لا تبع حياتك بالرخيص

بقلم: كريم الشاذلي

| 9 أغسطس, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: كريم الشاذلي

| 9 أغسطس, 2024

لا تبع حياتك بالرخيص

 للمرء منا ميلادان..

ميلاد حين يقتحم بوابة الدنيا بصراخه وأنينه وتوجعه الدال على ضعفه وهوانه، حيث يدوَّن هذا التاريخ في شهادة ميلاده ويُعرف به، ويقاس به سن نضجه “الرسمي”؛ وميلاد حين تتبلور شخصيته، وتتكون ثقافته، وينضج وعيه، ويصالح مبادئه، ويخط طريقه الحقيقي المعبر عنه وعن أحلامه وطموحاته وأمانيه في الحياة.

في ميلاده الأول- المجازي- يعرف الدنيا من خلال التجربة الشخصية، فنراه حين يود التعبير عن شيء ما- كالعطش مثلا- يبدأ في التشنج  والصراخ، وركل قدميه في الهواء، ومع الوقت يبدأ في الانتباه إلى ما يفيد وما لا يفيد، فيعلم مثلا أن صرخة بعينها، أو تعبيرًا معينًا هو الذي يوفر له استجابة إيجابية من الوسط المحيط به، فيبدأ في انتهاج هذا الأسلوب دون غيره.. إنه يتعلم من التجربة، وينتبه إلى ما يفيد ويهمل تلقائيا ما لا يفيد.

وفي الميلاد الثاني- الحقيقي- يتعلم من تجربتين؛ تجربته الشخصية، حيث يتفاعل مع الحياة فيخطئ ويصيب، ويقترب من الحقيقة ويبعد عنها، ويبدأ في جني وتحصيل خبرات ومعارف تفيده في قابل الأيام، وكذلك يستفيد من خلال تجارب الآخرين، سواء كانوا شركاء له في الحياة، أو من الذين رحلوا وتركوا لنا أثرًا يدل عليهم، وتاريخًا ننتفع به، وتجارب تحمل الحكمة والعظة.

في الميلاد الأول، يرى أساتذة علم النفس أن الطفل الذي يتأخر إدراكه للواقع المحيط به يكون لديه ما يسمى “اضطراب الانتباه”؛ فنراه يخطئ كثيرًا، يتسرع، لا يفكر قبل أن يجيب أو يتحرك، لا يعي التنبيهات، يؤذي نفسه والمحيطين به.. وأرجعوا الأسباب في هذه الأزمة إما إلى ضعف النمو العقلي أو المورثات الجينية.

أما في الميلاد الثاني، فما الذي يدفع المرء وقد بلغ من العمر ما يؤهله للإدراك الواعي، من أن يكرر الخطأ، ويذهل عن استبصار الطريق الصحيح، ويخطئ وتزل قدمه، فتراه يمضي في الحياة تائهًا على غير هدى، يضرب بمعول جهده هنا وهناك، ويقفز في ميدان العمل والعطاء بغير اتزان أو طريق مرسوم، قفزة هنا وقفزة هناك، دون تحقيق نتائج إيجابية حقيقية؟!.

بمعنى آخر.. لماذا لا نستفيد من تجاربنا السابقة؟ لماذا لا نتدبر في ما مر بنا من مواقف؟ لماذا نبدأ في كل مرة الطريق من أوله، ونتناسى تجارب الماضي، التي دفعنا مقابلها في الغالب ثمنًا كبيرًا، وآلمتنا فيها حرارة التجربة؟.

يصبح السؤال أكثر قسوة حين نطرحه قائلين: لماذا يكرر الكبار الخطأ تلو الآخر بسذاجة وانعدام تركيز، بينما ينتبه الرضيع الذي لم يأنس المنطق والعقل يومًا لأخطائه، فلا يكررها إلا بما يسمح له مستوى نضج ذاكرته؟. وإجابة السؤال من وجهة نظري تكمن في أمرين؛ أما الأول فغياب الهدف والرؤية، وأما الثاني فانعدام ملكة التأمل والتفكر.

فانعدام الهدف يجعل الطرق كلها أمام المرء منا سواءً، فإذا ما تعرض لكبوة في طريق هجرَه سريعًا ميممًا وجهه شطر طريق آخر، يبدؤه من أوله، فإذا ما وجد فيه تيسيرًا مضى فيه، وإذا واجهته عثرة فعل فعلته الأولى، وتكون خبرته هنا غير مجدية لأنها خبرات متقطعة.. دعك من أزمة أخرى يواجهها وهي فقدان ثقته بنفسه، وظنه السيئ في قدراته، وتذمره الدائم من القدر والناس والحياة، وكان الأجدر به أن يختار دربه في المبتدأ بعد كثير تفكير وتدبر، ويمضي فيه بعزم ودأب وإصرار على بلوغ منتهاه، يمضي ويسقط وهو مدرك أن كل ما مر به خبرات سيستفيد منها في قابل الأيام.

نعم، قد تتغير خططنا كلها ذات يوم، وقد تأتي حوادث الأيام بشروطها، ولكن ثمة فرق كبير بين من يمضون بثبات، ومن يقضون حياتهم في القفز، مرة هنا ومرة هناك!

هذا في أمر الهدف المفقود والرؤية الغائبة، أما معضلة انعدام ملكة التدبر والتأمل فتلك أزمة دفعنا إليها واقعنا المعاصر بجنونه واضطرابه وسرعته!. الواقع الذي صور لنا الحياة سباقا، وفي السباقات لا وقت لدينا لإعادة النظر، ولا التأمل فيما مضى، ولا التدبر فيما فات!. نخشى إن أعدنا ترتيب أوراقنا أن نتأخر، والشر كل الشر- وفق رؤية المجتمع- في تضييع ساعة أو أكثر يقيم فيها الإنسان خطواته، وينظر فيها إلى ما حققه ويقارنه بما يجب أن يحققه.

أذكر أن قال لي صديق من صعيد مصر إنه عندما جاء إلى القاهرة وركب المترو هبط من العربة يركض، ثم توقف متعجبًا من ركضه الذي لم يجد له مبررًا، لقد ركض مع الراكضين بشكل عفوي، هكذا تمضي جميع أمورنا للأسف الشديد.

في القرآن الكريم يأمرنا ربنا جل اسمه: {ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد}.. والنظر إلى الغد هنا لا يتأتّى إلا لشخص ملك القدرة على صياغة هدف، وقدرة كذلك على إدارة خطة للوصول إلى هذا الهدف. أضف فوق ذلك الآيات الكثيرة التي يأمرنا فيها ربنا بالتأمل والتدبر، ليس فقط في آلاء الله الطبيعية من سماء وما تحتويه من نجوم وقمر، ولا الأرض بما يخرج منها من نبت وثمر، وإنما أيضًا في أحوال البشر، وتدابير الأيام وتغير الأحوال.. هذا التأمل الذي يوفر لنا ميلادًا ثانيًا حقيقيًا، نرتفع فيه، ونتطور بشكل يليق بما وهبنا الله إياه من عقل وقدرات ومواهب.

يا صاحبي.. ميلادك الحقيقي يوم تقف على حدود شخصيتك، يوم ترفض قوانين الحياة التي تخاصم فطرتك، يوم تقبل التحدي دون تذمر أو غضب، يوم تشق طريقك الذي اخترته لنفسك غير عابئ بصيحات الاستهجان والسخرية.

حياتك الحقيقية تعيشها حين تكون مبادئك هي أهم حليف لديك، وصوت ضميرك هو المشجع الأول لك.. حياتك الحقيقية ستعرف أنك عشت حين تغمض عينيك الغمضة الأخيرة مودعًا هذا العالم الصاخب وأنت راضٍ عن نفسك، ممتنًّا للحياة، راضيًا عن خطواتك فيها، سواء المتعثرة منها أو الموفقة.

وإن كان غير هذا فأنت في ميلادك الأول.. ما زلت تحبو!.

1 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...