يوم الوحدة الكندي

بواسطة | أكتوبر 8, 2023

بواسطة | أكتوبر 8, 2023

يوم الوحدة الكندي

بعد خروجي من صلاة الفجر في ميسيساغا، قررت الذهاب إلى محطة الوقود في طريقي إلى المنزل، فالوقود في الخزان على وشك النفاد، ومحطات البترول التي تعمل طوال اليوم والليلة، يوقِف بعضها آلة الدفع عبر المضخة لتأمين السلامة، وتجنباً للتعرض لعمليات عنف بدوافع السرقة أو غيرها، ولذا فقد اعتدتُ النزول إلى المحطة والدفع عند المحاسب.
توجهت إلى باب مبنى المحطة الذي يضم أيضاً بقالة صغيرة، وإذا به مقفل، استغربتُ في البداية، لكنني انتبهت إلى النافذة الصغيرة التي فُتحت بجوار المحاسب، والتي يُخرِجُ منها الموظف جهاز الدفع عبر نقطة البيع الإلكتروني، شعرتُ بظل رجل بقربي ونحن عند لحظات الصبح الأولى، وأدركت أنهُ من (الهوم لس) المشردين، الذين يفقدون منازلهم ووظائفهم، إما بسبب مرض نفسي يتفاقم، أو أزمة اقتصادية تقودهم للمخدرات، أو يُدمن بعضهم لأسباب أخرى متعلقة بفكرة المتعة وتناسي الآلام، وتجد فيهم من اصطاده مروِّج خبيث، وهي ظاهرة تتوسع في كندا يحكمها نظامٌ معقد.
لم أهتم، فقد اعتدتُ على التعامل معهم انطلاقا من موقف أخلاقي أوّلي، مع التزام الحذر الواجب، لكونك -مع شفقتك عليهم- تتعامل مع شخصيات فاقدة لجزء من أهليتها العقلية، وبعضها يعيش مع الانتقال بين جُرَع المخدرات مشاعر انفعال صعبة، تخشى في بعضها من تطور انفعاله إلى حالة تعدٍّ، أو قد ترى الضحية فيما يشبه حالة صرع شديدة، قد يفقد حياته بعدها.
حين اقترابي من النافذة الصغيرة، بدت لي موظفة المناوبة الصباحية شابة صغيرة في مقتبل العمر، وإذا بوجهها مصفر وقلِق، وحالتها مضطربة، تعاملتُ بهدوء وشعرتُ بمخاوفها، وأوضحت لها أني أفهم النظام وسأدفع عبر النافذة. وفي هذه اللحظة اندفع أحد الزبائن وهاجم الشابة، وقال لها: يجب أن تفتحي الباب، لأن المبنى ليس للوقود فقط ولكنه بقالة أيضاً، وأنا أحتاج شيئاً منها.
كان أسلوبه وقحا ومباغتا للشابة، التفتت إليه الفتاة خائفة وأشارت بلطف للرجل الذي يهذي بكثافة، في الجهة الأخرى من النافذة، ولكن الزبون لم يهتم.. بدأت الدموع تنهال من عيني الشابة، ولكن الموقع محكم لا خشية عليها فيه، فمضيتُ إلى سيارتي وبدأتُ بملء الوقود، وما إن انتهيت حتى لاحظت عاملا آخر في المحطة يجمع النفايات، ويقوم ببعض أعمال التنظيف الخفيفة، اقتربتُ منهُ وكانت ملامحه تُنبئ أنه من آسيا الهندية، فيما الشابة على ما يبدو كانت من أصول غربية.
قلتُ له: لعله من الأفضل أن تكون بقرب زميلتك في هذه اللحظة المقلقة، وكأنما فتحتُ له باب حديثٍ ينتظره، فقال لي: أنا كنت في الداخل، فمناوبتي ليلية وزميلتي تبدأ أول الصباح، اندفع علينا في آخر مناوبتي هذا الرجل مع رفيقين، وأخذا في الهذيان ولازما المبنى ولم يَخرجا، فاستطعت إخراجهما بلطف ولكن بصعوبة بالغة، وأقفلت زميلتي على نفسها الباب.
وقال بحسرة: كما تعلم، نحن لا نستطيع أن نُبلغ الشرطة، دون أن تكون هناك حالة تعدٍّ عنيفة، مهما كان المشهد ودرجة توتر (المشرد المدمن)، فلا يجوز لك دعوة الشرطة إلا حين حصول تعدٍّ عنيف، بمعنى أن البلاغ سيكون بعد وقوع حادثة. أنهى حديثه وأنا أدعو له بصمت، ومن يعش في أمريكا الشمالية أو في بعض بلدان أوروبا يدرك حقيقة هذه المشاهد.
 ونحن كمقيمين، نوصَى بشدة بعدم تقديم الأموال لهم، لأنهم سيشترون بها جرعاً من المخدرات وتنتكس حالتهم، فيما تُشرف المصحة المُكلّفة بهم على متابعة وضعهم، لكن هذه المتابعة لا تضمن عدم الانتشار ولا المعالجة. اِلتفتُّ إلى العامل بعد أن استحضرت هذه الأوضاع التي أعرفها وحيَّيْت نبله وشكرته، حيث لم ينصرف إلى بيته وجلس دون أي مقابل مادي، حتى يبعد الخطر عن زميلته.. وأخذني هذا المشهد في مشاعرنا القيمية الكندية الموحدة، القلقة لا على نفسية الشابة فقط، ولا تقديرات مخاوفها وحسب، ولكن على حجم الإضرار العام بالمجتمع، من هذه الفوضى..
تعتبر كندا من أولى الدول التي باشرت عبر المقاطعات المختلفة، فتح وتوسيع أبواب تعاطي المخدرات وقانونية بيعها، بدرجة تختلف من مقاطعة إلى أخرى، لكن الحالة بالجملة أصبحت مهدداً فعلياً لمستقبل الأجيال وأخلاقهم من كل الأديان والأعراق، ولن تجد في كندا حملات إعلامية موجهة للتحذير من آفة المخدرات، تُنشر في قنوات ومواقع السوشل ميديا، فالهيمنة محسومة للسوق الرأسمالي، ولا سيما بعد انتشار المارجوانا، والسماح ببيعها في متاجر متعددة.
وفسحت بعض سلطات المقاطعات المجال للأنواع الأخرى من المخدرات، وهناك مساحة تقنين وجدل حول المسألة، لكن قضية تشريع تعاطي الأفيون والكوكايين، حتى ولو بكمية محدودة في إطار قانوني، أضحت في المحصلة قضية مروعة لكل صاحب مبدأ إنساني، يخشى من عواقب المخدرات على أسرته وذاته ومجتمعه، ولا توجد أي شريحة اجتماعية أو دينية من قوميات كندا، لا يهددها انتشار هذه السموم، فهو خوفٌ موحد.
لقد أثارتْ هذه الحادثة رغم بساطتها سؤال الإنسان والأخلاق، ليس من خلال الخطاب الديني الوعظي، ولكن عبر مفهوم المصالح البشرية الجمعية؛ وسؤال الأخلاق هنا: أين هي صحة الإنسان النفسية والطبية؟ وأين هو استقراره الاجتماعي؟ أين هو حقه في الاختلاف مع هذه الأنظمة القانونية؟ فهل كل من صوّت للأحزاب الحاكمة في المقاطعات، أو في الحكم الفدرالي يوافق على هذه الخطوة الخطرة، في تسليع حياة الإنسان، بحكم أن قرار التعاطي (المقنن) هو ضمن الحريات الشخصية المطلقة، التي تحكمها نزوة المتعة الشخصية في عالم التوحش المادي؟.. بمعنى أن هذه الصورة هي جزء من مشهد كبير لآثام الحداثة بحق الذات الإنسانية.
ومن المفارقات أن هذه الحادثة وقعت في مناسبة خروج الكنديين، بصورة موحدة لأطياف متعددة يقودها التحالف الإسلامي المسيحي، في العشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي، حيث أجمعت كل هذه الأطياف في مسيرات ضخمة، على رفض فرض تعليم المثلية على أبنائها، والترويج القهري الشرس لها، وتشكيك الطفولة المبكرة بجنسها؛ ورفضت المسيرة نزع سلطات الأبوين الرعوية والتربوية، وتسليمها للوبيات مناهضة لقيم الأهل، تأخذ الطفل إلى المشفى لاستئصال أعضائه الجنسية دون علم والديه، وهذا الحراك سمعت منه تأكيدات كثيرة، على أن مطالبهم لا تتضمن رسائل كراهية لأحد، بل يريدون فقط حقهم وحق الضمير الذي نص عليه الدستور لحماية فلذات أكبادهم.
آنذاك حدثت المفاجأة التي جعلتني أتساءل: هل هذه كندا حقاً؟!
فبدلاً من يُحتفى بروح الانسجام والتعاضد بين التعدد الكندي، اِتُّهم المتظاهرون والشعب المتضامن معهم بالكراهية، وتم توعدهم بالعقوبة في تعدٍّ على حق دستوري أساسي لهم!.  فأيهما يدعو للكراهية؟ أهو الحب الفطري للأسرة والطفولة، والحرص على حماية صحتها النفسية والطبية؛ أم من يقمع روح الإنسان، كل إنسان، لصالح النزوة والشهوة ولعبة السياسة والأموال؟

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...