كيف تركتم غزة في الطوفان وحدها؟
بقلم: خالد صافي
| 8 أكتوبر, 2024
مقالات مشابهة
-
اِجعل لكَ خبيئة!
خرج المسلمون يوماً لقتال الروم، فلما التقى...
-
خرافة اسمها الحب!
من البديهيات أن المشاعر جزء أصيل لدى الإنسان.....
-
الشكر.. دوامٌ للنعم في الدنيا وفوزٌ في الآخرة
أنعم الله تعالى وتفضّل على عباده بالكثير من...
-
الترامبية المتجددة وأمْوَلَة نظام الحكم في الولايات المتحدة
منذ أن بلور حكماء الإغريق قديما فكرةَ...
-
السياسة الخارجية المتوقعة لإدارة ترامب.. تداعياتها على الشرق الأوسط
خلال حملته لاستعادة رئاسة الولايات المتحدة، قال...
-
ترامب وهاريس.. وجهان لعملة واحدة
نجح دونالد ترامب.. فاز مرشح الحزب الجمهوري...
مقالات منوعة
بقلم: خالد صافي
| 8 أكتوبر, 2024
كيف تركتم غزة في الطوفان وحدها؟
“أخيرًا.. خيمة”
قالها أخي في بهجة وسعادة غطت على ملامح وجهه الناحلة وبددت جحوظ عينيه الذابلتين، وهو يستلم الخيمة من صديق لي ليأوي إليها مع عشرين آخرين من أفراد عائلتي، وكل قلب فيهم يبرق لي شكره وامتنانه أن كنت سببًا في توفير مكان يلم شملهم، بعدما قصف الاحتلال بيتنا وشرّد عائلتنا كما معظم العائلات في غزة.
انتقلت لي عدوى الشعور بالسعادة بالإنجاز، لكن سرعان ما انكفأت أستغربُ مما وصلنا إليه، كيف بتنا نرى العيش في خيمة نجاةً، وتوفير جردل ماء للاستحمام حياةً، وتقديم وجبة رز ولحم بعد ستة أشهر من الحرمان إنجازًا، وصناعة حذاء من الخشب لطفل إعجازًا؟ كيف بدأ ذلك كله لنصل إلى هذا الحال؟
عام على الإبادة
آلاف المشاهد تراصّت في شريط متصل من الأحزان الموثقة رقميًّا، والموزعة على أجهزة وهواتف سكان المعمورة، بدأت بانحياز الإعلام الغربي لرواية الاحتلال، ونزع الإنسانية عن مليوني إنسان، وتبعها إغلاق المعابر، قصف المشافي والمدارس، تكدس شاحنات المساعدات، دخول الأكفان، منع المصابين من الخروج للعلاج، نداءات استغاثة الثكالى، التنسيق للسفر بخمسة آلاف دولار للفرد، أزمة الجوع، أكل علف الحيوانات، مهزلة الإنزال الجوي، خدعة الميناء البحري الإنساني، سطوة الاجتياح البري، كذبة المناطق الإنسانية الآمنة، اجتياح المستشفيات، نبش القبور وسرقة الأعضاء والجثث، تدمير الجامعات، نهب البيوت والممتلكات، تعرية المعتقلين، اغتصاب الأسرى، مجزرة الطحين، انتفاضة طلاب الجامعات الأجنبية، احتجاجات العواصم العالمية، طغيان قرارات مجلس الأمن، تهميش محكمة العدل الدولية، دخول دول المحور على خط المقاومة، فتنة الناس بين السنة والشيعة، اغتيال القادة، نزوح وتهجير، مجازر تلو المجازر، ثم اعتياد الناس على المشهد.
صنعوا المجد في يوم
لنرجع بالزمن إلى السابع من أكتوبر في السادسة فجرًا، حين انطلقت ثلة من رجال الله المخلصين لصناعة المجد، وكتابة التاريخ، وإعادة بوصلة الأمة نحو غايتها، فجاسوا خلال الديار، وكنتم على العبور العظيم من الشاهدين.
إنه- بلا شك- يوم من أيام الله، حطّم فيه فتية الأنفاق أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وداسوا كبرياء عدو طالما طغى وتجّبر، وعلى مدار عام من الجلَد والصمود كشفوا لكل ذي بصيرة ما وُوري من سوءة الدول الاستعمارية، وتواطؤ الأنظمة العربية، وفرية القوانين الدولية، وهشاشة المؤسسات الأممية، وأن الناس- كل الناس- في نظر حكوماتهم الاستبدادية غثاء لا وزن لهم ولا قيمة، والاحتجاجات أسطوانة غاز تتقن الأنظمة إدارة محابسها باقتدار!
ولم تتخذوه سبيلاً
رأيتم الطوفان يسحق المجرمين، ويهدم عروش الطغاة، فلماذا لم تركبوا سفينته؟ شاهدتم صنيع رجال الله في أعداء الله، وانهيار منظومة الاحتلال، وفشل استخباراته في ساعة من نهار، فلماذا خنعت جيوشكم واستكانت؟ ولمّا ساء رجالُنا وجوه قادة الاحتلال وحلفائه جادلتم في المقاومة أنها انطلقت للميدان دون استشارة من أحد، وكأن الحروب كدخول البيوت يلزمها إذن ومشورة، عجبًا لأمركم حين رأيتم الطريق ولم تتخذوه سبيلاً!
للأحزان أيام
ذلك شأن المجاهدين تحت الأرض.. أما عن المرابطين الصامدين فوق الأرض فقد كانوا يصبّرون أنفسهم بأن المأساة ستنتهي بعد شهر أو شهرين، وأنهم سيعودون لحياتهم يلملمون جراحاتهم، كعادتهم بعد كل تصعيد وعدوان.. أكاد أجزم لك أنه لم يكن هناك- فوق أرض غزة على الأقل- من كان يتوقع أن تستمر الحرب لأكثر من شهر أو شهرين على الأكثر.
سبق وأن صبروا قرابة الشهرين في معركة العصف المأكول عام 2014، وأيقنوا أن الاحتلال لن يصمد أمام جند الله في الميدان لأطول من تلكم المدة، كانوا يؤملون أنفسهم بأن هذه الحرب لن تزيد عن ذلك، حتى دخلت شهرها الثالث، وبدأت احتفالات العالم بالعام الميلادي الجديد، وانطلقت المسابقات الرياضية والمهرجانات الترفيهية، وكأن إبادة أهل غزة حدث عابر! وبعد تسعة أشهر شعروا أن العالم قد تقبّل معاناتهم وكأنها حالة طبيعية، كالاحتباس الحراري أو نفوق الفقمة في القطب الشمالي!
كنتم أزواجًا ثلاثة
لمّا ردّت للاحتلال الكرّة علينا، وقطعوا الماء والكهرباء والغذاء، وأغلقوا المعابر، ومنعوا أسباب الحياة.. ما تحركت نخوتكم! قُصف كل شيء، وتوالت المشاهد والصور والمآسي والأحزان، فانقسمتم وكنتم أزواجًا ثلاثة:
– فريق يتابع مسلسلاً دراميًّا على وسائل الإعلام ومواقع التواصل، فيه من صنوف العذاب والحرمان والبطش والإثارة وكثير من الأشلاء، يتألم حينًا وحينًا يتخطى، وفي آخر النهار يسأل عن حصاد اليوم، وعن عدد الشهداء والكيلومترات التي قضمها المحتل.
– واحتمى الفريق الثاني بشعار “لا نملك إلا الدعاء”، في رغبة للخلاص من العقاب الإلهي.
– وأحسنهم حالاً كان فريقًا رفع عن نفسه ربقة التخاذل، حين جاد بالمال لإغاثة المحرومين.
تلك إجابة لم تروِ ظمأ المحرومين حين تساءلوا محزونين: كيف قبلتم أن يمضي عام على إبادتنا وأنتم تتفرجون؟
حجج واهية
مع طول المعركة، كان فريق رابع فترت همته وسلّم بنتائج لم يكن يتوقعها، وأصبح أسيرًا لخطابات مشككة، هو كان ينتظر حسمًا أسرع وانتصارًا بلا كُلفة، لم يُعدّ نفسه لمعارك طويلة المدى يعتريها الألم، فتملّكه الهم.. وهناك من صنعوا لأنفسهم من الحجج الواهية دروعًا كي لا ينخرطوا في المعركة، تراهم على مدى التاريخ في نسخ متكررة، يرددون عباراتهم المضللة: “الفلسطيني باع أرضه”، “انقسام الفلسطينيين هو السبب في عدم الوصول لحل لقضيتهم”، “من أطلق الطوفان لم يشاور أحدًا قبل انطلاقه”، “المقاومة رهنت نفسها للشيعة والمجوس”…
هم كاذبون، وخلف أكاذيبهم يتذرعون، وإنهم {لو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عدّةً ولكن كره الله انبعاثهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 46].
الأرقام وحدها تؤلم
لو أن فيهم خيرًا لحركتهم الأرقام، فمن بين الأرقام المفزعة التي نشرها المكتب الإعلامي الحكومي خلال أيام الإبادة قرأتم أن 36 طفلاً من غزة ماتوا جوعًا، وأن 170 طفلاً لم يعرفوا من الحياة إلا الموت، فقد وُلدوا واستشهدوا في الإبادة، وأن 17000 طفل قتلتهم قوات الاحتلال التي مسحت من السجل المدني أكثر من 900 عائلة كليًا، وارتكبت 3600 مجزرة، وقتلت 11500 امرأة، من بين 41800 شهيد وصلوا المستشفيات، لتصل نسبة الضحايا من الأطفال والنساء إلى 69% من إجمالي حصاد الإبادة التي طالت مليوني إنسان نزحوا ثلاث مرات على الأقل، بعدما وصلت نسبة الدمار إلى أكثر من 86% من قطاع غزة المحاصر منذ سبعة عشر عامًا.
أحلام صغيرة
تعرف الآن أن أطفال غزة- أو من بقي منهم- يحلمون بشرب ماء نظيف، أو أكل وجبة صحية في اليوم، أو حمّام أسبوعي يزيل عن أجسادهم الصغيرة غبار الحزن وتراب الألم، ويعيد لهم صفو الحياة بدلاً من لونها الرمادي المقيت. فقدوا عامًا دراسيًّا كاملًا، ودخلوا عامهم الثاني محرومين من حقهم في التعليم، يتوق أحدهم لليوم الذي لا يشم فيه رائحة البارود والأشلاء وجثث القتلى، ولا يسمع فيه ضجيج القنابل ولا أزيز الزنانة ولا صوت القصف، ولا الطائرات الحربية وهي توزع الموت من السماء، يحلم بخيمة من قماش تقيه برد الشتاء، وحذاء من خشب يمشي به فوق الركام، الذي كان فيما مضى مدينة يعيش فيها مع أهله وذويه..
السؤال العنيد
لم يبق في غزة من لم يفجع بشهيد أو جريح أو بيت مهدوم أو حي مهجور! كل بيت طاله الحزن وامتد الألم في جنباته- هذا إن بقي بيت على حاله- ما بين نزوح وتشتت، وعطش وجوع، ونقص في الأموال والثمرات.. ابتلاء هو الأعظم للمرابطين على هذه الأرض، بعدما اتخذوا الجهاد سبيلًا.
في كل مرة أوفر خيمة أو برميل ماء أو وجبة طعام لعائلة أو لمحتاج في غزة، يراودني السؤال بعناد: هل سيأتي علينا زمان نشاهد فيه صور النزوح والخيام والمأساة، ونلوم أنفسنا أن تأقلمنا مع مراحل الإبادة حتى تغلغلت فينا وعشنا فصولها، ورضينا لأهلنا العيش في الطوفان وحدهم؟
استشاري إعلام وتسويق رقمي
2 التعليقات
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (1)
علاقتي مع كتابات الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل معقدة، قد تأخذ موقفًا مما يكتبه وتتهمه بكثير، ابتداءً من التحايل على المعلومة وتعديل تفسيرها، إلى عدم إيمانه بالديمقراطية.. لكني أعود إليه كمصدر وشاهد عيان في قضايا تاريخية كثيرة، والأهمّ كواحد من أجمل الأقلام الصحفية في...
البنتاغون يتوقع اضطرابات كبيرة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض
تتزايد المخاوف في أوساط البنتاغون بشأن عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث يُخشى أن يسعى لتنفيذ وعود انتخابية قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة على الجيش الأمريكي، الذي يُعرف بحياده السياسي. من بين هذه المخاوف، توجيه الجيش للعمل داخل الولايات المتحدة،...
اِجعل لكَ خبيئة!
خرج المسلمون يوماً لقتال الروم، فلما التقى الجيشان خرجَ فارس من جيش الروم يطلب المبارزة، فخرج له رجل ملثَّم من جيش المسلمين فبارزه حتى قتله! ثم خرج فارس آخر من جيش الروم يطلب المبارزة، فخرج إليه الرجل الملثم نفسه من جيش المسلمين فبارزه حتى قتله! ثم خرج فارس ثالث من...
بارك الله فيك أخي خالد.
لا تعليق
حسبنا الله ونعم الوكيل