الهجرة.. لجوء واندماج سياسي

بقلم: د. عبد الله العمادي

| 18 يوليو, 2024

بقلم: د. عبد الله العمادي

| 18 يوليو, 2024

الهجرة.. لجوء واندماج سياسي

الهجرة النبوية، التي نحتفل بها دوماً مع مقدم كل سنة هجرية جديدة، كانت عملاً منظماً وفق مخطط استراتيجي، بحسب تعريفاتنا المعاصرة؛ فلم تكن الهجرة خاطرة أو فكرة تداولها الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) مع أصحابه ليلاً، ثم حمل كل أحد منهم متاعه فجراً وغادر مكة. لا.. الأمر لم يكن بهذه البساطة، بل أعقد وأشمل من هذا التصور بكثير.

بداية، وقبل الخوض في التفصيلات، الهجرة النبوية الشريفة تمت على مراحل عدة، ولم تقع أساساَ في شهر محرم كما يعتقد كثيرون.. صحيح أن الهجرة- كفكرة ومشروع- بدأ التجهيز والاستعداد لها في محرم، لكنها تمت واكتملت فعلياً بهجرة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام مع صاحبه الصديق أبي بكر، في الثاني عشر من ربيع الأول، كما تقول أغلب روايات المؤرخين.

شهر الله المحرم تم اختياره في زمن الفاروق عمر رضي الله عنه، والصحابة في بحث عن وضع تأريخ خاص بالمسلمين، فتم اختيار محرم لبداية السنة الهجرية، لأن تداول فكرة الهجرة واتخاذ القرار تم فيه، وعلى اعتبار أن الهجرة كانت من أعظم الحوادث في التاريخ الإسلامي، وكانت إشارة للتفريق بين الحق والباطل، وبدء العمل على نشر الدعوة الإٍسلامية في الجزيرة، ومنها للعالم أجمع.

مسألة الهجرة إذن لم تكن عملاً عشوائياً أو وليد لحظته، إنما كانت أحد التكتيكات أو الوسائل التي اتخذها الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى، إن صح وجاز لنا التعبير. حيث كانت الهجرة ضمن خطة عشرية رسمها خلال وجوده بمكة، حيث نفذ مجموعة عمليات تمهد للهجرة، ختمها برحلته (صلى الله عليه وسلم)، أو لجوئه إلى يثرب.

التخطيط للهجرة

قام عليه الصلاة والسلام بالتجهيز لهذه الرحلة مبكراً، وقبل ذلك أرسل دفعة من أصحابه كفريق احتياطي إلى أرض لا يُظلم فيها أحد، أرض الحبشة عند النجاشي، حتى يُعِدّ هذا الفريق نفسه في أرض آمنة، وينشر الدعوة كذلك بشكل غير ملحوظ، ليكون على استعداد تام لأي أمر طارئ، بحيث لو وقع مكروه للفريق الأساسي بمكة، يقوم هذا الفريق الاحتياطي بالعمل ومواصلة مسيرة الدعوة.. هذا من جانب.

من جانب آخر، بدأ عليه الصلاة والسلام يحثّ أصحابه للهجرة سراً نحو يثرب، بعد أن أعدّ الأرضية الصلبة لذلك، عبر الاتفاقيات والعهود التي أبرمها مع الأنصار الكرام في بيعتي العقبة الأولى والثانية، حيث اطمأن إلى الأنصار، واعتبر يثرب الحاضنة الثانية المناسبة لأصحابه، بعد الحبشة.

من ضمن استعداداته للهجرة أيضاً، ومنذ وقت مبكر، تكليفه أبا بكر بتجهيز راحلتين تصلحان لمهمة السفر الشاق والبعيد، فكان رضي الله عنه يقوم بتعليفهما بنوعية معينة من العلف الذي يقوي جسم الراحلة، واستمرّ على ذلك مدة كافية دون أن يلحظ أحدٌ ذلك.. لتبقى بعد ذلك مسألة أخرى مهمة هي الأمانات، التي كان الناس يودعونها عنده (صلى الله عليه وسلم) لما عرفوا عنه من الأمانة، فقام بتكليف ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه القيام بمهمة رد تلك الودائع إلى أصحابها، وفي وقت مبكر كذلك وبشكل طبيعي لا استعجال فيه أو توتر، كيلا يتنبه أحدٌ لما يجري، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يخطط للسفر أو الخروج من مكة.

من ضمن ترتيبات الدعم اللوجيستي والتخطيط للهجرة استئجار دليل أو مرشد للطريق، لكن من خارج مكة، ممن لا شأن لهم بما يجري بين محمد وقريش، والترتيب مع مولى أبي بكر، عامر بن فهيرة، أن يدفع أغنامه عند الهجرة للسير على آثار راحلتيهما، كيلا يكتشف قصاصو الأثر ذلك، وتكليف أسماء بنت أبي بكر بمسألة التموين اليومي اللازم، مع إسناد مهمة تتبع الأخبار في مكة إلى عبد الله بن أبي بكر، وقد كان صغيراً، بحيث ينقل الأخبار إلى النبي وصاحبه أولاً بأول.. وهكذا كانت الأمور تُرسم وتُخطط ضمن سيناريو محكم، تم التجهيز له منذ أشهر، حتى وصوله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه رضي الله عنه إلى مقصدهما بسلام، لتبدأ مرحلة جديدة في الدعوة.

اللجوء والاندماج

إن هجرة شعب إلى ديار شعب آخر ليست بالأمر السهل.. إنك حين تهاجر كلاجئ سياسي تطاردك دولتك بكل مؤسساتها وقواها، ومعك المئات من المعارضين، ستكون بلا شك عبئاً كبيراً على الجهة المستضيفة، وقد كانت تلك الجهة في مشهد الهجرة يثربَ (أو المدينة المنورة بعد ذلك)، التي لم تكن بقوة قريش عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.. كانت مدينة متواضعة اقتصادياً، شعبها يعيش على الزراعة، وبينهم خلافات لا تهدأ، كانت تصل أحياناً لحد الاقتتال وسفك الدماء، وتعيش بينهم قبائل يهودية متناحرة أيضاً، لكنها تتفق ضد الأوس والخزرج. أي أن الوضع السياسي كان مضطرباً غير مستقر، وإثارته لم تكن بتلك الصعوبة!

حاول أن تتأمل دولة، وضعها مثل وضع يثرب في تلك الفترة، ثم تأتيها أفواج لاجئة من دولة ذات شأن وبأس، وأغلب اللاجئين تركوا ما عندهم من مال في بلدهم، وبالتالي هم والفقراء في مرتبة واحدة، ولا يفقهون في مهنة أهل يثرب، وهي الزراعة، وبالتالي هم عالة عليهم إلى حين من الدهر لا يعرفون مداه.. لكن كل تلك الأمور كان قد وضعها النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) في الاعتبار.. كيف؟

أهل يثرب من الأنصار بايعوا النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) قبل الهجرة، على أن يكونوا حماة له وللدين الجديد في المنشط والمكره، وفي السراء والضراء. أصبح الوضع الاقتصادي أصعب من ذي قبل، لكن الأنصار على دراية بذلك، وبعد قليل سيدخل في ذلك المشهد اليهود، ومن سيُطلق القرآن عليهم اسم المنافقين، ليعملوا عملهم في إثارة النزعات العنصرية، وبث الكراهية عند ضعاف النفوس من الأنصار ضد هؤلاء اللاجئين، الذين ما جاؤوا إلا ليتقاسموا لقمة عيشهم مع أهل يثرب، بل ربما السيطرة عليها بعد حين، وغيرها من أكاذيب اليهود والمنافقين، كما هو الحاصل في بلدان تحتضن لاجئين من الملة نفسها، رغبة أو رهبة.

مشاهد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وكانت حلاً من الحلول المرحلية اللازمة لتثبيت أسس الدولة.. ثم وثيقة المدينة التي وضعها النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) بين المسلمين من قريش ومن أهل يثرب ومن اتبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم، اعتبرهم أمة واحدة من دون الناس، وبذلك تم وضع أساس دولة ستقام بعد قليل.. ومع تلك غيرها من عمليات تأسيسية متدرجة، اندمج أثناءها المهاجرون والأنصار في بوتقة واحدة، حتى صاروا شعباً واحداً، وعليهم قامت دولة الإسلام الأولى.

هكذا هي ذكرى الهجرة.. دروس لا تنتهي! فقد كانت رحلة هادينا، حمل الإسلام لنا دينا، فسلامُ الله على الهادي، والكونُ يردد آمينا.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...