
فكُّ رقبة.. وساطات لإخراج المعتقلين من سجون عبد الناصر
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 20 يوليو, 2024

مقالات مشابهة
-
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة...
-
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً...
-
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي...
-
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع...
-
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها...
-
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 20 يوليو, 2024
فكُّ رقبة.. وساطات لإخراج المعتقلين من سجون عبد الناصر
مما يُشجيني من أمر هذه الحياة التفكير في المسجونين، وتخيُّل أثر غياب الحرية في نفوسهم، ومن كثرة تفكيري في هذا الأمر نادرًا ما أكتب عنه، بينما لا تمر بي أيام إلا وأتذكر طيف مظلوم غائب وأدعو له، وأفكر في أهله وأحزن لفراقهم إيَّاه.
يحب الواحد منا قصص الطيبة والرحمة، لكنه عند سماع قصص السجون والحروب وشهادات البؤساء، تظهر أمامه شرور العالم ويتبدَّى فساد البشر وحَيْوَنة الإنسان، يرى المكر وفساد الخُلُق والانحراف والظلم، وعندما يسمع شهادات الضحايا يكتشف غِلظة الجلادين وقسوة قلوبهم، لحظة الوعي بالظلم تفجر في القلب حرقة.
ومن مسرَّات الدنيا، سماع خبر حصول إنسان على حريته، يا الله! كم أهرب من تخيُّل قسوة حرمان أحدهم من حريته، لذلك أحس بفرحة عارمة لمن يعود إلى عالم الأحياء بعد عَيشه في جحيم السجون.
يقول الطاهر بن جلون في روايته المؤلمة “تلك العتمة الباهرة” عن سجن تازْمَامارت: “يصير الموت المفاجئ كأنه خلاص!”، وآخر نص قرأته من شهور عن أدب السجون هو كتاب “ناجٍ من المقصلة” لمحمد برو، وبعدها توقفت عن القراءة في هذا العذاب.. لم أعد أحتمل قراءة الفظيع وتمثُّلاته، خصوصًا مع شعوري بالعجز عن التخفيف عن أي سجين.
وعلى سيرة السجن، فكرت اليوم: ما الرابط بين الزعيم علال الفاسي والملك فيصل آل سعود، والرئيس السوفييتي خروتشوف، والفيلسوف جان بول سارتر، والرئيس الجزائري بوتفليقة، والرئيس العراقي عبد السلام عارف؟
الرابط أن جميعهم توسَّطوا لدى الرئيس جمال عبد الناصر للإفراج عن معتقلين مصريين في السجون المصرية!
مقتل شُهدي عطية
يحكي ألبير آريه في “مذكرات يهودي مصري” أثر قتل المناضل الشيوعي شُهدي عطية في سجون عبد الناصر: “وفاة شُهدي عطية هي التي وَقَفت التعذيب، لأنها كانت فضيحة عالمية، وقبل شُهدي كان قد توفي عددٌ من المعتقلين من التعذيب، كان أولهم الدكتور فريد حداد، الذي كان الضابط يونس مرعي يضربه بالشومة على جمجمته ويسأله: إنت روسي يا واد؟ فيرد عليه: فريد حداد.. طبيب مصري. ومات متأثرًا بالتعذيب، وقُيِّد سبب وفاته (ضربة شمس)! وكانوا أحيانًا يُفْرجون عن أصحاب الحالات الحرجة قبل الوفاة بيوم أو اثنين، ليموتوا في منازلهم”.
ويقول صلاح عيسى في كتابه “الموت في تشريفة الحليف الوطني” إن خبر قتل شُهدي عطية وصل إلى عبد الناصر وهو في مقابلة مع الرئيس تيتو: “تيتو طلب من النوّاب في البرلمان أن يقفوا دقيقة حدادًا على وفاة المناضل الشيوعي شُهدي عطية الشافعي، الذي مات إثر تعذيبه في سجون الجمهورية العربية المتحدة، في حضور عبد الناصر الذي أُجبر على الوقوف مع النوّاب اليوغوسلاڤ حدادًا على مقتل شُهدي، وعقب الجلسة أرسل ناصر ببرقية مفتوحة (غير مشفَّرة) يأمر فيها بالتحقيق في الحادث، ليتنصَّل بذلك من المسؤولية السياسية عنه، لِتَقَع على عاتق سُلطات مصلحة السجون”.
وجاء في نعي شُهدي عطية في جريدة الجمهورية، وهو الذي قُتل تحت التعذيب في سجون عبد الناصر، استشهاد بأبيات أبي تمام:
فتىً مات بين الضرب والطَعن ميتةً تقـوم مقـامَ الـنصـر إذ فـاته الـنصـر
وكانت هذه الميتة هي التي خفَّفت عن الشيوعيين المصريين التعذيب في السجون المصرية!
كيف أفرج عبد الناصر عن شريف حتاتة؟
في مذكرات شريف حتاتة “النوافذ المفتوحة” وصفٌ جميل لمولده، يقول: “ولدت يوم الجمعة 13 سبتمبر 1923، في ذلك الجزء الأخير من الليل، الذي يقبضون فيه على أصحاب الفِكر”.
ويبدو أن شريف سيعيش حياة السجن مدة طويلة من مسيرة حياته، ففي مذكرات ألبير آريه تظهر حكايات عن رفيقه في حركة “حدتو”. شريف حتاتة، صاحب مذكرات “النوافذ المفتوحة”، ونوافذ شريف حتاتة نموذج للصراحة والكتابة الباهرة عن النفس، وإن كانت مختلفة عن ألبير في مذكرات يهودي.
قضى حتاتة أكثر من عشر سنوات في المعتقل بتهمة الشيوعية.. يحكي ألبير عن العلاقة التي جمعته في السجن بحتاتة، وكيف كان العساكر والسجناء يأتون لاستشارة شريف (كان طبيبًا)، فقد كان مستوى العلاج في مصلحة السجون مُتدنّيًا.
كان شريف حتاتة يعطي محاضرات عن العلوم وقصص رحلاته للمعتقلين، وذات مرة أراد المعتقلون الشيوعيون تهريب رسائل خارج السجن عبر وضع أوراق بَفرة السجائر في ورق تجليد الكتب التي انتهَوا منها، وللتمويه، عثروا على رواية “البعث” لتولستوي وحشوها بالقطن، بحيث أن مَن يمسك بالكتاب يشك فيه، ولا يشك في الكتب الأخرى، وقال شريف للضابط إنه يستطيع فك الكتاب، لكن لم يعثروا على رسائل في كتاب “تولستوي”، ونجحوا بعملية التمويه في تهريب الرسائل عبر الكتب الأخرى.
كانت تربط شريف حتاتة علاقة عاطفية بناشطة يسارية اسمها ديدار روسانو، تزوره في معتقل الواحات.. عملت ديدار بالقرب من الناشط هنري كورويل، الذي كوَّن تنظيمًا لمساعدة جبهة التحرير الجزائرية في فرنسا، واكتشفت فرنسا أمرها وقُبض عليها، ثم هربت إلى المغرب وانضمت إلى صفوف المقاومة الجزائرية، وبعد إعلان التحرير عُيِّنت مساعدة لوزير الشباب عبد العزيز بوتفليقة، في أول حكومة وطنية شُكِّلت بعد التحرير. لذلك لم يكن غريبًا- كما يخبرنا ألبير- توسُّط الرئيس الجزائري بن بيلا لدى عبد الناصر للإفراج عن شريف حتاتة، زوج ديدار.
ويصف شريف حتاتة ديدار بقوله: “عرفتُها سمراء جميلة، ترقص وتغني بصوت لا أنساه.. عرفتها امرأة مصرية عاشت للوطن قبل أن تُنفى من البلاد.. هكذا تقول الأوراق الرسمية، وهكذا أخبرني بريق عينيها الأخَّاذ”…..
وكان الطلب الثاني للرئيس الجزائري بن بيلا من عبد الناصر هو طلب لهنري كورويل، بأن يسمح لوالدته بالسفر إلى فرنسا لزيارته، على أن تعود مرة أخرى، وفعلًا جرت الموافقة على هذا الطلب.
هكذا يظهر دور العلاقات الخارجية في الضغط على عبد الناصر، ومثال ذلك أيضا: زيارة خروتشوف لافتتاح السد العالي، إذ اشترط خروتشوف الإفراج عن الشيوعيين في المعتقلات.. وفعلًا أُفرج عنهم، ونُشرت كشوفات العفو في الجريدة الرسمية.
علال الفاسي والسجين محمود محمد شاكر
توسَّط الزعيم المغربي علال الفاسي للإفراج عن محمود محمد شاكر بعد اعتقاله نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، فقد كتب علال الفاسي: “إن لي في مصر أخًا كريمًا عربيًّا صميمًا، شريف النسب، عظيم الحسب، عالمًا في الدين وفي الأدب، وهو الأستاذ محمود محمد شاكر، عرفتُه بالكتابة قبل أن ألقاه، صاحبتُه فحمدت صحبته ولقاه، وعرفته قوي النفس حاد الحدس، ولكنه لا يضر أحدًا، ولا يبحث في غير الله ملتحدًا، وقد علمت بالأمس من بعض الأصدقاء العرب خبر اعتقاله منذ بضعة أسابيع، فحزّ في نفسي، وأثّر في قلبي تأثيرًا، دفعني إلى أن أرفع القلم، وأخط لفخامتكم هذه الكلمة، راجيًا أن تكون عند حسن ظني فيكم وثقتي بكم، فتُطلقوا الأخ من عقاله، وتردوه إلى جميل أحواله، فلا تحرم منه لغة العرب”.. ولم أستطع التحقق من ردة فعل عبد الناصر على هذه البرقية أو مدى استجابته لها.
وتكرر اعتقال محمود محمد شاكر مرة ثانية بعد مكالمة هاتفية أدت إلى اعتقال ثلاثة أشخاص، وكانت المكالمة بين الكاتب محمود محمد شاكر والأديب يحيى حقي، وكان في بيت شاكر الشيخ الباقوري، وزير الأوقاف.. وصل إلى ناصر التسجيل المسرب، وفي الجلسة شتيمة في ناصر، أما محمود محمد شاكر فقد اعتُقل، وأما يحيى حقي فقد طلب ناصر طرده وإحالته إلى المعاش، لكن بعد وساطة وزير الثقافة، ثروت عكاشة، خُفِّف الإجراء.
واستطاع عكاشة أن يخفف أيضًا غضب عبد الناصر، وصدر قرار بنقل يحيى حقي من عمله مديرًا لما كان يسمى باسم “مصلحة الفنون” في ذلك الوقت، إلى دار الكتب مستشارًا فنيًّا للدار، وهي وظيفة لم تكن تعني إلا وضع يحيى حقي “على الرَّف”، ويقول رجاء النقاش: كنت أزوره في مكتبه، فلا أجد لديه عملًا سوى استقبال أصدقائه.
ويحكي وجدان العلي في كتابه “ظل النديم” تفسيرًا مختلفًا عن سبب الاعتقال، وهو أنه بسبب أحاديث زوجة الباقوري المنفلتة في الهاتف عن عبد الناصر والمخابرات، وكانت الكلمة التي قالها شاكر في الهاتف: “آخر خدمة الغُز عَلقة”. وتقول رواية أخرى إن شاكر شرح بيت المتنبي “والحُرُّ ممتحَنٌ بأولاد الزِّنا” في مجلسه ببيته، وكُتِب تقريرٌ بذلك إلى المخابرات يفيد بأن هذا الشطر يلمح فيه شاكر إلى أهل الحُكم في مصر.
وفي مذكرات ثروت عكاشة يقول: “أدركت من ناحية أن التجسس على الوزراء، وإحصاء تحركاتهم وسكناتهم وأسرارهم الشخصية داخل بيوتهم، قد اتصف بالمساواة مع التجسس على المجرمين والخارجين عن القانون، فكلهم في هذا سواء. وكان هذا درسًا وعيته وأنا وزير حديث العهد بالمنصب”.
وفي السجن تزامل محمود شاكر مع الكاتب صلاح عيسى، وحكى عنه عيسى في كتابه “شخصيات لها العجب”: “ضُحى يوم من شتاء عام 1966م كنتُ أسير في أحد ممرات معتقل طرة السياسي مع المرحوم العلّامة الشيخ محمد محمود شاكر، محقق التراث المعروف، نشتبك في جدل حول معركة فكرية، كانت قد دارت بينه وبين الدكتور لويس عوض في العام السابق، بسبب سلسلة من المقالات كان الأخير قد نشرها على صفحات جريدة الأهرام، وجمعها بعد ذلك حين أعلن مكبِّر الصوت الذي كانت إدارة المعتقل تذيع منه تعليماتها أن على المعتقل محمد محمود شاكر الاستعداد لترحيله إلى السجن الحربي. وما كاد الشيخ شاكر يسمع ذلك حتى اصفرَّ وجهه تمامًا”.
يكمل عيسى: “كان المرحوم الشيخ شاكر ضائقًا بالسجن أشدَّ الضيق، لا يكف عن انتظار الإفراج عنه، حتى إنه كان المعتقل الوحيد، الذي حرص على أن يصحب معه إلى زنزانته الحذاء الذي جاء به، دون أن يتركه مع بقية ملابسه المدنية في مخزن الأمانات”.
ومن الطريف ذكره وصف محمود شاكر ليحيى حقي عندما سُجن، كما حكى للكاتبة سعدية مفرح في لقاء معها. يقول محمود محمد شاكر: “مع سجني، انقطع يحيى حقي عن زوجتي أم فهر، ولم يسأل عنها وأنا في السجن، ولكنه كان يسأل عنها (من بَرّه لبَرّه)، كان خائفًا، ولكن نفسه صافية في الحالتين، في حالة الخوف وفي حالة الأمن”.
ثم يقول: “بالطبع فهو خوّاف، ومحمود حسن إسماعيل أيضًا كان كذلك، لقد خاف أصدقائي عندما سُجنت وانقطعوا عني، ولكن إساءة حقي هذه لم تحز في نفسي، قلت لك إنه جبان وخلاص”، وبعدها عادت صداقة شاكر مع حقي كما كانت.
وسألت الكاتب سعدية مفرح محمود شاكر: كيف برر غيابه عن أهل بيتك؟
فقال لها: “ما يعرفش يبررها”، بماذا يبرر الصديق انقطاعه عن صديقه؟ إن الصديق يلقي بنفسه في النار من أجل صديقه. وعلى الرغم من ذلك، أنا لم أتأثر بفعل إسماعيل ويحيى، لم أتأثر بسوء فعلهما، بل إن يحيى بالذات جزء مني وأنا أعرف أنني جزء منه، وكل ما في الأمر أنه انقطع عن أولادي وعن أم فهر في فترة دخولي السجن في الوقت الذي كان فيه الكويتيون يأتون إلى بيتي ويهتمون به، وعلى رأسهم يعقوب الغنيم وصالح العثمان وعبد العزيز التمار وأحمد الجاسر، كانوا يصرفون على بيتي، لذلك أنا أحب الكويتيين لأن لهم منَّة في عنقي لا تزول”.
هكذا حكم عبد الناصر
على سيرة صلاح عيسى، يوجد مَن يودُّ نفي حفلات التعذيب التي جرت في العهد الناصري، بحجة أن روايات الإسلاميين كانت فيها مبالغة. عُدتُ إلى كتاب صلاح عيسى “مثقفون وعسكر”، إذ يحكي المؤلف عن كتابته دراسة بعنوان “الثورة بين المسير والمصير”، كتبها في يوليو 1966م ونشرها في مجلة الحرية البيروتية، وكتب علي صبري ملخصًا للمقالات وأرسلها إلى عبد الناصر، وأشَّر الرئيس عبد الناصر في ذيلها: “يُعتقل ويُفصل”.
يقول صلاح عيسى عن اعتقاله:
بدأ الضرب بالفَلَكة للبحث عن المؤامرة! استمر التحقيق معي نحو عشرة أيام، وعلى أوقات متفرقة، كانت الأيام الخمسة الأولى هي أقساها وأحفلها بالتعذيب. وقد دار الجزء الأول من الاستجواب حول مقالاتي “الثورة بين المسير والمصير”.
وقد استطعت، رغم قسوة الموقف، أن أستنتج مواطن الشبهة في مقالاتي من وجهة نظر الذين يحققون معي، إذ كانوا يعتقدون أنها دعوة للعدول عن قرار حل التنظيمات الشيوعية، كما أنها كانت تقول بصراحة إن ما يطبق في مصر ليس اشتراكية علمية، وتنتقد فكرة المجموعة الاشتراكية في قمة السُّلطة.
وانتقل الاستجواب، الذي كان يجري بين وجبات التعذيب، إلى السؤال عن محسن إبراهيم الذي زار مصر (رئيس تحرير المجلة التي نشرت المقالة). وقد اندهش صلاح عيسى من أن الرائد “قتة” سأله عن الذين قابلهم محسن إبراهيم إبان زيارته إلى مصر؟ فقال صلاح عيسى: أظن أنه قابل عبد الناصر! وهو ردّ عوقب عليه بنقله إلى الزنزانة، حيث عُلِّق عيسى في مشجب حديدي في حائطها نحو ساعة.
يُكمل صلاح عيسى القصة بقوله:
استعادني بعدها المحقق فتحي قتة ليواصل التحقيق معي، وكان أعجب ما تطرق إليه التحقيق هو إغرائي بشكل ناعم بأن أعترف بمن حرَّضني على كتابة هذه المقالات، وقد قال لي “قتة” برقة زائدة: إذا كان أحد المسؤولين قد طلب منك كتابة المقالات وراجَعَها معك فإن ذلك يلغي مسؤوليتك، فاذكر لنا اسمه حتى نغلق ملفك.
وسألته: مسؤول زي مين يعني؟ فقال بنعومة: السيد كمال رفعت، أو السيد أنور السادات؟! وقد نفيت تمامًا معرفتي بالرجُلين، ولم أكن أعرفهما فعلًا، وإن كان السؤال قد أعطاني انطباعًا عن طبيعة الصراع على النفوذ في دوائر الحكم، وأكد لي أن أجهزة الأمن هي الحقيقة الرئيسية الثابتة في نظام الحاكم، وأنه لا كبير أمام سًلطتها ونفوذها!
اشتدت وطأة التعذيب، حتى بلغت الذروة، وتواصل الضرب بالفلكة والسحب على البلاط، والتعليق على مشجب الزنزانة. مضت ليالٍ طويلة، كنتُ في معظمها أظل حتى الفجر معلَّقًا في مشجب زنزانتي، أسمع طوال الوقت صرخات عشرات من أعضاء منظمة الشباب الاشتراكي، الذين كانوا يُضربون بالعِصي أمام زنزانتي، وأنا معلَّق في شبه إغماءة، فيستغيثون هاتفين: إحنا في عرض عبد الناصر.
وفي هامش الفصل، قال صلاح عيسى:
“قال الرئيس عبد الناصر لمن حاولوا التوسُّط لي عنده، للإفراج عني، إن المقالات كُتبت بأسلوب استعلائي، وبروح من خارج النظام، أي مُعادية له”!.
انتهى حديث صلاح عيسى، الذي يكشف وجهًا من وجوه حكم عبد الناصر، ويرد على مَن ينفي التعذيب أو يقلل منه!
وفشل التوسُّط لدى عبد الناصر لخروج صلاح عيسى. لكن توسُّطًا آخر خرج عن طريقه صلاح عيسى، كشف ملابساته الصحفي محمد شعير؛ ففي مقالته عن إيفلين بوريه، زوجة الشاعر المصري الراحل سيد حجاب، يقول شعير: “في مارس 1967م، وصل إلى القاهرة الفيلسوفان الفرنسيان جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار… سأل سارتر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في اللقاء الذي تمَّ بينهما كيف يسمح بسجن عدد من الفنانين والأدباء دون محاكمة، وقدَّم سارتر قائمة بأسمائهم، فوجئ عبد الناصر بالسؤال.. وأجاب بأنه طلب التحقيق في الأمر”.
كانت في القائمة أسماء مثل جمال الغيطاني، وعبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وإبراهيم فتحي، وصلاح عيسى، ومحمد العزبي.. وآخرون. وبعد ساعات من لقاء عبد الناصر وسارتر، خرج الأبنودي وحجاب وكمال عطية بملابس السجن لمقابلة وزير الداخلية، وُسمِح لأسر المعتقلين بزيارات ذويهم بعد أن كانت الزيارة ممنوعة عنهم.
وبعد أيام، عندما غادر سارتر مصر، أُفرِج عن الجميع، ولكن لم يُفرج عنهم إلّا بعد أن تحركت طائرة سارتر، حتى لا يُقال إنه جرت الاستجابة لضغوط خارجية”.
سيد قطب والرئيس عبد السلام عارف
يورد الكاتب صلاح الخالدي في كتابه “قصة عن سيد قطب”:
ففي سنة 1964م تعرَّض سيد قطب لانهيار جديد في صحته، استدعى نقله إلى مستشفى المنيل الجامعي، وكان في مستشفى السجن يؤلِّف كتبه الإسلامية، وفي مقدمتها تفسيره “في ظلال القرآن”، وفي الفترة نفسها تقدَّم الرئيس العراقي بطلب توسُّط لدى عبد الناصر للإفراج عن سيد قطب بعفو صحي.
وكان عبد السلام عارف معجبًا بكتب سيد قطب، وسارع بالوساطة، وقد كان كتاب سيد قطب “في ظلال القرآن” هو أنيس عارف في فترة اعتقاله أيام عبد الكريم قاسم، وأُفرج عن سيد قطب بعفو صحي عام 1964م.
وبعد الإفراج عنه، وفي أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربية في القاهرة عام 1964م، أوفد الرئيس العراقي سفيره في القاهرة لزيارة سيد قطب، وعرض عليه الانتقال إلى العراق ليعمل مستشارًا للرئيس عارف لشؤون التربية والتعليم، وأنه سيكون في العراق محلَّ حفاوة وتقدير وتكريم، فاعتذر سيد قطب عن عدم قبول المنصب بلُطف، وقدَّم هدية للرئيس عارف بأن جلَّد كتبه تجليدًا فاخرًا وأرسل بها إليه.
الملك فيصل والتوسُّط لدى عبد الناصر
كان ممن توسَّط لدى عبد الناصر الملك فيصل بن عبد العزيز، إذ أرسل ببرقية يلحُّ فيها في رجائه عدم إعدام سيد قطب، وبدا الغيظ والضيق على وجه عبد الناصر، وقال: “أنا مش عارف أولاد…. دول مهتمين بسيد زفت ده ليه”. وقال عبد الناصر: اعدموه في الفجر بكرة، واعرضْ عليَّ البرقية بتاعة سي فيصل بعد الإعدام، ثم أرسل ببرقية اعتذار له، وينكتب في الأهرام تم الإعدام في سطرين، وحزن الملك فيصل على خبر الإعدام، وقال: “أرسلت إليه وتوسلت أن يطلقه حيًّا، ويطلب فيه ما يشاء!… ولكنها إرادة الله، ولكل أجَلٍ كتاب”.
كان سبب مقالي هو قراءة خبر عن شفاعة الشيخ ابن باز في نجم الدين أربكان، عبر رسالة للرئيس الباكستاني ضياء الحق، وتذكرت شفاعة الداعية زينب الغزالي لضياء الحق في عبد الله عزام. فقد التقت الحجة زينب الغزالي الشيخ عبد الله عزام في فترة كانت من أشد فترات الملاحقة له من باكستان، وقررتِ الحجة أن تغتنم هذه الفرصة لتلقي ما بنفسها لدى الرئيس ضياء الحق، وقال لها الرئيس الباكستاني: أي خدمات يا حاجة؟ قالت: نعم، عزام. بعدها توقفت كل المطاردات التي كانت تلاحقه من باكستان.
وهي أخبار عن شفاعات العلماء في معتقلين أو مسجونين، وهي أمنيَّة ودعاء لهؤلاء المظلومين بالخروج من غياهب الجُب.

مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
رسالة إلى أمريكا
وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...
0 تعليق