يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (2)
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 28 سبتمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (1)
علاقتي مع كتابات الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل...
-
اِجعل لكَ خبيئة!
خرج المسلمون يوماً لقتال الروم، فلما التقى...
-
خرافة اسمها الحب!
من البديهيات أن المشاعر جزء أصيل لدى الإنسان.....
-
الشكر.. دوامٌ للنعم في الدنيا وفوزٌ في الآخرة
أنعم الله تعالى وتفضّل على عباده بالكثير من...
-
الترامبية المتجددة وأمْوَلَة نظام الحكم في الولايات المتحدة
منذ أن بلور حكماء الإغريق قديما فكرةَ...
-
السياسة الخارجية المتوقعة لإدارة ترامب.. تداعياتها على الشرق الأوسط
خلال حملته لاستعادة رئاسة الولايات المتحدة، قال...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 28 سبتمبر, 2024
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (2)
عرب إسطنبول وإعادة اكتشاف ماضي تركيا العثماني
لاحظتُ أنَّ لدى الجالية العربية في تركيا اهتمامًا بتاريخ الدولة العثمانية، واهتمامًا بتاريخ تركيا الحديث وأبرز شخصياتها، وهذا طبيعيٌّ مع هجرة أعدادٍ كبيرة من العرب إلى تركيا، وهناك ولعٌ عربيٌّ بشخصية السلطان عبد الحميد الثاني، لعلَّ سببه مواقفه ضد الصهيونية، ودفاع الإسلاميين عنه.
يقول فواز طرابلسي في كتابه “سايكس بيكو بلفور”: “من يقرأ ’’يوميات هرتزل‘‘ يذهل لعدد المشاريع التي عمل عليها الرجل من أجل احتلال الأراضي واستملاكها أو استئجارها لتوطين اليهود، بغضِّ النظر عن مصالح الشعوب ومشاعرها. وعرض على السلطان عبد الحميد شراء فلسطين لقاء مليونَي فرنك نقديًّا”.
حتى إنني بدأت البحث واكتشاف جوانب مختلفة من حياة السلطان عبد الحميد الثاني، آخر الخلفاء الكبار من العثمانيين، وكتبت مقالة عن السلطان عبد الحميد في أشعار العرب الذين عاصروه، وقرأت عن حبه لروايات الكاتب آرثر كونان دويل مخترع شخصية “شيرلوك هولمز”، وقد تقابل معه السلطان عندما زار إسطنبول، ومن شدة إعجاب السلطان بتلك الروايات منح كاتبها الوسام المجيدي. ولقد كان عبد الحميد يأمر بترجمة هذه الروايات البوليسية، ومن ثم يتلونها على مسامعه حتى وقت متأخر من الليل في القصر.
إسطنبول بأعيُن عربية
لقد عشت في إسطنبول، وحتى أقاوم مشاعر الغربة بت أتتبع طيف العرب الذين عاشوا في المدينة، من سياسيين وأدباء وشعراء ومثقفين، أبحث عن الأماكن التي زاروها وأستأنِس بحكاياتهم المدينة ذاتها. ساعدني العمل في المكتبة على تلبية هذا الشغف بتاريخ إسطنبول بأعيُن عربية، سواء أكانت نخبًا سياسية من الأمراء، مثل الخديوي عباس حلمي الثاني الذي نُفي إليها، أو شعراء مثل أحمد شوقي الذي كتب قصائد للسلطان عبد الحميد الثاني، أو صحفيين مروا بها وكتبوا عنها، مثل كامل مروة مؤسِّس جريدة “الحياة” اللبنانية.
وكيف لا أعيش التاريخ وقد كنت أسكن في حي الفاتح أمام مسجد الخرقة الشريفة (أي القميص الشريف)؟! وهو مسجد يحتوي على قميص يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كان السلطان عبد الحميد يأتي إلى المسجد ويتبرك بهذا القميص، وفي رمضان ترى المسجد يتحول إلى مزار يتوافد إليه مئات آلاف الأتراك، الذين يصطفّون في طوابير طويلة لرؤية بُردة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
أمير الشعراء في إسطنبول
يحكي لنا حسين ابن الشاعر أحمد شوقي في كتابه “أبي شوقي” أن الخديوي كان يقضي معظم شهور الصيف في الآستانة، وكان شوقي يرافقه في أكثر سفره إليها، واقتنى الشاعر منزلًا لطيفًا في بيوك دره، وهي بقعة تقع على ضفاف البوسفور. ولقد نظم شوقي فيها أكثر قصائده التي تغنى فيها بجمال تركيا، وكان لمنزل شوقي برج يشرف- نظرًا إلى ارتفاعه- على جميع الضواحي، وكان شوقي يقيم الولائم للضيوف، وأكثرهم من المصطافين المصريين الذين كانوا يُقسِمون أنهم لم يشاهدوا مكانًا أروع من هذا البرج، إذ كنت ترى منه إلى جانب البوسفورِ البحرَ الأسوَدَ، على الرغم مِن بُعده عنه.
وكان حسين ابن شوقي يصعد إلى البرج كثيرًا وحده، يحدّق إلى ذلك البحر الذي ينعتونه بالأسوَد، عساه يشاهد فيه ماء من ذلك اللون، ولكنّ رجاءه يخيب، إذ كان لون هذا البحر لا يختلف عن لون غيره من البحار.
وكان بيت شوقي قريبًا من السفارة الروسية، وللأسف ضاع البيت ولم يعُد له وجود، فقد التهمته النيران في حريق عظيم، لأن معظم بيوت إسطنبول كانت مقامة من الخشب. وكان شوقي يسير على جسر جلطة، بل إنه كتب أبياتًا عن الجسر والسوس الذي ينخر في خشبه، فقال:
أميرَ المؤمنين رأيتُ جسـرًا أمرُّ على الصراط ولا عليه
وقد اهتمَّ بهذه القصيدة السلطان عبد الحميد وطلبها وقرأها باهتمام.
ولما خُلِع السلطان عبد الحميد بيعت محتويات قصره العظيم يلدز في المزاد العلني، وكان شوقي لا يرغب في شراء أي شيء منه احترامًا لذكرى عاهله، ولكنّ أولاده ألحّوا عليه في شراء كلبين هناك من نوع اللولو، وهما لم يعمرا إلا أياما ثم ماتا على فراق سيِّدهما، إذ أضربا عن الطعام. كذلك اشتروا من قصر يلدز قطة أنقرية سمَّوها زنبل، أي برد بالتركية، لأنها كانت فاقعة البياض. وزنبل هذه لم تكن عاطفية مثل كلاب الخليفة، فلم تحزن على فراق سيِّدها، لكن هذه القطة أتعبت أسرة شوقي بعاداتها الأرستقراطية، فهي- مثلًا- لم تكن تأكل إلا لحم الدجاج، كما أنها لم تكن تمكث في الأرض، بل كان مسكنها المختار حِجْر زوجة الشاعر شوقي، وكانت الأمُّ المسكينة تلزم مكانها ساعات طويلة دون أن تتحرك كي لا تزعج القطة بنت القصور.
كان شوقي يغتبط كثيرًا بسفره إلى تركيا، إذ كان يحب الأتراك حبًّا جمًّا.. ويتساءل ابنه في مذكراته: هل السبب هو الدم التركي الذي كان يجري في عروقه؟ لقد أشاد بانتصاراتهم، كما بكى لهزائمهم، وأكثر شيء أعجب أسرة شوقي في الترك نظافة القوم. وذات يوم تعطَّل حنطور شوقي في ضاحية بإسطنبول ودخلوا بيت سائق العربة، ووجدوا البيت آية في النظافة، وشرب شوقي القهوة، وأخذ الصغير قِطَع الحلوى التركية.. الحلقوم المعروفة باللكوم.
استمرت رحلات أسرة شوقي إلى تركيا حتى إعلان الحرب العالمية الأولى، وكانت الأسرة في إسطنبول، فألحَّ عليه الخديوي أن يعود إلى مصر لأن الأتراك سيدخلون الحرب، وشوقي معه أسرة كبيرة.
وقد ناصر أحمد شوقي الخليفة عبد الحميد، ومدحه بقصائد عديدة في مناسبات مختلفة، بداية في الحرب بين تركيا واليونان عام 1897، وبقصيدة أخرى في عيد جلوس السلطان عبد الحميد وهو في إسطنبول عام 1904، واستصرخه لينقذ مكة من قسوة شريفها عون الرفيق في عام 1904، وقصيدة أخرى يهنئه بنجاته من قنبلة عام 1905.
لكن شوقي سيرحب بالانقلاب العثماني على السلطان، وبالدستور عام 1908، ولم يذرف الدموع على عزل ممدوحه، الذي كان أنعم عليه بالبكوية، وبكوية إسطنبول كانت في ذلك الوقت يلقب صاحبها بصاحب السعادة، ومُساوية للباشوية المصرية.
لنتذكر أن شوقي قال عن عبد الحميد:
بسيفك يعلو الحق، والحق أَغلَبُ ويُنـصـر ديـن الله أيّـان تَضـرب
لكن قصائد شوقي في مدح الخلافة والسلطان يصلح لها شطر البيت، الذي دوَّنه في قصيدته وهو ينعى الخلافة 1926: “ودفنْتُها، ودفنتُ خير قصائدي معها”، لكن شوقي رغم فرحه بعزل السلطان عبد الحميد فإنه تمنى أن تطوى السماء وكأنها القيامة، ويظلم العالم بسقوط علم الخلافة عن أدرنة بعد استيلاء البلغار عليها عام 1912. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى انهارت الدولة العثمانية، فبكاها شوقي، ولكنه أثنى على مصطفى كمال أتاتورك، وتحمَّس له في حربه مع اليونانيين بسبب محاولات أتاتورك التقليل من أطماع الدول المنتصرة في تركيا.
الله أكبر! كم في الفتح من عَجَبٍ يا خالد الترك جـدّدْ خـالدَ العرب
ثم ألغى أتاتورك الخلافة، فلامه شوقي ثم انقلب عليه.
أتراك وعرب في المكتبة
نعود إلى داخل المكتبة، فبجانب زاوية التاريخ العثماني في المكتبة هناك كتب السياسة التركية، مثل كتاب “العمق الاستراتيجي” لوزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو. ويحتل القسم الخاص بتاريخ تركيا موقعًا ثابتًا في المكتبة، ويجري تحديثه باستمرار لأن الحياة في إسطنبول ولّدت لدى العرب رغبة في استكشاف تاريخ تركيا والقراءة عنها.
في إحدى المرات قابلت باحثًا تركيًّا يتقن العربية ويسألني عن الكتب المتوفرة عن أحمد فارس الشدياق، الكاتب العربي الذي كتب “الساق على الساق”، التي تعتبر من أُولى الكتابات الروائية العربية، وعندما تبادلنا النقاش وجدت هذا الباحث مهتمًّا بتتبع حياة الشدياق في إسطنبول، حيث عاش الشدياق وعمل، وفتح جريدة باسم “الجوائب”.
مع العمل في المكتبة التقيت كذلك بعض العرب الذين نجحوا في تعلم اللغة التركية، بل عمل بعضهم في الترجمة من اللغة التركية إلى العربية، مثل المترجم مجد الدين صالح الذي ترجم سيرة أتاتورك بعنوان “الغازي”، التي كتبها المؤرخ التركي إلبير أورطايلي، وترجم كذلك للمؤلف نفسه كتابه “العصر الذهبي للأتراك”، على أن مجدًا قدَّم نقدًا لكتابات أورطايلي في مقدمته للترجمة؛ فهذا المؤرخ رغم كونه من الأكثر مبيعًا في تركيا فإنه يتنقل بين الأحداث بشكل سريع، دون الوقوف عليها والدخول في عمقها والعناية بتحقيقها، وتطغى لديه شخصية الرحالة على شخصية المؤرخ في بعض كتاباته، كما يشير مجد الدين صالح.
هذا فضلًا عن أنه يذكر شخصيات وأحداثًا وأماكنَ دون توضيحِ ماهيتها بالضبط، بل يكتفي بذكر الاسم الأول، مما يتطلب من المترجم عملًا إضافيًّا للبحث عن هذه الشخصيات. ويذكر جمال باروت في حواره مع أحمد زكريا نقدًا لكتابات أورطايلي إذ يقول: “يطمس أورطايلي في كتابه ’’حقائق التاريخ التركي الحديث‘‘ كل ما هو إسلامي في حرب الاستقلال التي قادتها المقاومة الأناضولية بقيادة مصطفى كمال”، والخلاصة التي يصل إليها باروت أن “شطحات أورطايلي كبيرة جدًّا ولا تلائم مؤرخًا أبدًا.. ما يعرفه أورطايلي كثير حقًّا، لكنه يتلاعب بفهمه له وتأويلاته العصرية إلى درجة لا يقبلها أي مؤرخ، إن لم يكن يستنكرها”.
وترجم مجد كذلك عدة روايات، منها روايات بوليسية للروائي جليل أوقار، والنقاش مع مجد أفادني في معرفة تركيا بشكل أفضل، وكذلك كنا نتحدث دائمًا عن الشخصيات الغريبة التي استقرت في إسطنبول، وأخبرني مجد أنه يوجد كتاب بالتركية عن الزعيم السوفياتي ليون تروتسكي بقلم الصحفي التركي عمر سامي جوشار، فقد وصل تروتسكي إلى إسطنبول بعد نفي ستالين له، وقضى تروتسكي أربع سنوات ونصفًا في المدينة، بعد رفض الدول الأوروبية منحه فيزا دخول إليها، بسبب خوفها من تأليبه الحزب الشيوعي والعمال في دولها، بالإضافة إلى إدراكها جميعها أن ستالين متربّص به ويريد قتله.
وكذلك تعرفت إلى المترجم أحمد زكريا، الذي ترجم بالاشتراك مع زوجته المترجمة ملاك دينيز أوزدمير عديدًا من الكتب والروايات التركية إلى العربية، منها مذكرات فالح رفقي وعنوانها “أرض الزيتون”، وتحكي المذكرات لحظة الشفق العثماني في البلاد العربية، أو الخروج الأخير من البلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى.
عمل فالح مراسلًا حربيًّا في البلقان حيث قابل أنور باشا، ثم عيَّنه طلعت باشا بصفته وزيرًا للداخلية سكرتيرًا شخصيًّا، وحين غادر جمال باشا إسطنبول ليصبح حاكمًا لسوريا وقائدًا للجيش الرابع، انضم إليه وكتب مذكراته.
ومؤخرًا قابلتُ المؤرخ الفلسطيني سليم تماري، وتحدثنا سريعًا عن جديد الكتب والمذكرات، وذكرت له كتاب فالح رفقي وكتابه “أرض الزيتون”، فقال لي: “نعم، حمَّلْتُه من تطبيق ’’أبجد‘‘ وأعجبني”. إنَّ سليم تماري الذي تجاوزت سِنُّه 79 عامًا- أي إنه أكبر من الكيان الصهيوني، فهو مواليد عام 1945- يتابع جديد الكتب على تطبيق “أبجد”!
في المكتبة رأيت جانبًا من الأتراك الذين يعرفون العربية ويدرسون آدابها في الجامعة، يأتون إلى المكتبة للسؤال عن رواية أو مجموعة قصصية، ومنهم من يكتب رسالة ماجستير عن موضوعات تهتم بالدراسات العربية. عندما كنت أناقش الأتراك في الأسماء التي تُرجمت إلى التركية، كنت أجد ترديد اسم جبران خليل جبران الذي تبيَّن لي توفُّر ترجمات كثيرة له بالتركية، وكذلك روايات الكاتب أمين معلوف، الذي يكتب بالفرنسية، وهو لبناني.
وقد تجدد لقائي في تركيا مع الباحث والمترجم التركي محمد جليك، وهو طالب دكتوراه في الدراسات الإسلامية، ويعمل معيدًا في جامعة مرمرة في إسطنبول. ترجم جليك كتاب “العقل الأخلاقي العربي” لمحمد عابد الجابري إلى اللغة التركية، وكذلك ترجم عدة كتب لطه عبد الرحمن إلى التركية. وكم أشفقتُ عليه من لغة عبد الرحمن الصعبة التي لا أفهمها بسهولة. تقابلت مع جليك أول مرة عندما فاز كتابه عن الجابري بالمركز الأول في الترجمة من العربية إلى التركية في جائزة الشيخ حمد للترجمة في الدوحة. ومنه تعرَّفتُ إلى ناشرٍ تركيٍّ يترجم الكتب العربية إلى التركية.
المكتبة فسحة وصيدلية الكتب
كانت المكتبة في وعي كثير من المثقفين العرب في إسطنبول مكانًا للحنين والراحة من متاعب أعمالهم اليومية، وهكذا تصبح المكتبة فسحة من ازدحام المدينة وقسوتها؛ يأتي الزائرون ويشربون الشاي التركي ويقلبون الأغلفة.. مكان لا يُقسَّم فيه الناس حسَب الطبقة، والدخول إليه لا يشترط المال، ويتمتع بالحرية الفكرية من خلال تنوع المعروض من الكتب بمختلف الأطروحات، دون توجُّه معيَّن أو لخدمة أيديولوجيا بعينها.
ويضم المكان كل شرائح المجتمع العربي بكل جنسياته في مكان واحد، تجمعهم اللغة العربية والقراءة بها في هذا المنفى، الذي يجعل من بعض أجزاء إسطنبول مدينة عربية بامتياز، حتى إنَّ طقوس الضيافة أقرب إلى الحلويات العربية، حيث محلات الحلويات السورية على مقربة من المكتبة، وهكذا يجري تعريب المناخ والطعام، حتى القهوة التي تقدم تصبح قهوة على الطريقة السورية لا التركية، وهكذا لا تشتري كتابًا فقط، بل تتذوق طعم البلاد العربية في هذه الزاوية من المدينة.
توجد شائعة تقول بوجوب إخفاء ما نتناوله من أدوية وما نقرؤه من كتب عن أعيُن الغرباء، وهي نصيحة تُنسَب إلى رولان بارت، مفادها أن على الشخص أن يخفي عن الآخرين صيدلية بيته، ومكتبته. وإذا كان إخفاء الصيدلية هدفه إخفاء الأمراض فلا يُستدل عليها من أنواع الأدوية التي يتناولها، فإنَّ الكتب تفضح صاحبها وتكشف عن فكره.
هكذا تعمل المكتبة كصيدلية للروح، أرى الناس تستشفي بالكتب، تعالج بها أسئلتها وقلقها، وأحيانًا تبحث فيها عن الذي تفتقده في حياتها، أسمع مِن القرّاء أسئلة وهمومًا فكرية وأحيانًا همومًا نفسية.
هذا يجعلني أتخيل أن القارئ يعتبر المكتبة مستراحًا من الحياة ومستودع إجابات، ويذهب القارئ ويبقى سؤاله في ذهني! وفي السياق ذاته تقول د. ندى مغيزل نصر: “المكتبيّون نوع من الصيادلة؛ هُم يبيعون ما يشفي، يريح، يزيل القلق، يهدّئ، يفرّح، ينشّط، ينيم أو يوقظ”.
أشياء غريبة يقولها القراء في المكتبات
نجد هذا الذي يأتي ويسأل عن روايات عن الحب مثلًا أو الصداقة، وذات مرة سمعت من قارئ يبحث بصوت خافت عن كتب تحكي عن الشبهات في الدين، وآخر يبحث بصراحة عن روايات ليست عن الحب، بل تحتوي على ممارسة الحب ووصف جسدي صريح. حينما تحوَّل وجهي إلى علامة تعجب من صراحة السؤال، أخبرني عن روائيين يكتبون بهذه الطريقة الصريحة الفجة.
طلب زبون آخر عنوانًا عجيبًا، مثل “موجز تاريخ الأرداف”، وعناوين الكتب الطريفة كثيرة مثل كتاب “علم التقبيل”، ولا أنسى القارئ الذي حرَّف عنوان كتاب “مغامرة الإسلام” لمارشال هودجسون ترجمة أسامة غاوجي إلى “لغز الإسلام”، وساعتها تعجبت كيف تحولت المغامرة إلى لُغز! والأغرب منه الذي غيَّر عنوان كتاب “المادية الجدلية” إلى “المادية الجبلية” وجعل من ماركس وإنجلز بَدْوًا رُحّلًا!
وذات مرة قال صديقي وهو يجرِّد المكتبة: “أين كتاب ’’بحثي عن المُطلَّقات‘‘؟”، وسألني باستنكار كيف أطلب عناوين تافهة تحكي عن النساء الذين تطلَّقوا. تعجبت من العنوان، وعندما اقتربت من الغلاف وكان الكتاب “بحثي عن المُطلَقات” للفيلسوف بول تيلتش. والأغرب منه الذي يسألك عن نسخة إلكترونية في مكتبة تبيع الكتب الورقية.
وعلى ذكر هذه الطرائف التي تخص العناوين، يحكي الروائي الطيب صالح عن دعوته لمؤتمر عجيب في أوسلو عقده المجلس النرويجي للبحوث لمناقشة قضايا الهجرة، وفكّر الطيب صالح.. لماذا يدعونه إلى مؤتمر عن الهجرة؟. وكان السبب عنوان روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، وهذا يذكرني بنكتة دعوة إحسان عباس إلى مؤتمر لمكافحة الجريمة في بلد عربي، لأنه يكتب على أغلفة الكتب “تحقيق إحسان عباس”، فلا أقل من أن يقدّم لهم شيئًا عن أساليبه في التحقيق مع المجرمين، ومن هنا جاء اللبس!
وإذا أردت أن تعرف عن حماسي للعناوين، فقد طفت مع الصديق عبد الله بن عمر- القارئ لا الصحابي- المكتبة، نشاهد العناوين ونتبادل الآراء حولها، ووقفت أمام سيرة الكاتب أرسكين كالدويل، وعنوانها “اسمها تجربة”، وكانت سيرة رائعة تعرض خبرات أرسكين حول مهنة الكتابة.. “أرض العجائب والخيال” كما يسميها، وهذا الكتاب مترجم بعنوان آخر “كيف أصبحت روائيًّا؟”، وهي سيرة رائعة تحكي عن كفاحه وسعيه في القراءة والكتابة بلا كلل.
سألني ابن عمر عن كتب أخرى لروائيين أمريكان، فأجبت في حماس: “نعم لدينا رواية ’’شارع الفسيخ‘‘ لشتاينبك”. ورأيت علامات الذهول على وجهه!. كيف وصل الفسيخ إلى شوارع هذا الروائي الأمريكي؟! وذهبت إلى الرف، وكان عنوان الكتاب “شارع السردين المعلَّب”. هذه القصة تذكرني بالموظف الذي دخل عليه الأديب يحيى حقي في إحدى المصالح الحكومية فهشَّ له وفرح وقال: “أهلًا بالكاتب الكبير مؤلف رواية ’’لمبة الست نفيسة‘‘”، فكاد يحيى حقي أن يلطم أو يضحك، فالموظف يقصد روايته “قنديل أم هاشم”.
قال لي أحد القراء إنه تقابل مع أحد المؤلفين، وقال له إنَّ كتابه “حارة المساطيل” جميل جدًّا، فما كان من المؤلف إلا أن ابتسم، وكتاب المؤلف اسمه “حارة الصعاليك”، فهذا جعل الصعاليك مساطيل، ولا أنسى الزبون الذي سألني عن رواية “ماء الذهب” لكاتب مصري شهير، فأخذت أفكر وتوقعت أنه يقصد أحمد مراد، وكانت الرواية التي يبحث عنها “تراب الماس”، فقد حولها إلى “ماء الذهب”!
لقد رأيت عديدًا من القراء في المكتبة، بعضهم ينطبق عليه وصف الكاتب أحمد أمين في حكاية مشاعره مع الكتب: “أُجَنّ بالكتاب قُبيل شرائه وعند شرائه، وأبيت ليلةً وأنا أحلم به ولا أسمح لنفسي بالنوم ليلة الشراء قبل تصفحه ومعرفة ما فيه أو على الأقل عناوينه”.
أتذكر من أيام المكتبة شابًّا يدخل إلى المكتبة مع فتاة، ويبحث بين الكتب عن عديد من العناوين المميزة، يستقر على رواية “الشياطين” لدوستويفسكي وكتاب “آل بن لادن وعالم النفط والمال والإرهاب” لستيف كول، وعند الحساب تدفع الفتاة بكل أريحية وبهجة، ويعلِّق الشاب بأن هذه الكتب هي هدية عيد الحب. ابتسمت وفكرت.. ما رأي بن لادن في الفلانتين وعيد الحب؟!
نكمل الحكايات في الحلقة القادمة..
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
من زمزم إلى الذّبيح عبدالله.. إرهاصات بين يدي الولادة
"إنّي لنائمٌ في الحِجر إذ أتاني آت فقال: احفر طَيبة؛ قال: قلت: وما طَيبة؟ قال: ثمّ ذهب عني، فلمّا كان الغد رجعتُ إلى مضجعي فنمتُ فيه، فجاءني فقال: احفر برّة؛ قال: وما برّة؟ قال: ثمّ ذهب عني، فلمّا كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة، قال:...
هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (1)
علاقتي مع كتابات الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل معقدة، قد تأخذ موقفًا مما يكتبه وتتهمه بكثير، ابتداءً من التحايل على المعلومة وتعديل تفسيرها، إلى عدم إيمانه بالديمقراطية.. لكني أعود إليه كمصدر وشاهد عيان في قضايا تاريخية كثيرة، والأهمّ كواحد من أجمل الأقلام الصحفية في...
البنتاغون يتوقع اضطرابات كبيرة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض
تتزايد المخاوف في أوساط البنتاغون بشأن عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث يُخشى أن يسعى لتنفيذ وعود انتخابية قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة على الجيش الأمريكي، الذي يُعرف بحياده السياسي. من بين هذه المخاوف، توجيه الجيش للعمل داخل الولايات المتحدة،...
0 تعليق