لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

بقلم: خالد صافي

| 8 سبتمبر, 2024

بقلم: خالد صافي

| 8 سبتمبر, 2024

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

كثيرًا ما أمعنت النظر صغيرًا في لوحة زيتية كانت تزين صالون بيت جدي، تتوسطها صورة رجل طاعن في السن والتعب، يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء على جبينه ويمشي حافيًا في صحراء من الرفاق.

وكبيرًا عرفت أنها لوحة “جبل المحامل” للفنان سليمان منصور، وهي ترمز إلى الشعب الفلسطيني الذي يحمل هموم الوطن على كاهله.. حينذاك كنت أستغرب كونه وحيدًا بلا سند! أهو من اختار ذلك الدرب وحده أم تخلى عنه الأصدقاء؟ أكُتب عليه الشقاء وحُمّل المهمة على عاتقه منفردًا، أم صعُب الحِمل على من سواه فانفضوا من حوله؟ أم إنهم أصلاً لا يعرفون شيئًا عن تفاصيل معاناته التي يعتقدون أنه قادر وحده على الاضطلاع بحملها؟

ثورة العالم الرقمي

حديثًا عادت الأسئلة ذاتها تراودني مع تدفق الأحداث على منصات الإعلام الرقمي، وانتشار مشاهد صمود الشعب الفلسطيني ونضال المقاومة ضد المحتل في حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة.. أمن الإنصاف أن يبقى جبل المحامل وحده في الميدان، أم عليه أن يستنفر الآخرين عبر هذه المنصات لنصرته والدفاع عن دماء الأبرياء ومقدسات الأمة كلها؟ هل من المعقول أن من حوله لم يسمعوا استغاثة آلامه، ولم يروا تقرحات أقدامه، ولم يشعروا بثقل المهمة على كاهله وحده؟

لا شك أن الثورة الرقمية أقامت الحجة على كل ذي سمع وبصر وفؤاد، فما توانى الجيل الجديد من جبل المحامل عن مد العالم بتفاصيل المأساة، بالمنشورات والتغريدات والمساحات الصوتية والمقاطع المرئية والصور والتصاميم والرسوم والأرقام، في طرقات يومية موجعة على جدران اللامبالاة، في زمن تُترجم فيه كل الصرخات إلى بيانات وإحصاءات، وتُنشر على الهواتف والشاشات، ورغم ذلك مازال بيننا من جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصرّوا واستكبروا استكبارًا.

لم يطرقوا جدران الخزان

الفلسطيني متهم بأنه لم يوصل معاناته ولم يطرق الجدران، وأنه يستأنس ثوب الضحية ولوم المساندين وإنكار الدعم والمواقف، ولا يذكر للعالمين العربي والإسلامي إلا الخذلان.. وعلى الطرف الآخر لسان حال الفلسطيني يقول: “لا تطلب مني أن أطرق جدران الخزان، بل جرّب أن تعيش داخله معي، أو قاتل إلى جانبي لأخرج من أتونه، هذا هو المطلوب، وما دونه لا يسمى إسنادًا بل خذلانًا، تسربل بهذا المعيار واقرأ أهم محطات الكفاح الفلسطيني لترى الصورة من منظوري، وقارن بين العطاء والمعاناة، وقيّم بين الإسناد والخذلان”.

محطات في الكفاح الفلسطيني

– في الثورة الفلسطينية الكبرى 1936، أعلن الفلسطيني إضرابًا عامًا ضد الاحتلال البريطاني والهجرة الصهيونية، وناشد العالمين العربي والإسلامي لدعمه، وجاء الدعم خجولاً حتى تعرضت الثورة للقمع الدموي البريطاني المدعوم عسكريًا، ما أدى إلى إحباطها وإعدام قادتها بعد ثلاث سنوات من النضال.

– وفي أحداث النكبة 1948، جاءت الجيوش العربية إلى الميدان بلا تنظيم ولا تنسيق بينها لتُهزم ثم تنسحب، ليواجه الفلسطيني النزوح الجماعي، والتطهير العرقي، ومجازر عصابات الاحتلال.

– نفّذ جيش الاحتلال مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982 بالتعاون مع ميليشيات لبنانية، ووقّعت مصر “كامب ديفيد” سنة 1978 لإبرام السلام مع الاحتلال، وتبعتها الأردن لتوقيع معاهدة وادي عربة، وكأن دول الجوار أرادت أن تنسلخ من الصراع لتترك الفلسطيني لتقرير مصيره.

– أشعل الفلسطيني انتفاضته الأولى أواخر 1987 في مواجهة جيش الاحتلال، لكن جهودها قُبرت تحت أقدام المؤتمرين في أوسلو، بعد خمس سنوات من النجاح في تجييش العالم لنصرة أطفال انتفاضة الحجارة، من أجل مصالح سياسية ضيقة.

– وعندما دنس الاحتلال المسجد الأقصى في خريف عام 2000، أعلن الفلسطيني انتفاضته الثانية، وعلى مدار خمس سنوات كان الدعم الدولي والعربي إما محدودًا أو غائبًا، وعندما يصاغ يخرج عربيًّا على هيئة كلمات شجب وتنديد، وعالميًّا على شكل شعور بالقلق، بينما كانت الرصاصات والصواريخ لغة الاحتلال.

– حاصر الاحتلال غزة منذ 2007 ليعيش الفلسطيني ظروفًا إنسانية مأساوية هي الأسوأ والأطول في التاريخ، يعاني من قطع الكهرباء والماء والدواء، والقيود على الحركة والتنقل تحت سمع وبصر الجميع.

– فوق الحصار شنّ الاحتلال حروبًا طاحنة ضد الفلسطيني في غزة أعوام 2008 و2012 و2014 2021، ورويدًا رويدًا اختفت كلمات الشجب والتنديد بأفعال الاحتلال الإجرامية، وبدأت تطفو على السطح فكرة المساواة بين الضحية والجلاد، ومخاطبة الطرفين كقطبين متناحرين عليهما ضبط النفس واستعادة الهدوء في المنطقة.

– سارعت الأنظمة العربية للتطبيع مع الاحتلال واحدًا تلو الآخر، بعد إعلان صفقة القرن، لوأد ما بقي في قلوب الشعوب من نصرة للقضية، فهددت المقاومة بأنها على وشك الانفجار، وأن القادم طوفان هادر، وكان السابع من أكتوبر 2023 صدمة لإعادة القضية إلى صورتها الأولى، وقسمت غزة العالم إلى صنفين: إنسان، ومتواطئ مع الاحتلال.

كلمات للتاريخ

بعد استعراض محطات الكفاح، إذا لم تكن الصورة واضحة لتقييم حال الأنظمة العربية ما بين نصرة وخذلان، اقرأ ما قاله الشيخ أمين الحسيني، مفتي القدس، إبان الاحتلال البريطاني: “لقد تُركنا وحدنا لنواجه مصيرنا، بين مطرقة الاحتلال البريطاني وسندان الصهيونية العالمية”، أو تأمل ما خطّه القائد عبد القادر الحسيني بيده قبل استشهاده بيومين، ليكون شاهدًا على خذلان القادة العرب والجامعة العربية للمدافع الفلسطيني عن أرضه حين كتب: “إني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح”.

فك رموز المعادلة

السلاح هو المعادلة التي لم يفلح الداعم في فك رموزها على مدى تاريخ النضال، بل حصر نفسه في خانة المتفرج أو المتعاطف الإنساني، ولذلك بقي مشهد العتّال الفلسطيني يجوب الأرض بحثًا عن مناصر يحمل معه هم القضية بحقها، مناصر لا يحصر دوره في التصفيق لصمود الفلسطيني، والانبهار بمقاومته والتنديد بجرائم الاحتلال بحقه، بل ينبري لحمل المقدسات معه على كاهله على اعتبار أنه شريك في القرار والمصير.

ليس من الإنصاف أن يبقى جبل واحد يحمل كل هذه المحامل، بينما في استطاعة كل منا أن يكون جبلاً للمحامل.

1 تعليق

  1. Bouchra

    مقال رائع، يشعر المرء، وهو يقرأ هذه الكلمات الصادقة، يشعر بالتقصير والقهر، فقد حملت الأجيال الفلسطينية، هموما كالجبال، كأن أولى القبلتين تخصهم وحدهم، ان الدفاع عن فلسطين فرض عين على كل مسلم ومسلمة، حتى لا يستبدلنا الله بأصحاب الضمائر والقلوب الحية…

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...