن الدجال تعمد قتله كي يتسنى له الاقتران بالزوجة التي لجأت إليه.

وفي بغداد استفسر صاحب محل لبيع الآيس كريم من أحد زبائنه المنتظمين عن سبب قدومه يوميا، وعلى كتفه قرد ليشتري سطلا من المثلجات تلك، فأبلغه الرجل أن القرد من أصحاب “الكرامات”، وأن لديه مهارة فائقة في اصطياد الطيور اللاحمة وطيور الزينة، فما كان من تاجر الآيس كريم إلا أن جاهد لإقناع مالك القرد بأن يبيعه له فكان له ما أراد، ثم أغلق متجره وتوجه إلى جنوب العراق مصطحبا القرد، وأطلقه صوب سرب من الطيور ترقد تحت دغل من الشجر، فانطلق القرد، ولم يعد حتى الآن.

تدور رحى حرب ضروس في مختلف أنحاء السودان بين الجيش الرسمي وقوات الدعم السريع، ويسعى كل طرف لإثبات أنه المنتصر ببث مقاطع فيديو لجنود يحتلون هذا الموقع أو ذاك، ولوحظ في الصور المبثوثة أن معظم مقاتلي قوات الدعم السريع مدججون بما يسمونها الحجبات (ومفردها حجاب وهو “ما يحجب ويمنع الأذى”)، وهي تمائم مغلفة بالجلد تكون معلقة على الرقاب وحول الذراع بسيور جلدية. وفي قسم كبير من السودان وغرب أفريقيا هناك اعتقاد بأن هناك بالفعل حجابا يحمي صاحبه من الإصابة بأي نوع من الأسلحة، ورغم وجود عشرات الصور لقتلى قوات الدعم السريع وصدورهم موشاة بتلك التمائم، فإنك لن تقنع الأحياء من تلك القوات بأن السترة الواقية من الرصاص أكثر جدوى من سلاح الحجاب.

هذا زمان يحسب فيه بعض المسلمين أنهم يقومون “بالواجب وزيادة” لأنهم يرددون آناء الليل وأطراف النهار: بسم الله، الحمد لله، استغفر الله، ما شاء الله.. ثم، وهم لا يدرون، يشركون بالله أناسا أبعد ما يكونون عن الله، فيعدونهم قادرين على تغيير مجرى الأقدار، والتكهن بما سيصير من أحداث هي في رحم الغيب، ويمارسون في سياق ذلك “تنجيس” الأموال، بينما لصوص المال المحترفون يغسلونها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...