دمعة وابتسامة.. حافظ إبراهيم بين الظرف والبؤس

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 24 أغسطس, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 24 أغسطس, 2024

دمعة وابتسامة.. حافظ إبراهيم بين الظرف والبؤس

فكرت اليوم وأنا أسير إلى العمل: لماذا يا ترى اختفى الأدب الفكاهي والمقال الذاتي والقصة الطريفة والنكتة اللماحة؟ لماذا لم نعد نقرأ نوادر الأدباء وطرائف المؤلفين وخفة روح الظرفاء؟ لماذا يرتبط ثقل الدم بالمثقف، وقد كان من قبل صورة لشخص سريع البديهة حاضر النكتة ونديم الملوك؟ ألا يكفى ما نرى من ثقل ظل أهل الاستبداد وطلتهم الكريهة على شاشات التلفاز، وفلسفتهم علينا في أمور الدنيا والدين؟

كنت أسير وأفكر في سلالة النور حافظ إبراهيم، وإبراهيم عبد القادر المازني، ويحيى حقي ومحمود السعدني.. أين اختفت روح الدعابة؟ هل السبب خيبتنا في السياسة وتداعي الأمم علينا؟ ربما.

حافظ وشوقي

قمت إلى كتبي وأنا أبحث عن ابتسامة، وقد صرفت الأسبوع الماضي في قصص أمير الشعراء أحمد شوقي وأنا أطالع كتاب “شخصيات في حياة شوقي” لعبد المنعم شميس، وقرأت نثر شوقي الجميل في مقدمته لديوانه، وهو يحكي عن نفسه، وشعرت بواجب البحث في حياة صديقه المقترن ذكره به دائما، حافظ إبراهيم، وسأحكي لك بعض نوادره وطرائف حياته.

ولد حافظ سنة 1871، وكان الكتاب الأول الذي هداه إلى سر الأدب العربي، وأرهف ذوقه وأحكم طبيعته، هو كتاب «الوسيلة الأدبية» للشيخ حسين المرصفي. هذا الشيخ المرصفي يدين له زكي مبارك بكل شيء في حياته الأدبية، فقد لازمه زكي مبارك وكان يسير معه إلى منزله، والمسافة لا تحتاج إلى أكثر من عشرين دقيقة، لكنهم يقطعونها في سبعين دقيقة، لأن الشيخ كان يحب أن يسمع شعرا، فيسمعه زكي مبارك بعض ما يحفظ من شعر العرب، وكان زكي مبارك يحفظ 30 ألف بيت، وحين يسمع الشيخ بيتا جيدا يقف ويقول: الله الله!

عاش شوقي في قمة الثروة والرخاء والرفاهية، في حين كان حافظ في قاع الفقر والبؤس، حتى بعد أن منح رتبة البكوية وعين وكيلا لدار الكتب! وكان حافظ يقول في مجالسه: إن اسم حافظ وشوقي أصبح مثل نداء الباعة… سميط وبيض! وقد استمر هذا خمسين عاما، وقد بعث شوقي عام 1917 من منفاه بإسبانيا، إلى حافظ إبراهيم بواسطة داود بركات، رئيس تحرير الأهرام، بثلاثة أبيات:

يا ساكني مصر إنا لا نزال على

عهد الوفاء، وإن غبـنا، مقيـميـنا

هلا بعـثـتم لنا مـن ماء نـهــركـم

شـيـئا نـبـل به أحـشـاء صاديـنا؟

كل الـمـناهل، بعـد النـيـل، آسـنة

ما أبـعـد الـنـيل إلا عن أمـانـيـنـا

ورد حافظ إبراهيم:

عجـبـت للـنـيـل يـدري أن بـلـبـله

صادٍ، ويسقي ربى مصر ويسقينا

والله ما طـاب للأصـحـاب مورده

ولا ارتضوا بعده من عيشهم لـينا

لم تـنـأ عـنه وإن فـارقـت شاطـئه

وقـد نـأيــنـا وإن كـنــا مـقـيـمـيـنا

شاعر البؤساء

لم تشهد القاهرة شاعرًا أظرف من حافظ إبراهيم، فقد كان ينتقل مثل النسيم- ومعه الشاعر الصعلوك إمام العبد- من قهوة إلى قهوة، ومن حانة إلى حانة، ليحكي الحكايات ويروي الروايات ويقول النكت اللاذعة البارعة. وكان إمام العبد شاعرًا أسود الوجه، ذات يوم جاء إمام العبد إلى حافظ إبراهيم، وكان الصيف قائظا شديد الحرارة ولم يضع العبد رباط عنق حول قميصه، فظهرت رقبته السوداء، وبادره حافظ قائلا: أنت لابس كرافتة سوداء ليه يا إمام؟ مين مات لك؟

وعندما ذهبا- حافظ وإمام العبد- إلى الإسكندرية معا، نزل إمام العبد ليستحم في البحر، ثم خرج من الماء متجها إلى أستاذه حافظ إبراهيم الذي صاح ضاحكا: سوداني ومملح!

ومات لإمام العبد صديق كان يملك ورشه لحام، وحين سمع حافظ الخبر بدا وجهه متأثرا وقال: الله يلحمه!

شاعر النيل الذي ملأ الدنيا بالضحكات كان بائسا، وترجم رواية فيكتور هوغو التي يسميها شوقي “الأشقياء”، والبؤس هو الحزن والفقر، وأخو الحزن والفقر بائس. وقد جمع أهل الصرف البائس على بائسين وبُؤَّس، وجمعه حافظ إبراهيم، خارجا عن القياس الظاهري على بؤساء في عنوان ترجمته لفيكتور هوغو، كما يخبرنا عارف حجاوي في كتابه “اللغة العالية”.

أخبرنا الرافعي أن حافظ إبراهيم دلّه على صفحة في ترجمة رواية البؤساء، وقال له إنه ترجمها في خمسة عشر يوما، وقد حضر الرافعي جلسة لحافظ إبراهيم وهو يترجم أسطرا من الرواية «في قهوة الشيشة»، يخطها في دفتر صغير دون حجم الكف، فاجتمعت له ثلاثة أسطر في ثلاث ساعات، فهو يبطئ في نثره أكثر مما يبطئ في الشعر، وهذا لا يعيبه وهو الذي يبحث عن الفن.

شاعر لا يعرف الغزل

يقول الأديب محمد كرد علي: “ولا أذكر أن أدهشتني حافظة أديب كما أدهشتني حافظة حافظ، ولا أخذ بمجامع قلبي حديث شاعر كحديثه، وقلَّ أن رأيت مرحا كمرحه وتنادرا كتنادره”.

ويحكي لنا الأديب مصطفى صادق الرافعي أنه سأل الشاعر حافظ إبراهيم مرة: هل تحب؟ فقال حافظ إبراهيم: النساء اثنتان: فإما جميلة تنفر من قبحي، وإما دميمة أنفر من قبحها!. وهنا علق الرافعي: “ولهذا لم يفلح حافظ في الغزل والنسيب، ولم يحسن من هذا الباب شيئا يسمى شيئا، وبقي شاعرًا غير تام، فإن المرأة للشاعر كحواء لآدم: هي وحدها التي تعطيه بحبها عالمًا جديدًا لم يكن فيه، وكل شرها أنها تتخطى به السماوات نازلا”.

وهذا المعنى في شخصية حافظ إبراهيم عبّر عنه الأديب عبد العزيز البشري في كتابه “في المرآة”، فحافظ إبراهيم شاعر يحب الجمال ويكره القبح وينعى على أهله، وكان حافظ ما يطلع عليه فتى دميم الخلق غير مستوي معارف الوجه إلا قال له: يا فتى، ليس الوزر عليك، بل على أبيك لأنه لم يؤد مهرًا! وكان عبد العزيز البشري يرد عليه: إذا اطردت نظرية حافظ، فلا شك في أن المرحوم والده تزوج على الطريقة الإفرنجية، فلم «يدفع» مهرًا أبدًا.

وكان البشري يقول: “لو أطلقت حافظ إبراهيم في البر حسبته فيلا، أو أرسلته في البحر ظننته درفيلا!”. ولكن اكشف بعد هذا عن نفسه التي يحتويها كل ذلك، عن شخص يقول عنه البشري: “خفيف الظل، عذب الروح، حلو الحديث، حاضر البديهة، رائع النكتة، بديع المحاضرة، إذا كتب لك يوما أن تشهد مجلسه، أخذك عن نفسك، حتى ليخيل إليك أنك في بستان تعطفت جداوله، وهتفت على أغصانه بلابله، وأشرق نرجسه وتألق ورده”.

شاعر ظريف

وفي كتاب “الظرفاء” لمحمود السعدني حكاية عن حافظ إبراهيم وهو جالس في حديقة داره بحلوان، ودخل عليه عبد العزيز البشرى وبادره قائلا: لقد رأيتك من بعيد فتصورتك واحدة ست، فقال حافظ إبراهيم: والله يظهر أن نظرنا ضعف، أنا كمان شفتك وأنت جاي افتكرتك راجل!

وكان البشرى وحافظ إبراهيم مدعوَّين إلى إحدى الرحلات، ودخل البشرى على حافظ في غرفة النوم وطلب إليه أن يرتدى ملابسه فقال حافظ: أنا لسه ماغسلتش وشي، فقال له البشرى: وشك موش عاوز غسيل، نفضه كفاية!

وتعود عبد العزيز البشري أن يستخدم صيغا مختلفة في القسم بالله، فكان يقول مثلا: أقسم بالله ثلاثا… وحق ذات الله العلية… قسما بذي العزة والجلال.. وكان إذا استعمل أحد هذه الأقسام في أول الليل ظل يستعمله إلى آخر الليل.

وفي إحدى الليالي لاحظ حافظ أن عبد العزيز البشري استعمل كل صيغ الأقسام، فسأله: “إيه الحكاية؟ هوه مفيش «يمين» نوبتشي الليلة!”.

ويحكي ثروت أباظة في كتاب “القصة في الشعر العربي” أن حافظ إبراهيم كان يشرب مع أحد المشايخ الأجلاء وبعض الأصدقاء، وفجأة جاء للشيخ من يخبره أن بعض مريديه قدموا ليؤمهم في الصلاة، فقام الشيخ إلى مريديه وكتب حافظ:

الشيـخ قام يصلي   ونحن نسكر عنه

تـقـبَّـل الله مــنّـــا   ولا تـقـبّــل مـنـه

وكان معروفا عن رشدي باشا وعدلي باشا رئيس الوزارة أن تعليمهما فرنسي، وأنهما لا يصليان، ولكنهما اضطرا إلى أن يصاحبا الملك «فؤاد» في الصلاة، ولم يستطع حافظ أن يسكت:

عدلي يصلي ورشدي   آمــنـت  بالله  ربـــي

يــا رب أبْــقِ فـــؤادًا   حتى يصـلــي أللنـبي

وقد كان أللنبي المعتمد البريطاني في مصر في ذلك الحين.

واشترى الشيخ المراغي خمسة من الديوك الرومي، ولم يكد الصباح يطلع عليها حتى ماتت، فأرسل حافظ إبراهيم إلى الشيخ كتاب تعزية قال فيه:

رحم الله خمـسة من ديوك   للمراغي عوجلت بالـفـناء

فلـو أن الأستاذ خُيِّر فـيـها   بيـن مـوت لها وبيـن فـداء

لافتداها بخمسة من شيوخ   من أساطيـن هيئة العـلمـاء

وكان المراغي في ذلك الوقت شيخا للأزهر، ورئيسا لأساطين هيئة العلماء!

رد الكاتب محمود السعدني في كتابه “الظرفاء” على من وصفوا حافظ إبراهيم بأنه كان يتعمد إضحاك الأثرياء والباشوات ليفيد منهم، وهي غلطة فظيعة وقع فيها فيما بعد طه حسين عندما كتب مقالا عن حافظ قال فيه هذا المعنى، وهنا يقول السعدني: “كأن المفروض أن يكون الأديب متجهم الوجه، يحتل فمه أكليشيه من الاحتقار للناس، فلا يضحك إلا بقدر ولا يطرب إلا بمقدار”.

وفي السياق نفسه أعجبني تصوير الرافعي للأمر، عندما حكى عن اتصال أسباب حافظ إبراهيم مع الشيخ محمد عبده وحشمت باشا، وسعد باشا زغلول، فهؤلاء الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظاما في زمن حافظ، كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة، فكان لهم حافظ كالثروة في هذا الباب، ووقع إصلاحًا في عيشهم وكانوا إصلاحَا في عيشه، ثم يقول الرافعي: “لو أن الأقدار تشبه بالمدارس المختلفة، لقلنا إن «حافظ» تخرج منها في مدرسة التجارة العليا… فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة”.

وإذا أردت أن تتخيل عصر حافظ إبراهيم، فإليك ما حكاه عنه أحمد حسن الزيات في كتاب “سير ورجال”، فقد كان هذا الجيل لا يزال على بقايا من التقاليد الجميلة، التي نقرأ عنها في كتب الأدب القديم، يقول الزيات:

“فالناس يجرون على أثر من خلال الفتوة يرتاحون للندى، ويتنافسون في العرف، ويهتزون للبطولة، ويطربون للبيان، ويجيزون على الشعر، و(مناظر) الدور وأبهاء القصور تأخذ في كل مساء زخرفها من أهل الأدب ورجال السياسة وأصحاب الجاه وأرباب الحكم، وكان مدار الحديث فيها على النكتة البارعة، والخبر الطريف، والمسألة الدقيقة، والبلاغة المأثورة، يتساقطها السامرون على محض المودة ووثوق الألفة، فتفتق الذهن وتصقل الذوق وتوجه الميل وتنيل الحظوة.

فالمجالس تشيع حر الكلام، والصحف تذيع بارع النقد، والخديوات يتخذون من الأدباء ندامى ومن الشعراء بطانة، حتى قر في نفس حافظ وأنداده من ناشئي الشباب الطامحين أن الأدب كان سبيل الثراء لعلي الليثي، وسبب المجد للبارودي، ووسيلة الزلفى لشوقي، فتجهز لهذه الغاية بجهاز هذه البيئة، فروى رقائق الشعر، وجمع مقطعات الحديث، وراض نفسه على معاناة القريض”.

وقد لخص الزيات شخصية حافظ إبراهيم بقوله: “قطع حافظ مراحل عمره على هذا المنهج البوهيمي، لا يدخل في نظام، ولا يصبر على جهد، ولا يرغب في عمل، ولا يطمئن إلى تبعة، وإنما يضطرب نهاره من قهوة إلى قهوة، ويتقلب ليله من مجلس إلى مجلس، وأينما كان كان الأنس الشامل، والظرف الناصع، والأدب الغض، والحديث المشقق الذي يمتزج بالروح، ويغمر بالنشوة جوانب النفس”.

وعندما تقلب الكتب ترى روح حافظ إبراهيم محب النكتة وسريع البديهة، ففي “سجن العمر” لتوفيق الحكيم قصة عن حافظ إبراهيم- دلني على القصة تغريدة للكاتب فهد بن عسكر الباشا-، قيل إنه كان يستمع إلى إحدى المطربات في ملهى من الملاهي وإلى جواره شبلي شميل، الملحد الذي لا يؤمن بغير الطبيعة، فلما أجادت المطربة في الغناء صاح حافظ إبراهيم مع الصائحين: «الله!»، ثم التفت إلى شبلي شميل وقال له: وأنت كيف تصيح عند الطرب والله عندك غير موجود؟! هل ستصيح: «طبيعة! طبيعة!»؟!

جيل من الظرفاء

وقد عرف الجيل الأسبق عددا من الظرفاء، كانت لهم جلسات وندوات مشهورة، ويبدو أن العصر كان خالي البال إلى درجة ملحوظة كما حكى لنا صلاح عيسى في كتابه “هوامش المقريزي”، فقد كان الشيخ حمزة فتح الله عميد مفتشي اللغة العربية اتفق مع صديقه شاعر القطرين خليل مطران ألا يتحدثا إلا باللغة الفصحى، وعلى الرغم من هذا فقد أخذ كل منهما يشنع على الآخر.

فقال مطران إنه ذهب لزيارة الشيخ حمزة في منزله فسمع مطربا يغني أغنية مطلعها: “إن كان كدا ولا كدا.. لأصبر على كيد العدا”، فسأل مضيفه عن الأغنية فقال الشيخ حمزة إن المطرب يغني: “إن كان كذا أو كذاك أو كذلك فلأصبرن على كيد الأعداء”، وقصتهم وهم يكلمون الكمساري لينزلهم في محطة “معسكر قيصر”، ولم يفهم الكمساري بالطبع، وهم يقصدون محطة “كامب شيزار”، وذهبوا إليها سيرا على الأقدام.

ويحكي سلامة موسى في ذكرياته أن حافظ إبراهيم كان من الجواهر التي لا تزال تلمع وتسطع في ذكريات جميع الذين عرفوه، وكان يمتاز بوجه كالح متجهم يصدم، بل يخيف لأول نظرة، حتى إذا قضى معه الإنسان نصف ساعة ود لو ينهض ليقبله ويعانقه، فقد كان أنيسا يحدثك بنكات، ويذكر سلامة موسى من نكاته أنه سأله ذات مرة عن رأيه في أحد الشعراء فكانت إجابته العجيبة: “إن أشعاره يجب أن تنسى عن ظهر قلب”.

ويحكي حافظ محمد نكتة عن ضخامة كامل الشناوي وهو فتى صغير ومقارنة بينه وبين ابن الشيخ محمد الهراوي، حتى سمعوا نكتة لحافظ إبراهيم يقول فيها لمحمد الهراوي: يا محمد أنا شفت النهاردة دار الكتب واقفة جنب ابنك”، وبهذه النكتة ضاعت زعامة الضخامة بين فتيان الحي من كامل الشناوي.

وکان حافظ إبراهیم في طريقه إلى دار الكتب عندما كان مديرا لها، وإذا بأحد المارة يستوقفه ليسأله قائلا: والنبي يا عم الشارع ده رايح على فين؟ فأجابه حافظ: يا أخي، لا رايح حتة ولا جاي من حتة، أهو طول عمره هنا!

وكان لحافظ إبراهيم جماعة يزورنه في أوقات غير مناسبة، وفي صباح أحد الأيام ذهبوا إليه في ساعة مبكرة، فقابلهم وهو يلبس القبقاب. فقال أحدهم معاتبا: بقا يصح يا بيه تنزل تقابلنا وأنت لابس القبقاب؟ فقال حافظ بك على الفور: لو كنت عارف أنكم أنتم، كنت نزلت لكم بالجزمة!

وقدرة حافظ إبراهيم على الحفظ واستحضاره للشعر العربي كبيرة، وقد صاحب الأديب أمين نخلة حافظا في بيروت ودمشق، وشهد بنفسه قوة حفظ شاعرنا، وتطرق ذات مرة في مجلس لمحافظ دمشق في فندق فيكتوريا على ذكر عمر بن أبي ربيعة وقصيدته “أمن آل نعم”، فلا والله ما ترك (حافظ) من القصيدة بيتا شائقا إلا وقد أفرغه من حافظته، كما تفرغ أنت الماء من وعائه! والمشهد برواية أمين نخلة.

ويحكي الزيات في كتاب “ذكرى عهود”، جمع وتحرير د. عبد الرحمن قائد، أن الزيات سهر عند أحمد شوقي ومعهما حافظ إبراهيم يراجعون قصيدة يلقيها شوقي في أحد المهرجانات، وفي قهوة بميدان الأوبرا كانت موضع ملهى «بديعة»، جلس الزيات وحافظ رأسا إلى رأس، يقول في شوقي ويسمع الزيات، ويفتنُّ حافظ في النكات ويضحك الزيات، حتى قال حافظ: “سأنشدك قصيدتي لترى فيها رأيك”. وأخذ شاعر النيل يقرأ للزيات عينيَّته بصوته الفخم وإلقائه المعبر حتى فرغ منها.

ثم نظر إلى الزيات نظر المستفهم المطمئن المعجب، فقال له الزيات: هنيئا لك التصفيق الحاد والاستعادة المتكررة يا حافظ! قصيدة شوقي للقراءة وقصيدتك للسماع، ومعانيه للخاصة ومعانيك للجمهور!

فقال حافظ إبراهيم في لهجته الساخرة الفكهة: وهل يعنيني غير الجمهور؟

رحيل حافظ إبراهيم

كان شوقي يتمشى في “المنتزه” بالإسكندرية، وعبد الوهاب يحاول اللحاق به، فشوقي يسير هائما مسرعا وهو ينظم، ثم وقف شوقي، وكان يعالج نظم قصيدة يرثي بها حافظ إبراهيم، وقف وقال لعبد الوهاب: اسمع الـمطلع:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي   يا منصف الأموات والأحياء

فسكت عبد الوهاب، فأطرق شوقي ثم قال: بل نجعلها: “يا منصف الـموتى من الأحياء”. وهذه أوقع وأجمل كما يقول عارف حجاوي.

وعرف المؤرخ محمد عبد الله عنان حافظ إبراهيم لأول مرة شاعرًا، وهو تلميذ يتلو قصيدته في رثاء الزعيم مصطفى كامل رحمه الله، ولما توفي حافظ عام 1932، وجاءت العربة التي تحمل جثمانه، وكان عنان في لفيف من المنتظرين لقدوم النعش، تقدم الشيخ عبد العزيز البشري من العربة حاملة النعش ولمسه بيده وهو يقول بصوت مبك: “حنروح بعدك فين يا حافظ؟!”.

تناقضات حافظ إبراهيم كثيرة، لا يقنعني من يضعونه بين شعراء الوطنية، فله شعر في مدح الإنجليز، ولم يقدم شهادة عادلة عن حرب السودان التي ذهب إليها جنديا معهم، واعتبر جيش المهدي هو العدو، لكني حاولت تسليط النظر حول حافظ الأديب وظرفه وروحه الضاحكة وشخصيته المنطلقة في ميادين الأدب، فقد عكف منذ شبابه على دواوين الشعراء وأجزاء كتاب الأغاني ينتخلها ويتمثلها ويعاود النظر فيها ويستكمل الحفظ منها، حتى بلغ من مختار الرواية ومصفى الكلام ما لا غاية بعده كما شهد له الأديب أحمد حسن الزيات.

محمد عبدالعزيز

مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات

1 تعليق

  1. سرمد حاتم شكر

    عاشت الايادي استاذ محمد، مقال ممتاز.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...