من أمير المؤمنين إلى غزة

بقلم: كريم الشاذلي

| 30 أغسطس, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: كريم الشاذلي

| 30 أغسطس, 2024

من أمير المؤمنين إلى غزة

لقد تربينا أنه مع كل كبوة تسقط فيها هذه الأمة، نرى كتابها ومفكريها ومشايخها يهتفون بعودة صلاح الدين.

مذ سقطت الدولة العثمانية، والعيش في قصص البطولات الإسلامية جزءٌ لا يتجزأ من ثقافة القوم، يحاولون من خلالها إعادة الثقة مرة أخرى لشبابهم، حتى اتسع الأمر، وباتت هذه القصص جزءًا من المسكنات التي يتناولها الناس، وتخفف من بؤسهم، وتساعدهم على تجاوز محنتهم بالتعايش معها!

“الحواديت” تعجب الناس، وصرخة “القدس تصرخ فأين صلاح الدين؟” محبَّبة وجميلة، وترسِّخ لشعور المظلومية، وتجلب ملايين المشاهدين والمتابعين والإعجابات.

وأكبر جريمة يتم ارتكابها في حق هؤلاء الناس هو تكريس نغمة المظلومية لديهم، وإشعارهم دائمًا بأن الأزمة في شيئين: إما الغرب الحاقد، والماسونية العالمية، والصهيونية المتحكمة، وكأن قوة خصمك أنهت كل حيلة؛ وإما في خلل عقيدتهم، وضعف إيمانهم، وركاكة مبدئهم.

ولا يصرخ أحد بالأسباب الحقيقية، والتي يأتي على رأسها خيانة النخبة لمبادئها، والاشتباك في معارك تافهة عوضًا عن خوض المعركة الحقيقية، والاجتهاد في ما تجمد من فكرنا بدلًا من الدندنة حوله.

هذا الذي يصرخ ويدَّعي أن صلاح الدين قد تأخر، هل هو من الغباء بمكان كي لا يرى كل يوم من هو أقدر من صلاح الدين غير أنه مقيَّد بسلاسل فكره الجامد، وغارق في معارك جانبية تحيط به وتؤخِّر صعوده؟!

صلاح الدين لم يكن بطلًا بسبب تديُّنه الشديد، وشجاعته النادرة.. تلك أمور سيفصل فيها الله، بل كان قائدًا لأن معه رجالًا، معه جيش وسلاح، معه ما يجعله قادرًا على الانتصار.

وهل صلاح الدين يا قوم أشجع من علي بن أبي طالب؟ لا والله.. غير أن عليًّا حينما تولى القيادة لم ينتصر، رغم أنه أشجع من صلاح الدين، وأكثر منه فهمًا وفقهًا للدين، ويكفيه نَسبه وصحبته لسيد البشر؛ بيد أن أمير المؤمنين كان محاطًا بأشباه الرجال! هل تريد دليلًا على كلامي؟ حسنًا، هذا قول الرجل لمن حوله ذات يومٍ كئيب:

“يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال، لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم، معرفةً- واللّه- جرّت ندمًا وأعقبت سدمًا، قاتلكم اللّه، لقد ملأتم قلبي قيحًا وشحنتم صدري غيظًا، وجرّعتموني نغب التّهمام أنفاسًا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب.. للّه أبوهم، وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مراسًا وأقدم فيها مقامًا منّي، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وهأنذا قد ذرّفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع”. ثم يقول: “فيا عجبًا…عجبًا واللّه يميت القلب ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرّقكم عن حقّكم، فقبحًا لكم وترحًا».

أعلم أنك ستراوغ، ستقول لي إنها منسوبة إلى الرجل، وإني لا أملك ما أثبت به يقينًا أنه قالها، وهنا سأحيلك إلى التاريخ لتقرأ عن معاركه التي خُذل فيها، وأزمته مع أشباه الرجال الذين كانوا محيطين به.

أعود لكلامي، وأقول إننا بحاجة إلى أن نقصّ على الناس حكاية علي بن أبي طالب لا حكاية صلاح الدين الأيوبي، لسببٍ مهم، وهو أننا خسرنا معاركنا لا بسبب شح الأرحام عن الإتيان بصلاح الدين من جديد، وإنما بسبب شحّنا عن نصرة الحق، والدفاع عنه.

قالها أمير المؤمنين: “لا رأي لمن لا يطاع”! وغزة قالت رأيها، وليس عليها أكثر من ذلك، تماماً كأمير المؤمنين!

هل تظن حقًّا أن مشكلتنا في البطل الملهم الأسطوري؟! يؤسفني إخبارك بأن ملايين من الأبطال مرّوا علينا وذهبوا بآثار محدودة، كنا جميعًا سببًا في محدوديتها وضعفها.. تربيتنا السلبية، وعدم تفاعلنا مع الخير، وتكاسلنا عن دعم أي صيحة إصلاح، هذه كانت السبب.

أنا آسف، لكنها الحقيقة.. لقد أتت الأرحام بصلاح الدين، بيد أننا لم ننتبه إليه! العظماء يولدون كل يوم لكننا نقتلهم!

ثم.. هل تظن أن العباقرة لا يضجرون، والقادة لا يحزنون، والشجعان لا يرمون سيوفهم، إذ سيف الشجاع وحده لا يفعل شيئًا؟ هل تظن أن الحق ينتصر فقط لأنه حق.. والنبلاء ينتصرون فقط لأنهم نبلاء؟

تمهّل إذن وأخبرني يا صاحبي: ما الذي دعا نبي الله يونس لهجرة قومه؟ الإجابة: المرارة من عدم دعمهم للحق.

وما السبب الذي دفع بموسى أن يلقي بألواح ربه على الأرض ويستشيط غضبًا؟ الإجابة: الوجع من تحوّل الناس عن الحق.

وما المبررات التي دفعت النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم كي يرفع بصره إلى السماء لينقل لها حيرته.. “إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي”؟ الإجابة: تعجّبه من موقف الناس من الحق.

هذه هي مشكلة الحق دائما.. الخذلان!

إن غزة يا سادة لم تنتظر صلاح الدين- رغم حبها له- لكنها وعت جيداً مقالة أمير المؤمنين، فصنعت من طينتها صلاحها، تودعه شهيداً لتخرج آخر، وأخرجت- وهي الضعيفة المحاصرة- رجالها، وأرضعتهم من ثدي المحنة.. من بطولات الحاضر، ما يشبعنا عن النظر إلى التاريخ.

مشكلة فلسطين وغزة ليست في شح الأرحام، فرحم فلسطين خصيب، والحمد لله.. أزمة فلسطين ورجالها هي أزمة الحق المضطهد في كل زمان ومكان.. المشكلة لدينا نحن، الذين نشاهد معركة الحق والباطل ونمصمص الشفاه، ونبحث عن حلول لا تضعنا في موقف المسؤولية، فنذهب وننادي في كل محنة صلاح الدين وقطز ونور الدين..

غير أنّه لا أحد سينادي عليًّا، لأن عليًّا.. يحتاج إلى رجال؛ إذ لا رأي- كما أخبرنا رضي الله عنه- لمن لا يطاع!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...