وما أدراك ما الجنجويد

بواسطة | مايو 24, 2023

بواسطة | مايو 24, 2023

وما أدراك ما الجنجويد

الجنجويد نفر من الإنس ارتبط ذكرهم بالسودان، رغم أنهم بضاعة مستوردة من أفريقيا جنوب الصحراء، والراجح هو أن الكلمة تجميع عشوائي لعبارة “جن على ظهر جواد يحمل بندقية جي إم 3″؛ ونسبهم إلى الجن ضحاياهم في تشاد والنيجر ومالي، بعد تعرضهم لغارات همجية شنها أولئك النفر. ولكن، ذاع اسم الجنجويد بعد الفظائع التي ارتكبوها في إقليم دارفور، في أقصى غرب السودان، حيث أشبعوا المواطنين قتلا وأثخنوهم جراحا، ونهبوا ما لديهم من بهائم وإبل. والقبائل التي شكلت قوام الجنجويد رعوية، وفي حال ترحال دائم بحثا عن الماء والكلأ، ومن ثم كانت غايتهم من شن غارات على الشطر الشمالي من دارفور تأمين مراع ومصادر مياه، من جنوب الإقليم إلى شماله وشرقه وغربه.
ولأن نشاط الجنجويد في دارفور أدى الى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، فقد ذاع ذكرهم بالسوء في العالمين؛ وارتبط اسمهم بالسودان، ونسي الرأي العام العالمي أن دول أفريقيا جنوب الصحراء هي مسقط رأس الجنجويد. وكان بدهيا أن يحمل بعض أبناء دارفور السلاح دفاعا عن أهليهم، وتبع ذلك توجيه السلاح إلى الحكومة المركزية، بحسبان أنها من قامت بتهميش دارفور، وتعمدت عدم التصدي لغارات الجنجويد، وكان ذلك في وقت خاضت فيه حكومة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير حربا ضروسا في جنوب السودان، فقدت خلالها الكثير من المواقع، فوجدت نفسها تستعين بالجنجويد السودانيين لقمع التمرد في دارفور.

في عام 1987، حارب جنجويد تشاد جيش بلادهم، وهم منضوون في قوات ليبية تحت قيادة اللواء خليفة حفتر، لانتزاع إقليم أوزو من تشاد؛ ومُنُوا بهزائم نكراء قادت الى إبعاد حفتر من الجيش الليبي، ومن ليبيا كلها.

ولأن اسم الجماعة ارتبط بجرائم بشعة، فقد قامت الحكومة بإضفاء طابع رسمي عليها بتسميتها “حرس الحدود”، ثم حدث صراع داخلي داخل تلك القوات بعد اكتشاف مناجم غنية بالذهب في دارفور، ونجح مقاتل شاب اسمه محمد حمدان دقلو (اسم الدلع: “حميدتي”) في الفوز بمركز القيادة، وتوزيع الرتب العليا على إخوته وأقرب الأقربين من عائلته، ثم كان أن منحته حكومة البشير رتبة عميد، واختارت لتلك المليشيا شبه العائلية اسما جديدا هو “قوات الدعم السريع”، وحرصت على ان تكون معروفة ب”ق. د. س”، على أمل ان تمحو “القداسة” التي توحي بها الأحرف الثلاثة السيرة السيئة لتلك القوات.
وُضِعت قوات الدعم السريع في بادئ الأمر تحت إشراف جهاز الأمن والمخابرات، الذي عمل على نفي الطابع القبلي عنها بحكم أن قوامها الأصلي هم أبناء عشيرة المحاميد، التي هي فرع من قبيلة الرزيقات التي ينتمي اليها “حميدتي”، وتم استقطاب مجندين من مختلف القبائل مع الإبقاء على القيادة في يد آل دقلو؛ وسرعان ما قفز “حميدتي” بالزانة الى رتبة لواء، وبنجاحه في تحجيم، وأحيانا تحطيم، حركات التمرد في دارفور فاز برتبة فريق، فشرع الرجل بعدها في تحسين قدراته على القراءة والكتابة، لأن حظه من التعليم النظامي كان صفرا، وإن كان قد تعلم بعض الأبجديات لنحو ثلاث سنوات في أحد كتاتيب تحفيظ القرآن.
جاء إشهار الجنجويد كعصابة متخصصة في ممارسة النهب المسلح في تشاد، وكان يقودها في سنواتها الأولى، أي سبعينات القرن الماضي، تشادي اسمه أصيل أحمد؛ وفي عام 1980 نهب الجنجويد بقيادة أصيل، العديد من المرافق الحكومية والبنوك في العاصمة التشادية إنجمينا، وتسللوا بغنائمهم إلى النيجر ومالي وأفريقيا الوسطى، حيث استقطبوا المزيد من العناصر؛ وفي عام 1983 استعانت بهم ليبيا تحت قيادة معمر القذافي، لقلب حكومة الرئيس التشادي حسين هبري، ولكنهم اندحروا ولجؤوا الى ليبيا. ثم، وفي عام 1987، حارب جنجويد تشاد جيش بلادهم، وهم منضوون في قوات ليبية تحت قيادة اللواء خليفة حفتر، لانتزاع إقليم أوزو من تشاد؛ ومُنُوا بهزائم نكراء قادت الى إبعاد حفتر من الجيش الليبي، ومن ليبيا كلها. وبعدها بعشر سنوات حاول الجنجويد قلب حكومة تشاد بقيادة إدريس دبي، وفشلت المحاولة مجددا، فتسللوا إلى السودان، حيث وجدوا مرتعا خصبا لممارسة السلب والنهب.
وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة حاول “حميدتي” التخلص من وصمة الجنجويدية، وحسب أن قيام الاتحاد الأوربي بإيكال أمر مراقبة الحدود السودانية- الليبية لقوات الدعم السريع نظير مبالغ ضخمة، لمحاربة الهجرة غير القانونية إلى أوربا، سيضفي عليه وعلى قواته الاحترام الدولي، بعد ان عجز عن كسب الاحترام المحلي، ثم كان ما كان من أمر الحراك الشعبي، الذي أدى الى سقوط حكومة عمر البشير في أبريل من عام 2019، فوجد “حميدتي” نفسه نائبا لرئيس المجلس العسكري، الذي تولى مقاليد الأمور في السودان؛ بل إن رئيس ذلك المجلس، الفريق عبد الفتاح البرهان، قدم رشوة دسمة ل”حميدتي” بأن منحه رتبة “فريق أول”، رغم أن قانون تأسيس الدعم السريع ينص على أن أعلى رتبة فيه هي فريق؛ ولابد أن كل ذلك جعل “حميدتي” الذي قضى صباه راعيا للبهائم، وشبابه ما قبل الانخراط في العمل العسكري تاجرا للحمير والبعير، يحس بأنه من فلتات الزمان، خاصة وقد خلق له البرهان لاحقا منصبا افتراضيا لا وجود له في قانون أو دستور، وهو منصب “نائب رئيس مجلس السيادة”.
كل ذلك جعل “حميدتي” يصاب بتضخم “الأنا”، فصار يعتلي المنابر ويبذل الملايين لزعماء القبائل لتسويق نفسه زعيما سياسيا، وصولا إلى الحالة الحالية، حيث رأى أن ينقلب على عبد الفتاح البرهان، وينفرد بالسيادة والرئاسة. وها هو السودان مسرح لحرب عبثية: الجيش في خندق، والدعم السريع في الخندق المقابل، والمواطن المسكين في مرمى النيران المتقاطعة.

الفريق البرهان يطبق استراتيجية طومان باي بحذافيرها، لتتحول الخرطوم إلى قلعة قايتباي، حيث تم حرق جيش المماليك بأكمله، وصار مرويات في كتب التاريخ السياسي والعسكري.

في عام 2014م، انتقد الزعيم السياسي السوداني الراحل الصادق المهدي قوات الدعم السريع، واتهمها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتكهن بأن الدعم السريع سيعيد يوما ما تجربة المماليك في مصر، فعندما استقر حكمهم لمصر انصرف الفاطميون عن الجندية، وتركوا أمر الجيش للمماليك، معتقدين أنهم لا يضمرون مطامع في الحكم؛ وبعد 13 سنة من حكم الفاطميين، استولى المماليك على الحكم، إذ الجيش بكامله تحت قيادتهم؛ واستمر ذلك إلى أن تمكن حاكم مصر العثماني محمد علي باشا من القضاء على قادتهم في مذبحة القلعة، في عام 1811. وها هي الوقائع تثبت صدق حدس الصادق المهدي، وها هو “حميدتي” ومماليكه، مماليك هذا الزمان، يسعون اليوم إلى حتوفهم بأظلافهم.. كان هذا التنبؤ للإمام الراحل، الصادق المهدي، قبل عشر سنين؛ وكل الذين حضروا هذا اللقاء هم أحياء بيننا الآن.
إذا حاولنا ربط ما يجري من تمرد للدعم السريع، والعمليات العسكرية في مواجهته، والخسائر التي طالته وطالت قواته، وقطع طرق الإمداد، وتشتيت الاستنفارات والمساندة القادمة للدعم السريع من بعض الولايات، وحتى من خارج الحدود؛ وسط تكتم إعلامي يفرضه الجيش على انتصاراته، ووسط عمليات استدراج واستنزاف للدعم السريع؛ نجد أن الفريق البرهان يطبق استراتيجية طومان باي بحذافيرها، لتتحول الخرطوم إلى قلعة قايتباي، حيث تم حرق جيش المماليك بأكمله، وصار مرويات في كتب التاريخ السياسي والعسكري.

1 تعليق

  1. Alnomay

    شكرًا للطرح السلس

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...