عن البذل بعدَ السؤال.. وقبلَه
بقلم: محمد ياسين صالح
| 3 يوليو, 2024
مقالات مشابهة
-
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع...
-
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها...
-
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر...
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
مقالات منوعة
بقلم: محمد ياسين صالح
| 3 يوليو, 2024
عن البذل بعدَ السؤال.. وقبلَه
يعجبك أبو نواس في خمرياته، وفي زهده، وفي مدحه الأصيل ولغته المتأصلة العالية. بيد أنه لا يعجبك حين تأخذ منه الكأس فيبدأ يهجو العرب والأعراب بطريقة تحديد الكل select all كما يقول المتفكهون.
في سير أعلام النبلاء تقرأ عن الخصيب بن عبد الحميد أمير مصر كلاما جميلا، غير أنه كلام لا يثبت الرجل في رأسك. أما أبو نواس فيستطيع أن يثبت الرجل في رأسك شئت أم أبيت. ستقرأ ما يلي من الأبيات وسيكتب عليك طيلة حياتك أن تتذكر رجلا اسمه الخصيب مدحه أبو نواس قائلا:
ذريني أكثر حاسديكِ برحلةٍ
إلى بلدٍ فيها الخصيب أميرُ
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
فما جازه جودٌ ولا حلّ قبله
ولكن يصير الجود حيث يصيرُ
زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى
وفي السلم يزهو منبر وسرير
وإني جدير إذ بلغتك بالمنى
وأنت بما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله
وإلا فإني عاذر وشكور
يقول أبو نواس لزوجه: سوف أجعل أعداد الحاسدين تكثر بعد الزيارة التي سأصيب بها من المال والهدايا ما يستوجب الحسد، لأنني مرتحل إلى رجل كريم يبذل المال في سبيل السمعة الحسنة والثناء الطيب، وهو رجل شجاع يزهو به السيف والرمح في الحرب، وفي السلم يزهو به سرير الملك ومنبر المسجد لفصاحته وحسن حديثه وهيبة حضوره. ثم لا يفوت أبا نواس أن يلتمس لممدوحه عذرا ويبقي له ندحة من الأمر فيقول: إذا بلغتُ الذي أمّلت منك فأنت أهل للجود والمعروف وإن لم يكن ذاك فإني ألتمس لك العذر عن خاطر طيب ونفس سمحة. من التلطف في المسألة أن تبقي الباب مواربا لمن ترفع إليه حاجتك، فلا تحوجه إلى الحرج.
كرام الناس أشحاء بماء وجوههم، وليس أمرّ على الجواد من بذل ماء وجهه في حاجة يعود منها بخفّي حنين فلا هو حفظ ماء وجهه ولا هو ظفر بحاجته. يقول الشاعر هادي بن مانع اليامي:
جيتك وانا ضايق وناقصني فلوس
ورجعت ناقصني فلوس وكرامة
لذلك تجد أن الأجواد الذين يعرفون حقوق الكرام يتحايلون في طرق العطاء بوسائل تحفظ على المحتاج ماء وجهه، فمنهم من يطفئ السراج قبل أن يسأل جليسه عن حاجته حتى لا يرى ذل السؤال في وجهه، ومنهم من يقول لصاحب الحاجة أن يخطها في ورقة ومنهم من يبادر بالعطاء قبل السؤال. أراد أبو نواس أن يمدح الفضل بن يحيى البرمكي فكتب قصيدة من عيون الشعر العربي:
رأيت لفضل في السماحة همّةً
أطالت لعمري غيظ كل جواد
فتى لا تلوك الخمر لحمة ماله
ولكن أيادٍ عوّدٌ وبوادِ
ترى الناس أفواجا إلى باب داره
كأنهمُ رجلا دبى وجرادِ
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى
ويومٌ رقابٌ بوكرت لحصادِ
أظلت عطاياها نزارا وأشرفت
على حميَرٍ في دارها ومرادِ
حتى الأجواد الذين يفترض أن تضمحلّ عندهم نوازع الحسد والغيرة يحسدون الفضل بن يحيى على جوده وإنفاقه وهمّته العالية في البذل. ليس الفضل ممن ينفق ماله على ملذات وشهوات إنما تمتد عطاياه إلى أيدي الناس الذين ينقسمون إلى قسمين أحدهما تعوّد أخذ العطايا على سنن راتبة وآخر لم يسبق له الأخذ فجاء مستمنحا للمرة الأولى. واجتمع هؤلاء وأولئك على باب الرجل الكريم كأنهم أسراب من الجراد. وقد قسمت الأيام تبعا لأنواع الحاجات فأصحاب العطايا لهم يوم، ويومٌ لأصحاب الديات والفِدى. هذه المروءة وهذه المكارم استغرقت العرب كلهم بمختلف قبائلهم ومشاربهم من نزار إلى اليمن.
حين قال أبو نواس (فيومٌ لإلحاق الفقير بذي الغنى) لم أستطع إلا أن أتوقف طويلا أمام حالة العطاء التي “تدفن الفقر” كما يقال في أيام الناس هذه. فشتان بين عطاء لا يسد رمقا ولا يقضي دينا وعطاء يدفن الفقر ويلحق الفقير بذي الغنى.
يقول سليمان المانع:
الفزعة اللي ما تشيلك من القاع
ما تنفعك لكن تسجّل جمالة
- من جميل ما قيل في فضل العطاء قبل السؤال قول سعيد بن العاص: قبح الله المعروف إن لم يكن ابتداء من غير مسألة، فالمعروف عِوَضٌ عن مسألة الرجال إذا بذل وجهه
- وقال أكثم بن صيفي: كل سؤال وإن قلّ أكثر من كل نوال وإن جلّ
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: من كانت له إليّ منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن المسألة
- وقال عبد العزيز بن مروان: ما تأملني رجل قط إلا سألته عن حاجته ثم كنت من ورائها
- ويقول الشاعر: ما ماء وجهك إن جادت وإن بخلت / من ماء وجهي إن أفنيته عوضُ
- وقالوا: من بذل إليك وجهه فقد وافاك حق نعمته
كلمات ليست مأثورة:
- ضع الفعل مكان القول، والعطاء قبل السؤال.
- لا تنتظر أخاك أن تسوقه الحاجة إلى استجدائك وابذل – ما وسعك – قبل الطلب.
- معظم المحتاجين يقولون: “لا” عندما يُسألون عما إذا كانوا بحاجة المساعدة.
- عزيز النفس لا يريق ماء وجهه إلا بعد أن يفقد ما هو أعزّ وأغلى من ماء الوجه.
شاعر
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...
نفع الله بكم، مقال مميز ومتفرد بموضوعه وأسلوبه.