السياسة المنسية

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 24 يونيو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 24 يونيو, 2024

السياسة المنسية

جاء التشريع الإسلامي بالإعجاز الفريد أمام الأمم في شتى العلوم، وبرهن لذوي العقول وذوي الفهوم والألباب وأهل الحكمة والمعرفة أنه – أي التشريع- من لدن عليم خبير، خبير بما يفيد أبناء البشر ويحقق أمانيهم، وعليم بما يشرعه لهؤلاء في كل زمان وكل حين وكل ظرف.

فالإعجاز في القرآن وآياته جاء بالحجج والبراهين والدلائل والإشارات على كل من أنكر شمولية التشريع لحياة الإنسان التفصيلية، وأنه صالح لكل زمان ومكان؛ فكانت الآيات “الطبيعية” المتعلقة بالطبيعة لتتحدث عن ما تحويه الطبيعة من سكنى للكائنات بأطيافها وأجناسها، وتنوع في طرائق معيشتها ومراد وجودها، وجاءت في التشريع أيضاً آيات كونية تتحدث عن السماوات والمجرات والأرض، وما تشمله من أسرار ومعارف تُذهل العقول والأفئدة في جمالية إشاراتها ولطافة تنبيهاتها.

وأما المجال السياسي والإداري في القرآن الكريم وسنه نبيه الأكرم فلم يخلُ من تحدٍّ للتشريعات الوضعية، بأن التشريع السماوي في أطروحته السياسية والإدارية والحكمية قد جاوز سقف التنافس البشري، ليحلّ محل المهيمن على تشريعات البشر السياسية .

فقد نص التشريع على العدل والعدالة في الحكم بين الناس في عديد من الآيات والأحاديث النبوية، ومنها قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين النَّاس أن تحكموا بالعدل} [سورة النساء: 58]. ويحث التشريع على عدم التفريق بين القرابة وبين الآخرين في الأحكام، فلا يقام الحكم على الضعيف ويُترك القوى الممتنع، ولا يقام الأمر على البعيد دون القريب، ولا على الوضيع دون الشريف، ولا على البسيط دون الأمير؛ فقد جاء في البيان القرآني: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [سورة النساء: 135].

ويربط التشريع سقوط الدول والحضارات بضياع الأمانة، وعندما سُئل النبي الأكرم عن معنى الأمانة وكيفية إضاعتها قال: “إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”، فهذا التوجيه البيّن الواضح ينص صراحة على ضرورة ألّا يتولى الحكم العام للجماعة البشرية إلا من تتوفر فيه شروط الكفاءة والصلاح والفاعلية لتحقيق مراد الناس. ويجيء التشريع مدللًا على أهمية الشورى واتخاذ المشورة والحث على الآراء المتعددة للوصول إلى القرارات السليمة بقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [سورة الشورى: 38]، وقوله: {وشاورهم في الأمر} [سورة آل عمران: 159].

وقد جاء في التشريع أيضاً ما يدل على مفهوم المسؤولية، وأنه تترتب عليها المساءلة في الدنيا والآخرة؛ فمن تولى أمر عامة الناس ومصالحهم لا يكون له الخيار في التصرف غير اللائق وغير الصحيح، لأن أفعاله تقع تحت طائلة المسؤولية. ويدعو التشريع إلى تعميم حس المسؤولية على كل منصب إشرافي وإداري، ولا يختص ذلك فقط بالولاية العامة على الناس .فقد جاء عن النبي الأكرم قوله: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته..”، إلى آخر الحديث الشريف.

فما زالت المنطلقات التشريعية الإسلامية تقدم لنا كل ما يحقق لنا وللبشرية العدل والعدالة والمساواة، وغيرها من المبادئ السياسية والتنظيمية التي ترنو لها أفئدة الناس.. ومع الأسف، نجد من يرى في التشريع ومنطلقاته تقييداً ورجعية في التطبيق، وهذا لم يأتِ من فراغ، إنما أتى بعد مراحل عديدة من هدم منظومة الوعي لدى الشارعين العربي والإسلامي .

د. جاسم الجزاع

أكاديمي كويتي

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...