دانشمند: تحولات الغزالي وروح عصره (3)
بقلم: إبراهيم الدويري
| 19 يونيو, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: إبراهيم الدويري
| 19 يونيو, 2024
دانشمند: تحولات الغزالي وروح عصره (3)
بعد جزالة اللغة وسعة الخيال والمهارة في الربط بين أجزاء الرواية؛ يبقى التفنن في الوصف والقدرة على تحريك الشخوص وفق أدوارهم المرسومة محل اختبار لكل روائي، وفي رواية دانشمند نجاح ماتع في “الرسم بالكلمات” لملامح الأشخاص، وقدرة إبداعية على تحريك شخصيات الرواية الكثيرة في لعب أدوارها المختلفة بجانب الشخصية الرئيسية دانشمند الذي بقي محور الرواية.
يجد القارئ للرواية ألبوم صور لحجة الإسلام في كل مراحل حياته؛ ففي الطفولة يرى “وجهه الأبيض الجميل وعينيه السوداوين العميقتين” و”رباعيته السوداء”، وفي ميعة الشباب يرى لحيته السوداء ووجهه المستقيم، و”نابه المرتفع قليلا إلى الأعلى”، وهكذا في كل مرحلة عمرية أو بقعة جغرافية مر بها الغزالي تجد صورة له مرسومة حتى ساعة وفاته مرورا بمرحلة التنعم في نيسابور وبغداد، وبداية التقشف في دار السلام، ومكابدة النفس والهوى في شوارع دمشق وهو يحمل الحطب أو ينظف حمامات الخانقاه أو يعتلي منارة الجامع الأموي.
وحتى الشخوص الآخرين تجد لهم رسما بكلمات ابن الدين سواء كانوا ساسة مثل ملك شاه ذي “العينين الضيقيتين. والأنف الأفطس والجبهة الواسعة”، و”نظام الملك: بشفتيه الدقيقتين: وعينيه العميقتين، ووجنتيه الناتئتين”، أو علماء مثل الجويني الذي كان يدير في الحلقة وطلابها “عينيه البنيتين الضيقتين”، أو كانوا حرفيين عوام مثل النخاس الذي كان يمني نفسه بالزواج من والدة الإمام الغزالي فيصف لك “ملابسه الزعفرانية وعمامته الخضراء الفاخرة” وأنه “أبيض، أخضر العينين، حاد الأنف”.
يبدو أن تركيز أحمد فال على وصف الأعين راجع إلى تعمقه في تراجم هؤلاء واستحضار أشكال أصولهم القومية المختلفة، فوصفه لملك شاه يستحضر أن السلاجقة حينها في بداية أمرهم مزيجا من بدو الترك المجاورين للصينيين لم يختلطوا بغيرهم من الشعوب التي أضافت لهم ملامح أخرى متعددة الأشكال، وجعلتهم أقرب في الملامح لمزيج من الفرس والروم لوقوعهم بين القوميتين .
وللنساء نصيب من الوصف في الرواية وأجمله وصف تركان خاتون زوجة ملك شاه “الغارقة في سياسة القصور”، تلك الأميرة التركية “المفطورة عل المشاعر الحادة، والمشي على النتوءات، والإطلال من الأعالي المخيفة، واللعب بحد السكين، تدخل في شؤون السياسة بالفطرة، وتمقت الرتابة والدعة الخالية من التوتر، كأنما خلقت لتقود الجيوش، وتقيم الإمبراطوريات، وتخوض في الدماء”.. إلخ.
لتركان خاتون في الرواية دور محوري يصور حضور المرأة في السياسة من وراء ستار في ذلك العصر، وأبدع الكاتب في تحريك تلك الشخصية القلقة التي “خلق قلبها ليظل حيا دفاقا، لا يزهر إلا في زمهرير الحب أو حرور الحب، ولا يستخفها الطرب إلا وسط العجاج والمؤامرات والدسائس”، وهذه القوة أتعبت ملك شاه الذي كان من سوء حظه وقوعه بين رجل بقوة بمستوى نظام الملك، وشراسة امرأة بحجم تركان خاتون.
تحريك أحمد فال لشخصية الغزالي ونظرائه من الشخصيات العلمية المنافسة له أو المتأثرة به، والشخصيات السياسية الأخرى الفاعلة بديع ويمكن تفهم الإحاطة به في سياق المادة التاريخية والسياسية التراثية المتوفرة عن ذلك العصر، لكن قدرته العجيبة كانت في تحريك شخوص الجذب والتصوف والباطنية وتوظيفها توظيفا راقصا جمع بين الروحانية المحلقة والانفعال القوي بما يحيط بهم من أفكار وأحداث وصراعات دامية وناعمة.
من تلك الشخصيات المتحركة في الرواية شخصية طيفور المحب الذي ظهر فجأة بين الجماهير المحتشدة أمام الوالي وهو “في مرقعته وبيده عصاه وطبله”، ثم تراه يستقبل جموع المصلين في رحبة جامع نيسابور يلعب بعصاه وينشد أشعارا في الحكمة والتدبر، ثم “يرفع بصره من تحت أهدابه الكثة، ويمد سبابته جهة السماء، ثم يتحامل على يديه ويقفز على رجل واحدة، مناديا والدموع تسيل على لحيته الشعثاء.: إلهي كيف تخلقني ثم تتركني تائها في أودية العطش!”.
وهكذا يستمر الوصف والتحريك حتى يسري تأثير طيفور فيمن حوله ثم ينقلب بهيئته الرثة جهة الغزالي الذي رآه مقبلا في جبة فاخرة تتضوع مسكا ويناديه “إن الذي تطلبه وراءك ياغزالي، لا تتفقد ملابسك وتنس قلبك، لا تُسَمِّنْ فرسك وتُهْزِل قلبك”، ولطيفور مع الغزالي قصص ومواقف فقد عايش حجة الإسلام وهو شاب ألمعي ممزق بين طريق الدنيا والآخرة، فالدنيا عند طيفور يمثلها طريق الفقه والجويني، وطريق الآخرة هي التي يسلكها أبو علي الفارمذي، ويرى طيفور أن الغزالي غلبت عليه الدنيا، وأن لباسه “ليس لباس من يوقن بالموت”، ومثل طيفور شخصية سمنون المجذوب، وفاطمة البهلولة المجذوبة التي تغني في رحاب مسجد الأمويين بدمشق.
ومن الشخصيات التي حركها أحمد فال في الرواية تحريكا ممتعا ووظف أبعادها الإيدلوجية والحركية والوظيفية بكثافة تصويرية بديعة شخصية عبيد الموسوس جاسوس الباطنية وأذنهم اللاقطة لكل حركة وحدث في نيسابور؛ فعبيد كان حاضرا بهدوء بين الجموع التي تداعت لسماع كلمة الوالي عقب الاضطرابات التي وقعت بسبب كتاب “المنخول،” وكان هناك جنب المسجد يُضحك الإمام الغزالي بقوله معلقا على صوت حبيب الشيرازي مؤذن جامع نيسابور بأن “صوته ضل طريقه إلى حلق محفوف بالشعر، وكان حقه أن يخرج من بين شفتي المغنية قلم”.
وكان هناك عند مقتل سمنون الذي فُجع به سكان الخانقاه وأهل نيسابور، وتعجبوا لِمَ يقتل من صام لله عشر سنين، وما رئي إلا باسما وما آذى أحدا؟، وكان عبيد عقب واقعة القتل يترنح في شوارع نيسابور يدعوه كل راء له ليحاكي له صوت المؤذن وغيره من الأصوات، وهو يمشي حافيا كعادته في جبته المرقعة باهتة الألوان وعمامته السوداء متجها نحو مجلسه جنب مكتبة البيهقي حيث يراقب المارة والمسافرين والداخلين إلى المسجد الجامع وخان الطاووس، ثم يدخل إلى سرداب الباطنية من طريق دكان حسن الحداد ليكتب التقارير إلى حسن الصباح في قلعة آلموت التي وصفها المؤلف وصاحبها وصفا في غاية الروعة والجمال.
وفي الرواية من الشخوص والمشاهد الجميلة ما يضيق عن الحصر، وقد تعامل الكاتب معها ببراعة كما تعامل مع التراث الكبير للإمام الغزالي ببصيرة ثقافية وتاريخية واعية، وقد ذكر لنا أنه قرأ كل تراث الغزالي وما كتب عنه قديما وحديثا إلا كتبه الفقهية، وهو أمر ظاهر في الرواية.
وحسنا فعل ابن الدين في إعراضه عن الجدل الفقهي في ذلك العصر؛ فرغم أن العصر شهد تأليف موسوعات فقهية كبرى في الفقه الشافعي منها كتب الغزالي نفسه إلا أن حجة الإسلام في مراجعاته الأخيرة رأى أن الإغراق في الفقه غير مجد ولا مفيد؛ فعمد نحو كتبه الفقهية الكبرى يختصرها حتى وصل إلى كتابي الوجيز والخلاصة، فكان إعراض المؤلف عن الكتب الفقهية برورا بحجة الإسلام الذي أضحى أبا روحيا لكثير من السالكين إلى الله.
ولي على الرواية ملاحظات في بعض الحقائق التاريخية وتوظيفها، ورأيت أنه جعل التقدم الحضاري في ذلك العصر قريبا من عصرنا، مع ملاحظات أخرى فاوضت فيها المؤلف فأقنع بردوده عن بعضها، وذكر ما يستأنس به في بعضها الآخر، وهي رواية تاريخية مبهجة جديرة بالقراءة لم يستطع حجاب المعاصرة ستر محاسنها عن قرائها.
2 التعليقات
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
تعليق جميل
يجعل القارئ
يتعرف على الرواية . بأكبر قدر ممكن
سلمت أناملك
ابدعت في تناول الشخصيات في وصف حركي يغري دور السينماء بتبني فيلم سينمائي لتمثيل الرواية لما وصفته من شخوص متعددة الحركات والادوار تصل حد التناقض والكيد والقتل مما يصبح مادة جاذبة ومشجعة لتحويل الرواية الى فيلم سينمائي حينها ينبغي ان يحذر صاحب الرواية من ضياع الرواية ورسالتها تحت كامرات لها اهداف تسويقية وتشويقية تؤول في احيان كثيرة الى تشويه المنتج بله هجونته