عندما ترفض -مثلا-  الشاعر العراقي الكبير عبدالرزاق عبدالواحد وتلعن سيرته بحجّة أنه قد مدح طاغية، فإنّ عليك إذن أن تفعل ذلك مع الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري.. لأنه أيضاً مدح طاغية آخر ملطّخة يده بدماء الأبرياء.

أما أن تفتح عيناً وتغمض أخرى، فتقبل هذا وترفض ذاك.. فإنّ ثياب النقد التي ترتديها لن تستر طائفيتك!!

النقد حالة تجرّد.. ومبدأ، والتزام.. بينما الشعر حالة انجراف لمشاعر مختلطة ومتناقضة أحيانا كثيرة تقودها شياطين تجيد الغواية!

هي الخيط الرفيع بين الهواية.. والهاوية

بين درجات النقد.. واستدراجات الهوى.

في ندوة أقيمت في الدوحة أوائل ديسبمر 2018 ضمن معرض الكتاب العربي حملت عنوان: (التجربة النقدية العربية) حاضر فيها ماجد السامرائي من العراق و الدكتور سعيد بلكراد من المغرب.. 

كان لي تعقيب على كلمة د. بلكراد بعد أن تناول الطرح النقدي وفق نظرية (الفن للفن) وأن مافي النص يجب أن يبقي في النص دون إدخال عوامل خارجية عليه، عبّرت عن إعجابي بالتجربة النقدية المغاربية التي أظن أنها تفوقت على التجربة “المشارقية” .. بل إنها ارتفعت هناك على مستوى العطاء الثقافي وأصبحت هي بذاتها منجزاً إبداعياً متميزا تستحق أن يبحثها فن “نقد النقد”.. وسبب ذلك يعود إلى عدة عوامل منها مجاورة التجربة الفرنسية وإعمالها لفكرة الفرانكفونية بشكل مخلص، بالإضافة إى نزوح عدد من المبدعين المغاربة للدراسة في جامعات مميزة كالسوربون وغيرها مما أتاح عمقا في الأخذ والعطاء..

سألت د. بلكراد بحضور وزير الثقافة القطري:

ماذا يفعل النقد تجاه إملاءات الإعلام الرسمي الذي يوجه الجماهير.. بالإضافة إلى شروط الجماهيرية التي ينجرف لها المبدع لضمان وصول صوته.. أضف إلى ذلك الاتكاء الكامل على فكرة (الذائقة) عند الكثير من المتابعين ولايخفى أن هذه الذائقة كثيرا ما تكون فاسدة ولاترتبط بشروط سوى شروط المزاج اللحظي أحياناً وضغوط الفكر الطائفي أحياناً أخرى.. مع ابتعاد النص عن المتلقي وانكفائه على ذاته بوصفه نص “كنسي” كما ألمح المحاضر.. 

أجاب الدكتور بإيجاز إن الابداع غالبا هو حالة نخبوية تحتاج إلى وسيط يوصلها إلى الجمهور.. فأرسطو مثلا لم يكتب للعامة بل إلى نخبة وهو يعرف أنه يخاطب النخبة.. وبذلك يحتاج إلى وسيط يوصله إلى الجمهور ويقرب أفكاره إليهم.

انتهى السؤال والرد..

وبقيت لديّ الأسئلة كثيرة معلقة.

فأنا ممّن يستمتعون بالنقد النخبوي، لكني أراه بعيداً عن الواقع.. عن إحداث التغيير، عن الملامسة المباشرة للحدث.. 

جاء شاب إلى البردوني، وعرض عليه شيئا من شعره، ويبدو أن الشاب كتب شيئا رديئا.. وقد أوغل في الرمزية المفتعلة

فقال له البردوني : إني أرى فيك صفة من صفات النبي عليه السلام!!

فانبهر الشاب وأسعدته الكلمة، وسأل عن تلك الصفة العظيمة التي تحلى بها..

فقال له البردوني: هي قول الله تعالى: (وماعلمناه الشعر وماينبغي له)

فانسحب الفتى يجرّ أذيال الخيبة!

يمكن رواية هذه الحادثة على شكل طرفة،. ويمكن سردها كحالة نقدية صادقة.. توجب مواجهة الموهبة الرديئة بشيء من الصراحة كي تصرف الإنسان عما لايجيده ليبحث عن شيء آخر ينتفع وينفع الآخرين به

علي المسعودي

كاتب له مؤلفات في الشعر والنقد والقصة

• تغريدة أوليغارشية
• النوق.. وهدرة الفحل
• كروش وقروش!!
• مكارم الشعر.. وكرم الشاعر