من مذكرات الجنود على جبهة غزة

بقلم: خالد صافي

| 20 أغسطس, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: خالد صافي

| 20 أغسطس, 2024

من مذكرات الجنود على جبهة غزة

تعجبتُ حين قرأتُ على قبة مسجد مهدوم في رفح عبارة “سنصلي في القدس”، كتبها شخص ما بالدهان الأحمر، في رسالة جوفاء لا أرى أي بوادر على الأرض لتحقيقها، ما هي إلا شعارات بالية مازال يتمسك بها قلة من المتمردين على الواقع الذي يعيشون فيه، يقودهم وهم موعود بنصر زائف، أقول ذلك وأنا أتذكر ما فعلته مع زملائي، جنود النخبة، حين وصلنا إلى آخر نقطة في قطاع غزة، حيث جالت فيه دباباتنا من شماله إلى جنوبه، وقتلنا كل شيء يتحرك تقريبًا.

وصلنا إلى درجة نطلق فيها النار لأننا نشعر بالملل، في ظل الغياب شبه الكامل لقواعد إطلاق النار في حربنا في غزة، نطلق الرصاص هنا كما يحلو لنا، ونشعل النار في البيوت، ونترك الجثث في الشوارع، حتى لو كان أصحابها غير مسلحين ولا يشكلون أي تهديد وشيك على قواتنا.

عمل روتيني

إعدام المدنيين الفلسطينيين في غزة عمل روتيني لنا، نمارسه بمجرد دخولنا منطقة حددتها المؤسسة العسكرية “منطقة محظورة”، وعادة ما تُترك الجثث لتتعفن أو تأكلها الحيوانات الضالة..

لدي بعض الذكريات التي أود أن أشاركها معكم خلال عملنا العسكري منذ بدأ الغزو البري لقطاع غزة..

كنا في منطقة صغيرة وكل يوم يُقتل أمامنا واحد أو اثنان من المدنيين على الأقل لأنهم ساروا في منطقة محظورة، لا أعرف من هو الإرهابي ومن المدني، لكن معظمهم لم يكونوا يحملون السلاح، مؤخرًا أصبح لدينا كود رمزي متداول، حين نشعر بالملل نطلق النار دون سبب على أي شيء، على مبنى مهجور أو على الرصيف أو في البحر، وإذا رأى الجنود شخصًا يقترب يُسمح لهم بإطلاق النار على مركز جسمه مباشرة وليس في الهواء، مسموح لنا إطلاق النار على الجميع سواء كانت فتاة صغيرة أو امرأة عجوزًا أو رجلًا مسنًّا أو شابًّا صغيرًا..

الكل مستهدف

أذكر في نوفمبر الماضي أثناء إخلاء مدرسة من النازحين في حي الزيتون، طلبنا من الجميع الخروج والتوجه يسارًا نحو البحر، ومع حالة الهرج والذعر ركض بعضهم يمينًا، من بينهم أطفال، ولسوء حظهم كل من ذهب إلى اليمين قُتل، رأيت كومة من الجثث لأكثر من 20 شخصًا أخطؤوا حين لم يذهبوا يسارًا.

لا أشعر باللوم، لأنه من الصعب علينا أن نميز بين المدنيين والمقاتلين في غزة، عادة ما يتجول أعضاء حماس بلا أسلحتهم بين المدنيين؛ لذا فكل رجل بين 16 و50 عامًا هو إرهابي محتمل يعمل مع حماس، كل من يمشي في الخارج هو مشبوه، وكل من ينظر إلينا من النافذة هو مشتبه به، كل شخص يقترب منا قد يعرّضنا للخطر، لذا لا بد من تحييده احترازًا، أي مكان ندخله لا بد أن يهرب منه الفلسطينيون، ومن يتوقف هو المسؤول عن مقتله، وهذا بروتوكول لدينا لابد من تعميمه واعتماده.

تحدي الملل

لا توجد لدينا قيود على الذخيرة، عادة نطلق الرصاص لقتل الملل، مثلما أسلفت، لا يهم إذا كانت المنطقة مزدحمة أو غير مأهولة بالسكان فإطلاق النار لدينا عادة للتعبير عن الوجود، زملائي وأنا نطلق الرصاص بغزارة في كل منطقة نصلها بهدف إبعاد الناس، ولا يوجد أي تقييد على إطلاق النار، سواء بالأسلحة الصغيرة أو المدافع الرشاشة أو الدبابات.

في ديسمبر الماضي، وتزامنًا مع عيد الحانوكاه، فتحت الكتيبة بأكملها النار معًا، وأحالت الليل نهارًا كأنها ألعاب نارية أضاءت السماء لأننا في عيد، وأجمل ما في عيد الحانوكاه هو مهرجان الأضواء.

أوامر القيادة العليا

لدينا حرية اتخاذ القرار في غياب الأوامر من الجهات العليا، ونطبق القانون بأيدينا غالبًا، أذكر أنه في مرة وصلَنا إشعار عبر الراديو أن جنديًّا أطلق النار على عائلة فلسطينية كانت تتجول في مكان قريب، قالوا إنها مكونة من أربعة أشخاص، ثم تبين أنهم رجل وامرأة وطفلان، لا يهم النوع ولا العمر، المهم هو عدم اقترابهم من المنطقة المحظورة، أما إطلاق النار على المستشفيات والعيادات والمدارس والمؤسسات الدينية ومباني المنظمات الدولية فهو يتطلب تصريحًا أعلى، ولكنني في الميدان وأخبرك أنني أستطيع أن أحصي على أصابع يد واحدة الحالات التي طُلب منا فيها عدم إطلاق النار، حتى مع الأشياء الحساسة مثل المدارس، فإن الموافقة تبدو وكأنها مجرد إجراء شكلي.

نيران صديقة

هل تعلم أنه منذ بداية الغزو البري قُتل 28 جنديًا بنيران صديقة؟ وذلك لأن جنودنا في كل وحدة عسكرية يطلقون النار كما يحلو لهم، وفي مناسبات متعددة، وتعتبر هذه النيران أكثر خطورة من حماس، وقد تسببت في قتل هذا العدد الكبير من الأصدقاء، إلى جانب عدد آخر من الرهائن القتلى.

مصير الرهائن

منذ بداية الغزو البري أكدوا لنا أننا جئنا لاستعادة الرهائن، ولكن من الواضح أن الرهائن كانوا هم الهدف، كنت أشك في ذلك حتى تأكدت، نعم، لا يوجد أي اهتمام لدى الجنود ولا القادة بمصير الرهائن، عندما طلبوا مني تفجير نفق سألت: ماذا لو كان فيها رهائن لنا؟ هذا التفجير قد يقتلهم، مثلما حدث مع الرهائن الثلاثة في الشجاعية، الذين كانوا يلوّحون بالأعلام البيضاء في ديسمبر ولكنهم قتلوا بأيدينا. وكان رد القيادة: “عليك أن تنتبه وأن تكون حريصًا، لأننا في منطقة قتال، وعلينا أن نكون في حالة تأهب”. بعدها علمت أن الرهائن قتلوا نتيجة هجومنا.

لا بواكي لهم

الإجماع المتعارف عليه بيننا في غرفة العمليات هو “أطلق النار أولاً ثم اطرح الأسئلة لاحقًا”، لن يذرف أحد دمعة إذا دمرنا منزلاً، أو حينما نطلق النار على شخص لا يفترض أن نطلق عليه، فهو المخطئ في كل الأحوال، لا يفترض وجود مدنيين في المنطقة، لقد دخل منطقة العمليات وعليه أن يتحمل نتيجة خطئه، ولدينا يقين أن كل شخص نقتله إرهابي، وعادة نجتمع في نهاية اليوم ليتفاخر كل منا بعدد الإرهابيين الذين قتلهم، في بعض الأحيان يطلب القائد منا أرقامًا ثم يركض ضابط الفرقة من لواء إلى لواء، ويفحص القائمة ويحسب عدد القتلى، ويقدم التقارير العسكرية للجهات العليا بالعدد الإجمالي ضمن ملفات الإنجاز.

هم يستحقون ذلك وأكثر

في بداية الحرب كان يساورنا شعور بالذنب مع بعض الحالات الحساسة، لكن سرعان ما تحول الشعور إلى رغبة في الانتقام، ومع كل لقطة تبثها المسيّرات في غرفة العمليات للهجمات في غزة تتعالى أصوات الفرح من بيننا مع انهيار المباني وتدمير الأماكن: “يا له من جنون، يا لها من متعة”، إنهم يستحقون الموت لأنهم فرحوا بالموت والدمار الذي لحق بنا في السابع من أكتوبر، لقد وزّعوا الحلوى، ورأيناهم وهم يرقصون ابتهاجًا، هم من انتخب حماس وجاء بها للحكم، إنهم يستحقون كل ما يحدث لهم، وحتى أطفالهم، فطفل اليوم هو إرهابي الغد.

لو سألتني عن تجربتي في غرفة العمليات وأنا أدمر المباني أجيبك: كنت أشعر وكأنني ألعب لعبة كمبيوتر! وبعد أسبوعين أدركت أن هذه مبانٍ حقيقية تنهار، لا أدري إن كان فيها سكان أم لا، عمومًا لو كان فيها سكان فقد انهارت على رؤوسهم، وهم يستحقون ذلك وأكثر.

الجثث المتناثرة

غالبًا ما يأتي النازحون إلى المناطق التي تمر بها قوافل المساعدات للبحث عن الفتات مما يسقط من الشاحنات، ومع ذلك كانت رصاصات جنودنا تلاحقهم، من الواضح أنهم لاجئون يائسون جائعون وليس لديهم أي شيء، ولكن هذا ليس كافيًا لعدم الشك فيهم، من يدريك أنهم أبرياء؟ ربما تكون حماس من أرسلتهم كمراقبين!

ومع هذا القتل المستمر تناثرت جثث الفلسطينيين على الطرقات وفي الأراضي المفتوحة في مختلف أنحاء غزة، وهناك أيضًا أبقار وخيول، ومن حين لآخر نرى الكلاب تتجول بأجزاء من أجساد متعفنة، ولكن قبل وصول القوافل الإنسانية تنزل جرافة من طرازD-9  ومعها دبابة، فتنظف المكان من الجثث، وتدفنها تحت الأنقاض أو تقلبها جانبًا حتى لا تراها القوافل، ومعظمها جثث وصلت مرحلة التحلل، وبالقرب من المجمع العسكري بين شمال وجنوب قطاع غزة رأينا حوالي 10 جثث مصابة برصاصة في الرأس، على ما يبدو من قناص أثناء محاولاتهم العودة إلى الشمال، والمكان لا يخلو من الكلاب والقطط التي تحوم حولهم، ورائحة الموت مروعة.

عادة لا نتعامل مع الجثث إلا إذا كانت تعيق حركتنا، لا نفكر في دفن الموتى، بل ننقلهم إلى جانب الطريق، فالجنود يدوسون على الجثث في تنقلاتهم، وقد أكد لي أحد الجنود الذين كانوا يعملون على مدرعات D-9 أنه وطاقمه دهسوا مئات الإرهابيين، لم يكونوا كلهم موتى!

الحرق هواية

حرق المنازل الفلسطينية هواية شائعة بين الجنود، بعضها يتم بشكل مستقل من الجنود في الميدان، وبعضها بأوامر مباشرة من القادة، خاصة عندما يتنقل الجنود من منزل إلى آخر، “إذا انتقلت، احرق المنزل” لا يهم إذا أصبحت العائلات بلا مأوى بعد ذلك، لا يمكن ترك أي معدات عسكرية خلفنا ولا نريد أن يرى العدو أساليبنا، ولا نريد أن نترك وراءنا ذخيرة ولا طعامًا، قبل المغادرة نكدس الأثاث والبطانيات ومع بعض الوقود وأسطوانات الغاز يحترق المنزل بسهولة.

لقد أحرقنا مئات المنازل، في بعض الحالات أشعل الجنود النار في طابق وكان جنود آخرون في طابق أعلى، ما اضطرهم للفرار عبر النيران على الدرج، ومن بينهم من اختنق من الدخان.

كنا نتعامل مع المنازل مثل متجر للهدايا التذكارية، ننهب كل ما لم يتمكن السكان من أخذه معهم، وفي أيام الانتظار الطويلة يقتلنا الملل فنرسم أشياء وقحة على الجدران، ونرتدي الملابس النسائية الداخلية، ونلتقط الصور مع الأشياء الثمينة التي نجدها، وندمر كل ما نريد تدميره، ليس رغبة في التدمير ولكن من اللامبالاة التامة بكل ما ينتمي للفلسطينيين، كل يوم تدمر D-9 المنازل، ونلتقط الصور بنمط قبل وبعد، ونرى الأحياء الجميلة كيف تتحول إلى رمال حرفيًا.. ورغم ذلك مازلنا نشعر بالملل.

وسنصلي في القدس

هذه المذكرات حقيقية مبنية على شهادات ستة جنود إسرائيليين تحدثوا إلى مجلة +972 وموقع Local Call، بعد تسريحهم من الخدمة الفعلية في غزة. ربما كان تسريحهم حكمة ليشهدوا كيف يحيي الله هذه الأرض بعد موتها، حين ينتفض من تحت رمادها ومن بين أشباه بيوتها موسى آخر لم يقتلوه ولم يصلبوه، يقود المعذبين والمنهكين في ثورة تعيد للأرض مجدها وللقدس طهرها، ويفتح أبواب الأقصى بعدما دمر الاحتلال مساجد غزة كلها؛ ليصلي الفاتحون في القدس رغمًا عن دولة الإجرام وحلفائها.

 فلسطينيون في محيط مسجد دمره الاحتلال في غارة جوية إسرائيلية، بالقرب من مخيم الشابورة للاجئين في رفح، جنوب قطاع غزة، 26 أبريل 2024. (عبد الرحيم الخطيب/ فلاش 90)

خالد صافي

استشاري إعلام وتسويق رقمي

1 تعليق

  1. محمد

    حسبنا الله ونعم الوكيل في حكام العرب المتخذلين والمطبعين

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...