يوسف الصديق (عليه السلام) والمحنة الأولى

بواسطة | سبتمبر 8, 2023

بواسطة | سبتمبر 8, 2023

يوسف الصديق (عليه السلام) والمحنة الأولى

تعرّض يوسف الصديق (عليه السلام) في حياته لأصناف من المحن وألوان من الابتلاءات؛ من الإلقاء في الجب ثم البيع كالرقيق صغيرا، إلى فتنة امرأة العزيز شابا، إلى أن زُجَّ به في السجن ظلما وعدوانا حيث بقي فيه بضع سنين؛ لكن معيّة الله كانت في كل هذه المحن حاضرة، فأحاطته عناية الله، وحفظته رعايته، إلى أن فتح الله عليه، ومكَّن له بعد الضعف، وآمنه بعد الخوف. ولعل من أصعب ما مر به يوسف (عليه السلام)، محنة كيد إخوته به، وإلقائهم إياه في غيابة الجب؛ إذ كان صغيرا لم يشتدّ عوده، فأبعدوه عن حضن أبيه الدافئ، وألقوه في جبّ الظلم والظلمات، وتعدّ هذه المحنة، هي المحنة الأولى ليوسف (عليه السلام).
قال تعالى فيها: ﴿فلمَّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غَيابَتِ الجبّ وأوحينا إليه لتنبّئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون﴾ [يوسف: 15]:
– ﴿فلما ذهبوا به﴾: إنّ التعبير بلفظ (الفاء) في قوله: ﴿فلما ذهبوا به﴾ مُشعِر باستعجال الإخوة في التنفيذ، فالفاء للتعقيب المباشر دون التراخي، أي: إنهم أخذوا يوسف بمجرد الموافقة التي قد تكون صريحة، أو ضمنية، لأن القرآن الكريم قد طوى ذلك؛ وقد طوى جواب الشرط (فلما) لأن جوابه هو جميع نتائج القصة، وهذا من إعجاز القرآن الكريم وقد حُذف لأجل هذا التعميم، ولا مانع لغويّا من أن يكون جزاء وجواب: (فلما)، قوله تعالى: ﴿قالوا يا أبانا﴾ في الآية التي بعدها، وفي ذلك دلالة على سرعة التنفيذ والإيقاع؛ وإن منهج القرآن الكريم يقبل هذا التنوع العظيم. والتعبير بلفظ: ﴿ذهبوا به﴾ أي: بتعدية الفعل بالباء ولم يقل: ذهبوا معه، أو ذهب معهم، مُشعر بالإسراع بالأخذ به بصورة غير وديّة. إن إيقاع هذه الجملة الشرطية يدل على أنهم بمجرد الموافقة أخذوا بيد يوسف وذهبوا به، ثم إن وضع جملة: ﴿ذهبوا به﴾ مع: ﴿أجمعوا﴾ مؤذن بالعجلة خوفا من تراجع الوالد عن موافقته التي لم يكن مرتاحا إليها، ولكنهم حاصروه من كل جانب، وأحرجوه بجميع الوسائل، وأعطوه كل الضمانات، حتى استسلم لهذه التوكيدات، فوافق على ذهاب يوسف معهم، ليبدؤوا تنفيذ مراحل هذه الخطة.
إن يوسف (عليه السلام) في هذه الحالة: ﴿فلما ذهبوا به﴾، مغلوب على أمره.. يكفي أن نتأمل الصيغة في قوله: ﴿فلما ذهبوا به﴾ حتى ندرك أنّهم لم يذهبوا معه، ولم يصطحبوه بمودّة، ولم يأخذوه برفق، بل أخذوه أخذا قسريّا بعد جهود كثيفة وكذب كثير. ونعرف أن علينا أن ننتظر حدثا بعد الذهاب به، لورود الآية بصيغة تعليق الذهاب على نتيجة لاحقة، مما يشدّ المستمع لمتابعة أحداث المشهد. (لطائف التفسير، د. فؤاد العريسي، ص 61)
– ﴿وأجمعوا أن يجعلوه في غَيابَتِ الجبّ﴾ أي: اتفقوا كلهم على إلقائه في ظلمة الجبّ، وحكى الله تعالى إجماعهم على جريمتهم هذه، لأنّها جريمة فظيعة منكرة، فكلهم اشتركوا بها وتحمّلوا وزرها، وقاموا بتنفيذها بلا رادع ولا مانع، فلم يهتزّ ضمير واحد منهم في أثناء تنفيذ الجريمة وهو يرى أخاه الصغير خائفا زائغ البصر، يستجير بصراخه ودموعه، فلا يتحرّك قلب واحد منهم ولا يهتزّ ضميره ووجدانه. ولا بد أن يوسف (عليه السلام) قد فوجئ بعد ابتعادهم عن أبيهم بانفجار أحقادهم المكبوتة في صدورهم، فقد ظهرت فجأة في عيونهم التي تنظر إليه شزرا، وتقدح في وجهه نارا، وفي أيديهم التي انهالت عليه ضربا ولكما، ألا ما أقسى قلوبهم التي لم تتأثر باستغاثات أخيهم الصغير ودموعه، وهم يدفعونه دفعا إلى مكان الجريمة، ثمّ وهم يشتركون جميعا في إلقائه في ظلمة قعر الجبّ!. (التفسير الموضوعي، 4/143)
وأدركت رحمة الله الغلام الصغير وهو في قعر الجبّ وظلمته، بتحسّسه موطئا لقدميه وموضعا يستند إليه، وهو يرتعش من برودة الماء ويرتجف من هول الجريمة التي فاجأته على غير توقّع وانتظار. خرج مع إخوته طلبا للأنس والانشراح، فإذا به يُلقى في قعر بئر مظلمة، وينتقل من حِجر والده وعطفه عليه وحنانه إلى وحشة الجبّ وظلمتها ورطوبتها، وتداركه الله برحمته ولطفه. لقد كانت عناية الله ليوسف (عليه السلام) فوق كل عناية، وحفظه فوق كل حفظ، قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتْكَ عيونُها .. نمْ فالمخاوف كلهنَّ أمانُ.
فيوسف (عليه السلام) نزل في الجبّ وهو بحالة الذلّ، ولم يغادره إلا وهو موحى إليه.
– ﴿وأوحينا إليه﴾: اختلف فيه المفسرون، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد بالوحي هنا وحي النبوّة والرسالة، ولكن يعكّر صفوه أن يوسف لم يكن بالغا، بل كان صغيرا (يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 57). قال الضحاك: كان عمره ستّ سنين، وقال الحسن: أُلقي يوسف في الجبّ وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولقي أباه بعد ثلاثين سنة، والله أعلم؛ ولذلك أجابوا عنه بأن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحا لقبول الوحي والنبوة. وذهبت جماعة أخرى إلى أن هذا الوحي هنا هو الإلهام، مثل قوله تعالى: ﴿وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه﴾ [القصص: 7]. (يوسف وقصته العجيبة، عليش متولي، شركة مكتبة المعارف المتحدة، الكويت، الطبعة الأولى، 2015م، ص 90)
وأيّا ما كان، سواء بوحي إلهام، أو بوحي النبوّة، الله سبحانه هو أعلم بذلك، المهم أن الله سبحانه تداركه برحمته ولطفه، بما سكّن نفسه المضطربة، وأزال وحشته وخوفه، فشعر أنّ الله معه يرعاه ويرحمه، ويلطف به، وأنّه سينجيه من مِحَنه، ويُظهره أيضا على إخوته، حتى يأتي الوقت الذي يذكّرهم فيه بجريمتهم هذه. (يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 57)
﴿لَتنبِّئنَّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون﴾: إعلام غيبيّ من الله تعالى ليوسف (عليه السلام) زاخر بالمعاني، غنيّ بالإشارات، منها ما يلي:
1. لقد أعلم الله تعالى نبيه أنه سيعود ليلتقي بإخوته لاحقا، مما يشير إلى أن دورة الحياة مهما ذهبت به بعيدا، فإنه سيلتئم شمل عائلته من جديد، ما يُهدّئ نفسه وهو في أشد أوقات محنته.
2. وفيه إعلام بأنه سيجتمع بهم مجددا، ويكون قد مرّ وقت طويل تتغير ملامحه فيكون قد أصبح رجلا، يعرفهم ولا يعرفونه، فيختار هو الوقت والمناسبة لتعريفهم بنفسه.
3. وفيه إعلام بأنه حين يجتمع بهم مجددا، تكون له الغلبة في الموقف فيكون هو الطرف القوي، ويكونون هم في موضع الضعف، ويستشعر الإمداد بالقوة من قوله تعالى: ﴿لتنبّئنّهم﴾، ففيها التوكيد على حصول اللقاء، وفيها التوكيد على العلوِّ ساعة اللقاء. (لطائف التفسير في سورة يوسف، ص 65)
إن الله سبحانه وتعالى آنسه وهو في قعر الجبّ وظلمتها، فأزال وحشته، ونفّس كربته، بما أوحي إليه، فتحول قعر الجبّ المظلمة الموحشة إلى أُنس ونور، ولا يتخلّى سبحانه عن أصفيائه وأوليائه أبدا، يمدّهم ويرعاهم، ويكلؤهم برحمته وعنايته، وهم في ذروة معاناتهم، فعندما كان رسول الله ﷺ في غار ثور، والمشركون محدّقون بالغار من كل جانب، والسيوف بأيديهم مشرّعة وقلوبهم ممتلئة بالحقد والغضب، وأبو بكر يذرف الدمع بصمت، وهو داخل الغار مع رسول الله ﷺ خوفا عليه، آنذاك أنزل الله عليه سكينته وتأييده؛ قال تعالى: ﴿إلّا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنَّ اللَّه معنا فأنزل اللَّه سكينته عليه وأيَّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السُّفلى وكلمة اللَّه هي العليا واللَّه عزيزٌ حكيمٌ﴾ [التوبة: 40].
وعندما خرج رسول الله ﷺ من مكّة مهاجرا إلى المدينة المنورة، ونظر إليها نظرة مودّع، أنزل الله عليه قوله الكريم مثبّتا له ومبشرا إياه بالعودة إليها: ﴿إنَّ الَّذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معادٍ قل ربِّي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلالٍ مبينٍ﴾ [القصص: 85]. ولما خافت أمّ موسى على ولدها من فرعون ووحشيّته وذبحه للأطفال وقتلهم، أوحى الله إليها أن تلقيه في اليم، وهو أمر كبير وخطير على كل أمّ في مثل موقف أمّ موسى، فثبّتها الله سبحانه وسكّن قلبها وأزال حزنها: ﴿وأوحينا إلى أُمِّ موسى أن أرضعيه فإذا خِفتِ عليه فألقيه في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رادُّوه إليكِ وجاعلوه من المرسلين﴾ [القصص: 7]. وانتظر إخوة يوسف بعد ارتكاب جريمتهم حلول الظلام ليستتروا به، وجاؤوا بالكذب الشنيع لإخبار والدهم المبتلى.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...