المُقاوَمة شِعرًا

بواسطة | مايو 20, 2024

بواسطة | مايو 20, 2024

المُقاوَمة شِعرًا

شأن كثيرٍ من المصطلحات النّقديّة والأدبيّة، تعرّض مصطلح (شعر المقاومة) إلى تحوّلاتٍ في مفهومه، جَعَلَتْ منه مصطلحًا محتاجًا أشدّ ما تكون الحاجة إلى تأصيله، وتوسيطه… وعلى خلافِ مَنْ يزعم أنّه مصطلحٌ نشأ على يدي غسّان كنفاني في محاولاته الأولى لإجابته عن سؤال المقاومة خلال فترة المدّ القوميّ واليساريّ الّذي اجتاح الأمّة في خمسينيّات القرن الماضي وستّينيّاته … أقول على خلاف مَن يذهبون هذا المذهب، أرى أنّ هذا المصطلح مُوغِلٌ في التّجربة الشّعريّة، إيغال الشّعر في أعماق النّفس البشريّة ذاتها… عندما تغنّى أوّل شاعر بالثّورة ضدّ سارقي حقوقَه أيّا كان عنوان تلك الحقوق، بيد أنّه يجب التّوقّف هنا للاتّفاق فيما إذا كنّا نقصد المصطلح في دلالته اللّفظيّة أم نقصده في دلالته المضمونيّة، فإنْ ذهبتَ إلى اللّفظ على هذه الشّاكلة فأنا مع الّذين يقولون بجِدّته، ولكنّني أرى – على مستوى المضمون – أنّه تعتّق منذ محاولات الشّعر الأولى الّتي هَلْهَلَها المُهَلْهِل!

        لقد ارتبطَ هذا النّوع من الشّعر بالهمّ الوطنيّ في الدّرجة الأولى، إذ إنّه عُنِيَ بالتّحرّر من سلطة الأجنبيّ، وإذا كانت سلطة الأجنبيّ الّتي تُوقِعُ الظّلم على أفرادٍ أو جماعاتٍ، تُجابَهُ بالمقاومة من أحرار هؤلاء الأفراد والجماعات، فإنّ هذا الوصف المبدئيّ ليس خاصًّا بزمانٍ أو مكانٍ مُحَدَّدَيْنِ دون سواهما؛ فحيثما وُجِدَ الاحتلال كانت المقاومة، وإذا صحّت هذه الفرضيّة بالبَدَهيّة، فأنّى لنا أن ندّعي أنّ هذا التّوصيف الحديث في لفظه، العتيق في مضمونه خاصٌّ بعصرنا هذا دون أن يمتدّ إلى كلّ عصرٍ ومِصْر ؟!

        وعليه، فليس من المنطق أن نسحب الحُكمَ على المناخ السّياسيّ في عصرٍ ما على هذا النّوع من الشّعر؛ إذ ليس بالضّرورة أن يسوء شعرُ المقاومة إذا ساءت الأحوال السّياسيّة، أو أن يتقدّم إذا هي تقدّمت، فإنّ المتتبّع له يُدرِكَ أنّ ارتباطه بالمناخ السّياسيّ السّائد ارتباط هُلاميّ ليس له سمةٌ ثابتة؛ فحين كانت الانتصارات السّياسيّة ترفع – أحيانًا – وتيرة هذا النّوع من الشّعر، كانت الانكسارات السّياسيّة تفعل الشّيء ذاته، وعليه فإنّه يجب أن نكون حذرين في إطلاق أحكامنا على شعر المقاومة، ونحن نربطه بالمناخ السّياسيّ السّائد.

        إنّ القصيدة المُقاوِمة استندت منذُ تشكّلها الأوّل إلى قدرة مُبدِعها على إعادة صياغة تجربة ناضجةٍ، ووعيٍ متقدّم، بمفردات فنّيّة قادرة على الارتقاء بالوِجدان لتكون بمستوى الفعل المُوازي لها أو الّذي يسبقه أحيانًا. وبينَ فنّيّة عاليةٍ ضروريّة للنّهوض بروح القصيدة ولغةٍ محفّزةٍ تملك القدرة على التّوجيه والاستثارة تقع هذه القصيدة المُقاوِمة في فخّ توازنٍ ليس سهلاً؛ فهو إمّا أن يدفع الشّاعر إلى التّرميز الّذي يهوي بالقصيدة في بئر الغموض، وإمّا أن يدفعه إلى المباشرة والوضوح الّذي يجعل القصيدة تتردّى في بحر التّسطيح، ومن هنا تبرز الشّاعريّة الفذّة الّتي تصوغ – من موضوعٍ مُباشرٍ كالمقاومة – شعرًا خالدًا يحمل في داخله أسباب بقائه واستمراره، لا موته واندثاره …

        ولا ننسى أنّ الاصطفافات السّياسيّة – كنّا معها أو ضدّها – عبر عصور الأدب جميعها، كانت أرضيّةً خصبة لنموّ هذا النّوع من الشّعر، وتفشّيه بين الفِرَق المتنازعة إلى الحدّ الّذي شكّل جزءًا من وَقودها وضِرامِها، فثارت الشّعوب ونَشَبَتِ الحروب وتمايز النّاس بسببٍ من بيتٍ أو قصيدة، ولربّما استعرت نزاعاتٌ على مدى عقود كان الشّعر وقودها الضّامن استمراريّتها، هذا إن لم يكنْ باعثها الأوّل، ومُشعل جذوتها الأكبر!

        إنّ شعر المقاومة يجب ألاّ ينحصر – فيما أرى – في مقاومة المحتلّ والأجنبيّ ، فإنّ الكتابة ضدّ الأنظمة الاستبداديّة، والقوى الظّالمة يندرج تحت هذا المفهوم أيضًا، والآخَرُ المُقاوَم ليس بالضّرورة أن يكون شعبًا أو جيشًا، فقد يكون فردًا، أو حتّى فكرةً أو عقيدةً تسعى إلى التّغوّل والاستعباد. 

        لقد سار هذا المصطلح (شعر المقاومة) مع السّيرورة التّاريخيّة، وتميّز بالتّحوّلات ولم يستقرّ أو يتجرّد حتّى اليوم، إذ صار يعني ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الهزيمة أو الاستسلام، ولقرب عهدنا بهذا العصر، فإنّك تجده قد التصق بأسماء شعراء لامعين أصبحوا يُعرَفون به، وإذا كان من الخطأ أن ينحصر المفهوم في أشخاص فيلازمهم حتّى الممات، فإنّ من الشّعراء من وَجَدَ في التصاقه بهم تضييقًا على حرّيّتهم في تقديم إبداعهم وتقويمه.

        وإذن فإنّ شعر المقاومة هو صرخة الشّعراء في وجه قوى الاحتلال والاستبداد والظّلم، صرخةٌ وَقُودها مشاعرُ متّقدة تستنهض الهِمَم لتحمي الذّات من التّبعيّة والاستلاب.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...