عن الشخصية اليمنية وأنماطها
بقلم: نبيل البكيري
| 10 أكتوبر, 2024
مقالات مشابهة
-
خرافة اسمها الحب!
من البديهيات أن المشاعر جزء أصيل لدى الإنسان.....
-
الشكر.. دوامٌ للنعم في الدنيا وفوزٌ في الآخرة
أنعم الله تعالى وتفضّل على عباده بالكثير من...
-
الترامبية المتجددة وأمْوَلَة نظام الحكم في الولايات المتحدة
منذ أن بلور حكماء الإغريق قديما فكرةَ...
-
السياسة الخارجية المتوقعة لإدارة ترامب.. تداعياتها على الشرق الأوسط
خلال حملته لاستعادة رئاسة الولايات المتحدة، قال...
-
ترامب وهاريس.. وجهان لعملة واحدة
نجح دونالد ترامب.. فاز مرشح الحزب الجمهوري...
-
السؤال الكوني وعجز الغرب الفلسفي
كمدخل فلسفي مبسط، يعود السؤال هنا على الفرد...
مقالات منوعة
بقلم: نبيل البكيري
| 10 أكتوبر, 2024
عن الشخصية اليمنية وأنماطها
يتشابه البشر حال الولادة، ويكادون يتطابقون في خصائص وصفات عدة، ولكن هذه الخصائص والصفات سريعاً ما يعتريها التغير والتبدل والتشكل من جديد، وتخضع هذه العملية من التشكل والتكوين لمسار زمني طويل، هي ما يمكن تسميته بتشكلات الهوية، والهوية هي المنتج النهائي من تشكلات الشخصية، وفقاً لبيئتها وظروفها وثقافتها ومجتمعها وتعليمها ومدخلاتها المختلفة، التربوية والسياسية والثقافية والاجتماعية.
ولكل مجتمع خصائصه التي تسهم في تشكيل شخصيات مواطنيه وأفراده، وتترك الجغرافيا والتاريخ بصماتهما الواضحة على وجوه ونفوس هؤلاء الأفراد، الذين سيصبحون حاملي خصائص وملامح البيئة التي ينتمون إليها، فيتّسمون بسماتها ويتطبعون بطباعها ويتشربون صفاتها شدةً ورخاءً، تلك التي تنعكس في شخصياتهم وممارساتهم وسلوكياتهم المختلفة سلماً وحرباً وتقدماً وتخلفاً.
فللجغرافيا- أي المكان- سطوتها في تشكيل الشخصية العامة لأفراد المجتمع، حيث تساهم الجغرافية وخصائصها المختلفة من سهول وجبال ووديان وقيعان وسواحل وبحار وأنهار وجزر على سمات الأفراد ونفوسهم؛ فلكل من هذه التضاريس ومناخها حراً وبرداً واعتدالاً تأثيرها الواضح هنا، وهذا ما يطغى على سمات المجتمعات وأنماط حياة أفرادها وسلوكياتهم الاجتماعية المختلفة.
المكان- الجغرافيا- عامل رئيس في تشكيل أنماط السلوك والشخصيات، وملامح هوياتها الجسدية والنفسية الأولية، وهذا ما انطلق منه المفكر والجغرافي المصري الشهير جمال حمدان في كتابه الأشهر “شخصية مصر.. قراءة في عبقرية المكان”، والذي انطلق فيه حمدان من الجغرافيا في قراءة خصائص الشخصية المصرية، منطلقاً من شخصية المكان نفسه (الجغرافيا)، ومن ثم التاريخ والاجتماع .
فالشخصية المصرية- مثلا- بحسب حمدان شخصية مسالمة، وتميل إلى الهدوء، ومتدينة، وتقدس الأرض، كما تميل إلى المرح وخفة الظل، وهذا ربما يشكل انعكاسا لطبيعة الأرض الزراعية المفتوحة والمنبسطة والممتدة، التي يجري فيها النيل، مصدر الخير لمصر، والذي يروي ظمأها الدائم، وهذا على العكس تماماً من الشخصية اليمنية التي تنعكس فيها صعوبة الأرض اليمنية وتنوعها الكبير، فتغدو شخصيته غريبة الأطوار أحياناً، لشدة تناقضاتها؛ فاليمن جزء كبير منه أرض جبلية شاهقة تتمركز فيها النسبة الأكبر من السكان.
ولهذا كان أبو الأحرار، الشهيد محمد محمود الزبيري، يقول: “إن الطبيعة اليمنية كالجواد الشموس، لا بد له من مدرب بصير، وفارس يروضه ويحكمه ويثيره بمهمازه في اعتدال ورفق، وعلى هذا المدرب أن يكون يقظاً مرناً سريع الملاحظة، منتصباً بفكره وأعصابه على ظهر جواده، فإن هو غفا أو تشاغل أو تراخت عزيمته جمح به جواده، ورمى به إلى الأرض”.. وهذا ربما ما يفسر طبيعة الشخصية اليمنية، التي هي في حالة صراع دائم مع ظروفها القاسية التي تتطلب جهدا أكبر لتجاوزها، وتحويل تحدياتها إلى فرص.
ففي هذه الطبيعة الوعرة جبالها وتضاريسها، التي حولها الإنسان اليمني إلى مدرجات وسدود، لكنها تعتمد بدرجة رئيسية في زراعتها على مياه الأمطار الموسمية، والتي قد يمر موسم أو أكثر دون هطولها، ما يؤدي إلى قلق هؤلاء السكان الذين يلجؤون للبحث عن مصادر أخرى للرزق، ولو كانت بالهجرة أو بالحروب والغزو لأرض قبيلة أخرى، وهو ما كان يُعدّ أحد أهم مصادر عيش سكان هذه الجبال والهضاب، وخاصة في الهضبة الجبلية القاحلة والممتدة من نقيل سمارة وصولاً حتى أقصى شمال اليمن في صعدة.
وكسلاسل الجبال، لليمن أيضاً سواحل طويلة واسعة وممتدة، ومعظم هذه السواحل هي امتداد لمصبات أودية زراعية خصبة، وتنعكس طبيعة هذه الأودية الزراعية الخصبة على شخصيات سكانها الفلاحين البسطاء، الذين يميلون للاستقرار بدافع الزراعة التي تحتم عليهم البقاء في هذه الأودية، التي يسعون للتكيف مع طبيعتها الحارة صيفاً والمعتدلة مساء، وخاصة سهل تهامة الكبير، الذي يمتد بدوره على طول ساحل البحر الأحمر وصولاً حتى باب المندب.
يعمل معظم سكان تهامة بالزراعة والصيد، وهما مهنتان تتطلبان مزيدا من الصبر والجهد والتأني، وهو ما ينعكس في طبيعة تكوين الشخصية التهامية الصبورة والمكافحة، على عكس شخصية سكان الجبال القاحلة، التي تميل إلى القلق وسرعة الغضب، وانعدام الصبر، والاندفاع السريع أحياناً، ما جعل طبيعة سكان هذه المناطق يميلون للانخراط في أي شكل من أشكال الحروب والصراعات- كجماعة أو كأفراد- على مدى التاريخ، كنوع من العمل والكسب .
وعلى العكس من ذلك، تشكل الجغرافيا الطبيعية الجبلية الخضراء للمناطق الوسطى والجنوبية، كإب وتعز ولحج، ملامح شخصية سكانها الميالين للاستقرار كفلاحين يمتهنون الزراعة والأعمال الحرفية الأخرى، ما ينعكس أيضا في ميل شخصية هذه المناطق للبحث عن أي نوع من أنواع الاستقرار، ولو كانت حتى في الهجرة والاغتراب بحثا عن هذا الاستقرار، وفي أي مكان تتوفر فيه ظروف مساعدة للعمل والكسب، ومن ثم الاستقرار.
واللافت في طبيعة شخصية هذه المناطق هو الميل الشديد للتعلم، كمدخل رئيس للعمل والاستقرار، أو حتى للهجرة بحثا عن استقرار ما في المنافي والمغتربات، وهذا ربما ليس إلا أحد عوامل الهجرات، ولكن ثمة عوامل أخرى من ضمنها العامل السياسي في مراحل ومحطات مختلفة، حيث يضطر الحاكم بجباياته وإتاواته الكثيرة والمرهقة هؤلاء الناس إلى الهجرة والاغتراب، عدا عن عوامل التهميش السياسي لسكان هذه المناطق أحياناً.
أما المناطق الشرقية، حيث الصحارى الواسعة والأودية المترامية، التي تنتظر هي الأخرى مواسم الأمطار وسيول الجبال لترتوي منها، فإنسانها على نوعين؛ فثمة المستقر للزراعة وهم قلة، والمتنقل بحثا عن الماء والمرعى والمغانم الأخرى، وشخصية مثل هذه النوع من الناس حرة ومتمردة حيناً ومسالمة ومدنية حيناً آخر، فكلما توفرت لها أسباب الاستقرار استقرت ومكثت في مكانها، وكلما تكالبت عليها ظروف الحياة اندفعت بحثا عما يسد رمقها ويوفر لها العيش الكريم، والذي غالباً ما يؤدي إلى نزاعات مع قبائل أخرى على الماء والمرعى.
وشخصية هذه المناطق تتسم بالصرامة والشجاعة والحكمة، وقوة الشخصية، والقابلية الشديدة للتمدن والاستقرار والعمل، والتكيف مع ما يطرأ من تحولات وظروف تحيط بها دائماً، وتمتاز هذه الشخصية بالتمسك بقيمها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها، كلما رأت أنها بحاجة إلى هذه القيم والتقاليد لترتيب شؤونها، ولكنها لا تمانع بالانخراط والتكيف مع أي واقع جديد يُفرض عليها، أو تجد نفسها فيه، كالامتثال للدولة وشروطها وقوانينها.
أما الشخصية الحضرمية، فهي شخصية شبه مستقلة بذاتها داخل النمط العام للشخصية اليمنية، فهي تمتاز بذكائها الشديد وحبها للعمل والكسب، وحسن التدبير والتجارة، وهو ما انعكس في طابع الهجرة الدائم للشخصية الحضرمية، التي جابت أقطار الأرض للتجارة والدعوة، التي لم تكن لذاتها بقدر ما كانت ربما انعكاسا لأمانة وحسن خلق التاجر الحضرمي، الذي شكلت أخلاقه وأمانته وحسن تدبيره وسيلة للدعوة حيثما حل وارتحل.
فنمط الشخصية الحضرمية، مسكونة بالفن والتدين في قالب خاص ميز هذه الشخصية، التي شكلت بنمطها هذا مدرسة صوفية مستقلة بذاتها، وينعكس هذا بشكل أو بآخر بتواضع الشخصية الحضرمية وعزوفها السياسي والاجتماعي، ما يشكل انطباعاً غير دقيق عن هذه الشخصية لدى البعض، فيعتقدون أن الشخصية الحضرمية شديدة الحرص، وهو انطباع غير دقيق، ولا يعكس طبيعة الشخصية الحضرمية المرحة والبسيطة والكريمة، التي نشرت الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، من شرق إفريقيا وحتى شرق آسيا بأمانتها وحسن أخلاقها .
هذا- ربما- ما تقوله قراءات تأثير الجغرافيا والطبيعة وأثرها على طبيعة أنماط الشخصية اليمنية، لكن ما يقوله التاريخ والواقع والاجتماع قد يقترب ويبتعد عن مثل هذه الأنماط والصفات، لكنه لا يتجاوزها لغيرها. في المجمل العام، الشخصية اليمنية شخصية بسيطة ومتواضعة جداً، ولا تميل إلى الاستعراضية وتسويق ذاتها والادعاء بأنها شخصية مهمة وملهمة وخطيرة، وتفهم في كل شيء.
إن هذا الزهد في الاستعراض، ينعكس في عزوف الشخصية اليمنية عن الظهور وتسويق ذاتها وقدراتها، حتى وهي في أعلى سلم درجات التأهيل العلمي والعملي، وهذا نمط من أنماط هذه الشخصية اليمنية كشخصية قنوعة ومتواضعة، لا تهتم كثيرا بالظهور بقدر اهتمامها بالإنجاز والعمل، وهو ما ينعكس كثيرا في هضم بعض الكوادر اليمنية في كثير من المجالات، ويُقدّم عليها غيرها.
الشخصية اليمنية شخصية بسيطة وتلقائية عفوية، شديدة الذكاء، ما يجعلها سريعة التكيف مع محيطها، وهو ما ينعكس في قدرتها السريعة على كسب الصداقات وبناء شبكة علاقاتها الاجتماعية، والقدرة أيضا على الاندماج في مجتمعاتها الجديدة، مع قدرة عجيبة على الاحتفاظ بهويتها الثقافية والاجتماعية، وقيمها وعاداتها وتقاليدها بل وقدرتها على نقل كثير من العادات والتقاليد الحميدة حيثما حلت وارتحلت.
دينياً، تمتاز الشخصية اليمنية بالمحافظة الاجتماعية أكثر من التزامها الديني، وهو ما ينعكس في سمة تدين الشخصية اليمنية العام، بحيث لا يمكن التمييز كثيراً بين المتدين وغير المتدين؛ فالكل سواء في نظرتهم للدين والمجتمع والعادات والتقاليد، فالجميع يحترم قيمه وتقاليده وعادات مجتمعه، ومن يشذ عن هذه القاعدة لا حكم له، فالمجتمع اليمني جعلته منظومة قيمه الاجتماعية الصارمة أكثر تماسكاً، وأقل تقبلاً للقيم المدنية الحديثة الوافدة، حتى يختبرها ويتحقق من أنها لا تتعارض مع قيمه الاجتماعية وأعرافه القبلية، فيأخذ ما يناسبه منها ويدع ما لا يناسبه.
ولهذا، تمتاز الشخصية اليمنية بأنها شخصية براجماتية وذكية في التعاطي مع كل القيم الوافدة، وهو ما ينعكس في تعاطي الشخصية اليمنية مع المذاهب والأفكار والأيديولوجيات والطوائف بنوع من الذكاء والحذر الشديدين، وهو ما يتجلى في كينونة الشخصية اليمنية غير المؤدلجة وغير الطائفية، فالشخصية اليمنية غير طائفية ولا تتقبل الأفكار الطائفية بسهولة، وإنما تُخضعها لمنظومتها الاجتماعية والقيمية ومدى تلاؤمها مع منظومتها القيمية والاجتماعية.
غالبية المجتمع اليمني مجتمع قبلي، وأن القبيلة مكون رئيس من مكونات هذا المجتمع، و كمكون اجتماعي تمتاز هذه القبيلة بمنظومة قيم ومبادئ قبلية أخلاقية حاكمة، وهي التي تُعرف بالأعراف والأسلاف القبلية، وتنظم العلاقة بين الفرد وقبيلته وبين القبائل بعضها مع بعض، ما يجعل المجتمع القبلي أكثر انسجامأً والتزاماً بأعرافه وأسلافه، ومن ثم أكثر قبولاً وخضوعاً للقوانين والتشريعات في ظل الدولة الحاكمة من باب أولى، وهذا ما ينفي فكرة أن القبيلة تمثل عائقا أمام قيام الدولة، كما روجت بعض السرديات المؤدلجة.
ومع ذلك، لا ينفي هذا حقيقة أن القبيلة قد تتورط أحياناً خارج نمط سلوكها ودورها الاجتماعي المعروف، وهذا راجع أحياناً بشكل رئيسي إلى طبيعة الشخصية المتصدرة لمشيخة القبيلة، حيث تتسلل بين فينة وأخرى شخصيات مشيخية انتهازية، تحاول أن تستخدم القبيلة في تحقيق مصالحها الخاصة، وهذا ما قد يسيء إلى القبيلة ودورها الاجتماعي الوطني، ويقدم القبيلة بصورة مشوهة ومتخلفة، ما ينعكس سلباً على سمعتها ومكانتها.
ختاماً، لا أدعي هنا أنني قد تمكنت من فك شيفرة الشخصية اليمنية، أو استطعت تقديمها كما هي، وإنما هي محاولة اجتهادية بسيطة مني للاقتراب من فهم طبيعة وأنماط الشخصية اليمنية الغامضة أحياناً، بهدف تقديم قراءة ومقاربة أولية في هذا السياق، علنا نسهم في تحفيز الباحثين والمهتمين لإثراء هذا الموضوع بمزيد من التأملات والنقاشات والأبحاث، حتى نتمكن من الاقتراب أكثر من فهم طبيعة وسيكولوجيا الشخصية اليمنية وأنماطها المختلفة، ما قد يساعدنا في تفكيك حالة العجز والفشل والتخلف الحاكم للواقع اليمني الراهن.
مهتم بالفكر السياسي الإسلامي
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
البنتاغون يتوقع اضطرابات كبيرة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض
تتزايد المخاوف في أوساط البنتاغون بشأن عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث يُخشى أن يسعى لتنفيذ وعود انتخابية قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة على الجيش الأمريكي، الذي يُعرف بحياده السياسي. من بين هذه المخاوف، توجيه الجيش للعمل داخل الولايات المتحدة،...
اِجعل لكَ خبيئة!
خرج المسلمون يوماً لقتال الروم، فلما التقى الجيشان خرجَ فارس من جيش الروم يطلب المبارزة، فخرج له رجل ملثَّم من جيش المسلمين فبارزه حتى قتله! ثم خرج فارس آخر من جيش الروم يطلب المبارزة، فخرج إليه الرجل الملثم نفسه من جيش المسلمين فبارزه حتى قتله! ثم خرج فارس ثالث من...
خرافة اسمها الحب!
من البديهيات أن المشاعر جزء أصيل لدى الإنسان.. البعض قسمها إلى مشاعر إيجابية: كالحب، والسعادة، والرضا؛ وأخرى سلبية: مثل الغضب، والاشمئزاز، والخوف. غير أن علم النفس ذهب ليؤكد أن كل المشاعر لها جانبان، واحد سلبي وآخر إيجابي؛ فالغضب -مثلاً- يعد أحد أسوأ المشاعر الإنسانية...
0 تعليق