بين فكي نتساريم.. أنصاف عائلات

بقلم: آية أبو طاقية

| 10 نوفمبر, 2024

بقلم: آية أبو طاقية

| 10 نوفمبر, 2024

بين فكي نتساريم.. أنصاف عائلات

يقدّم المغترب اِلتماسه بلمّ الشمل ليحظى باجتماع أهله الذين فرقتهم حدود البلدان، لكن صديقتي التي وعدتني بصورة اللقاء التاريخي الذي سيجمع أخاها في الشمال مع طفلته التي نجت وحيدة دون أسرته النازحة في الجنوب، بعد قبول الاحتلال لالتماسه المذكور، حيرت قلبي كثيرا: “هل تفرق شملنا إلى هذا الحد، وهل اغتربنا فعلا داخل هذه المدينة؟”!.

بين فكي حاجز، وانحسار جهتين من البوصلة على مفترق العبور، حيث قسمة التاريخ ونصيب الجغرافيا، يتمنى أحدنا لو ابتلعته أمواج المدينة لئلا يختار مرغما إما جزر الجوع أو مد النزوح.

قذف الاحتلال ناره على الأجساد الهاربة من الموت بعد إنذاراته المباغتة عبر قنابل المناشير الملقاة على رؤوس المواطنين تطالبهم بالإخلاء الفوري، ليترك الناس بيوتهم بما فيها، ويركضوا خلف اختيار النجاة بأرواحهم، يختار العاقل كفة روحه إذا ما كان البيت في الكفة الأخرى، حتى إن بعضهم يأتيك مواسيا بالقول الشائع “في المال ولا في العيال”.

ليس انقساما جغرافيا فحسب، فلقد أُجبرت عوائل الشمال على النزوح من غير أربابها، حين اشتد الخطر واعتقل جنود الاحتلال عبثا آلاف الرجال عبر الحواجز المفاجئة، بعد أن قرروا المجازفة بتأمين أسرهم إلى ما ادّعى جيش الاحتلال زورا بأنها “مناطق الجنوب الآمنة”.. هُجّرت عوائل وأجبرت أخرى على الرجوع إلى منطقة الشمال بعد السماح لبعض أفرادها فقط بالمرور، ورفض البقية بلا أسباب.

انقسمت العوائل الفلسطينية بين شقي المدينة، شمالها وجنوبها، ينصّفها حاجز نتساريم الذي ابتلع الاحتلال لبنائه كل الأراضي المحيطة به، والمباني الممتدة من شرق المدينة إلى غربها، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه لئلا يُقتل بذنب العودة.

صارت العودة للنازحين حلما مضافا لعودة النكبة الأولى، وحملا ثقيلا يتوسط شروط التفاوض التي تمليها حكومة الاحتلال على وفود المفاوضين والوسطاء، حتى استنفدت كل المحاولات التي سمعنا جعجعتها ولم نر طحينها في أي مرة.

تحولت العائلات الفلسطينية الممتدة إلى أنصاف عائلات، وصار الانقطاع الطويل هاجسا لكل نصف بأن لا يترك نصفه الآخر عالقا في غيابه وشتات أمره؛ لكن الحرب وحش الوقت المفتوح، وصراع الاختيارات المؤلمة، ما اضطر المواطنين إلى استكمال حياتهم بعيدا عن أحبابهم المصابين بلعنة الحاجز، وأن يستفتحوا حياتهم من جديد بلا مؤقت انتظار.. الانتظار هنا قتل بطيء.

تزوجت أختي بعدما نزحت مع عائلة خطيبها، التي خرجت تحت غطاء ناري استهدف بيوتهم ومبانيهم شمالي غربي مدينة غزة مطلع هذه الحرب.. ذهبوا بهدف المكوث أياما قليلة في بيت جدهم الكائن في حي الجنينة شرقي مدينة رفح، ثم الرجوع بعد ذلك.

مرّ عام كامل لم نر فيه وجه أختي الصغرى، التي تسكن بصحبة زوجها الآن داخل خيمة صغيرة في مواصي خانيونس، حيث تبدأ في تشكيل ملامح أسرتها الصغيرة، بعد قرار عائلتنا الموافقة أخيرا على زواجها البعيد، بعدما عدمنا كل أسباب العودة وإقامة المراسم.. أسرة جديدة تنتمي لعمرنا وبيتنا وأحلامنا ويومياتنا، لكنها -مع الأسف- تعلق خلف الحاجز.

لم يأت على خاطرنا يوما أن اللمّة الأسبوعية لكامل العائلة سوف تتجزأ إلى قطع صغيرة من الحزن، الذي يلتهم كلا منا في بقعة نزوحه!

لا يقتصر الأمر على زواج بعيد من غير أهل، فبعض الشبان الذين آثروا البقاء هنا في الشمال فقدوا زوجاتهم وأطفالهم بعد نزوحهم جنوبا، ثم في لحظة فارقة صاروا عراة القلب، يواجهون غول الفقد ووحشة البعد بوحدتهم، بعد أن حُرموا وداع عوائلهم التي مسحت ودفنت كاملة، بعيدة خلف الحاجز.

بعد قرابة العام، ورغم واقع الأمر، فإن الغالبية التي تصارع الموت هنا تدرك يقينا أنه يستحيل مواجهة الفزع بالعزلة التي -لا شك- قد تودي بهم إلى الجنون على أحسن تقدير.

يمكن أن يعرّف البعض هذا النوع من الارتباطات بأنها ترف لا محل له في بيوت تموت أكثر مما تعيش، لكن الحقيقة أنها صارت ضرورة نفسية تحفظ عقول الناس، وحاجة جسدية تحفظ نسلهم، هذا ما دفع البعض لإعادة البدء في تأسيس عوائل جديدة، تحل محل عوائلهم التي فقدوها بعيدا، إذ لا غرابة أن يقرر هؤلاء الزواج في ظروف مؤقتة كهذه على اعتبار أنه لا انتهاء لأحداث الحرب الطاحنة، فلم الموت الوحيد مرة أخرى!

مضى على الوعد الذي قطعته صديقتي قرابة الشهر، غير أن الاحتلال يماطل في موافقته على لم الشمل الذي ينتظره والد الطفلة بجمر قلبه، وكلما سمح الاحتلال بذلك يؤجل إعادتها إلى إشعار آخر، لا يحتمل القلب أن تُختزل كل عائلة الشاب في طفلته التي نجت وحدها، وأن تُختصر العائلة “فيه” قبل الحاجز، و”بطفلته” بعد الحاجز، فكيف يحتمل أن لا يحتضن خوفها رغبة في إقناعها أنهما وحدهما الآن، وأنهما يعودان الآن عائلة بأكملها.

لا يشبه الواقع حياة الغزيين بشيء، وهم الذين يشتهرون بالمبالغة في ارتباطاتهم الاجتماعية التي تصغر وتكبر في حدود العائلة، ثم اليوم يتشتت كل جزء في مكان أقعدته الحرب فيه، ولم يختره هو ليبدأ حياته الوحيدة والغريبة بعيدا عن امتداداته الأسرية التي تشكل مرجعيته، وتكوّن ذاته، وتورثه الأحمال والمسؤوليات.

هذا المجتمع يحاول الاحتلال الإسرائيلي -بائسًا- تفتيته وإضعاف بنيته، ليبدو عشوائيا مختلا منقسما بأحزابه وقيادته ومدنه ومحافظاته، وليس انتهاء بانقسام عوائله الأصيلة التي يستحيل أن تقبل بأقل من إعادتها لموطنها شمال نتساريم، مهما كلفت نهايات الحرب من ثمن. 

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...