هنية في قطر: مأوى الأحرار ومدفن الأبرار

بقلم: إبراهيم الدويري

| 2 أغسطس, 2024

بقلم: إبراهيم الدويري

| 2 أغسطس, 2024

هنية في قطر: مأوى الأحرار ومدفن الأبرار

لفت انتباهي ما كتبه الإعلامي القطري  الأستاذ جابر الحرمي رئيس تحرير جريدة الشرق  وآخرون اعتزازا باستضافة قطر للقائد الشهيد إسماعيل هنية  معززا مكرما، وهو حي يكافح عن الأقصى وفلسطين، وينافح عن شعبه وأمته، ومباهيا باحتضان ترابها لجثمانه الطاهر بين رجالاتها وأبنائها بعد استشهاده، واعتبر الحرَميُّ تلك الإقامة وذلك الدفن مفخرة لبلاده، وإنه لفخر عظيم يؤكد مكانة القضية الفلسطينية لدى قطر رسميا وشعبيا.

في ميزان الحق والعدل والجانب الصحيح من التاريخ فإنه يحق للقطريين أن يفخروا بمواقف بلادهم الداعمة بذكاء ووفاء وشجاعة للقضية الفلسطينية في أزمنة خذلانها إسلاميا، والتآمر عليها عربيا  ودوليا، ولهم أن يفخروا أكثر باستضافة قادة المقاومة، فكل ذلك مواقف بطولية  سيخلدها التاريخ فيما سيخلد من مآثر كثيرة لهذا البلد الذي أبى قادته وأهله إلا  الانحياز للحق وأهله.

 وهو انحياز عرَّض قطر لكثير من الضغوط والتهديد الوجودي من القريب والبعيد، فلم تُحن الرأس لعواصف الأيام، ولم تُسكت  قناة الجزيرة التي تنقل للعرب حقيقة واقعهم، ومنعت قتلتهم ومستبديهم من التستر على القتل والفشل كما قال مؤسسها ذات احتفال. 

فلئن كانت البلدان قديما تأخذ من أرواح فاتحيها قبسا  تستضيء به مُدَّة إدانتها لقيمهم، فإن الدول الحديثة تأخذ أحيانا من أخلاق مؤسسيها  قيما تحكمها وتوجه حكامها، وحظُّ قطر من قيم مؤسسها الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مبدأ  حماية المستجير والترحيب به، وهو المبدأ الذي اشتهرت به قطر، فأضحى لقب  “كعبة المضيوم” علما عليها، وهو عنوان قصيدة للمؤسس الشاعر كلها إباء ووفاء وعزة، وقد صدقت الأيام والتجارب والمحطات ذلك العنوان اللقبي. 

فاستضافة قطر  لقادة المقاومة الفلسطينية وهم أحياء ربما كان سيبقى حدثا باردا تسجله وثائق التاريخ في رصدها لأطوار القضية الفلسطينية ومواقف العرب منها، لكن أن تدفن قامة جهادية بمستوى  القائد الشهيد إسماعيل هنية في ثرى قطر أثناء معركة بحجم طوفان الأقصى، فهذا يدل تاريخيا ووجدانيا على أن ارتباط قطر بفلسطين تجاوز عالم المادة والشهود إلى عوالم الروح والملكوت، كما تجاوز الموقف السياسي الآني إلى وحدة المصير، وليس ذاك الترابط بالأمر المستغرب  فكل باحث عن أخبار فلسطين وأحوال غزة يتجه نحو الدوحة وجزيرتها الرائدة ووساطتها الحصيفة ومساعداتها النبيلة. 

قبل عام من استشهاد القائد العظيم إسماعيل هنية وتشييعه ودفنه في أرض قطر كتبت مقالا في تأبين الدكتور  الراحل محمد الجوادي .. صِدِّيق النخبة وطبيب أدواء مصر  قلت في خاتمته إن الجوادي “ودَّع الدنيا في كعبة المضيوم ليشيع إلى مقبرة مسيمير جنوب الدوحة حيث يرقد إمام الثوار وفخر الأمصار العلامة يوسف القرضاوي، وحيث تُنعَّم -بإذن الله- الفتاة المجاهدة آلاء الصديق، ولَكَم كانت قطر مأوى فسيحا لأحرار المسلمين أحياء وميتين حين ضاقت بهم أوطانهم بما رحبت”. 

حين كتبت ذلك لم يكن يدور بخلدي أن قطر ستتوج حبها  لفلسطين وكرامة العرب باستضافة دائمة  لشهداء غزة  الذين يزينون مقابر كعبة المضيوم في مسيمير وغيرها؛ فثرى قطر احتضن  كثيرا من شهداء طوفان الأقصى، ومنهم الحاجة الشهيدة أم نبيل خديجة سلامة والدة القائد الأسير حسن سلامة ذلك الأسد الذي أنجبته  وإخوانه لإرغام أنف الصهاينة. 

وخير من ينبئ القارئ عن منزلة تلك الشهيدة  العظيمة التي استأثرت بها تراب قطر هو الشهيد الكبير إسماعيل هنية  الذي قال في تأبينها في قطر:  “أم نبيل هي الأم والمرأة التي رابطت في خندق غزة الصابرة المجاهدة التي تخوض معركة تاريخيّة، وفي خندق الجهاد والمقاومة، وربت أبناءها على حبّ الله ورسوله وحب فلسطين والأقصى وحب الجهاد من أجل تحرير بيت المقدس، ودفعت بأبنائها إلى صفوف القسام وساحات الوغى فكانوا من خير من حمل المصحف والبندقية، فمنهم من وقع شهيداً ومنهم من وقع أسيراً، فكانت تقف وراءهم كالطود الشامخ كالعمق الاستراتيجي التي تمثله المرأة المسلمة على أرض فلسطين وفي كل أرض عربية وإسلامية”. 

أمثال أبي العبد وأم نبيل وغيرهم من الشهداء تفخر بهم الأرض التي يدفنون فيها، وقديما كان أسلافنا يؤرخون  لبعض المدن والمناطق بمن يدفن فيها من العظماء والقادة، فتجد في مصنفاتهم كتبا مثل “الكواكب الوقادة ‌فيمن ‌دفن بسبتة من العلماء والقادة”، و”الروضة الريا فيمن دفن بداريا”، وأهم تلك الكتب على الإطلاق كتاب محمد بن جعفر الكتاني “سلوة الأنفاس ومُحادَثةُ الأكْياس ‌بمن ‌أُقْبرَ من العلماء والصُّلحاء بفاس”.

كما أرخ آخرون -وهم الأكثر- للمدن بمن ينتمي لها أو زارها أو أقام فيها من الأعلام والعلماء والقادة، وعلى الحالين يحق للقطريين وهم المتواضعون سجية أن يفخروا بمن ينتمي لقطر ومن أقام فيها ومن دفن فيها من القادة الأبطال والعلماء الأفذاذ، وعلى رأسهم شهيد الطوفان ومجسد وحدة المسلمين بسمته وهديه وخلقه وحياته وموته وروحه ودمه القائد إسماعيل بن عبد السلام بن أحمد بن هنية الطائي نسبا العسقلاني أصلا الغزي جهادا وعطاء، الرازي شهادة وتشييعا، والقطري إقامة ومدفنا. 

3 التعليقات

  1. محمد سالم إنجيه

    تقبله الله في الشهداء الأبرار وثبتنا على نهجه ونفعنا بأخلاقه العالية. وجزاكم الله خيرا عنا وعنه ونفع بكم وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والطاعات

    الرد
  2. أبو سعيد

    دام حبركم

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...