إيران بين إرث الإمبراطوريات وأسرار صناعة النفوذ المعاصر
بقلم: د. جاسم الجزاع
| 27 أكتوبر, 2024
مقالات مشابهة
-
هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (1)
علاقتي مع كتابات الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل...
-
اِجعل لكَ خبيئة!
خرج المسلمون يوماً لقتال الروم، فلما التقى...
-
خرافة اسمها الحب!
من البديهيات أن المشاعر جزء أصيل لدى الإنسان.....
-
الشكر.. دوامٌ للنعم في الدنيا وفوزٌ في الآخرة
أنعم الله تعالى وتفضّل على عباده بالكثير من...
-
الترامبية المتجددة وأمْوَلَة نظام الحكم في الولايات المتحدة
منذ أن بلور حكماء الإغريق قديما فكرةَ...
-
السياسة الخارجية المتوقعة لإدارة ترامب.. تداعياتها على الشرق الأوسط
خلال حملته لاستعادة رئاسة الولايات المتحدة، قال...
مقالات منوعة
بقلم: د. جاسم الجزاع
| 27 أكتوبر, 2024
إيران بين إرث الإمبراطوريات وأسرار صناعة النفوذ المعاصر
يقول حكماء الأصول: “الحكم على الشيء فرع من تصوره”، لذا فإن فهم طبيعة تشكل الدول عبر مسار التاريخ يشكل عنصرًا ضروريًّا للوصول إلى إدراكٍ أعمق لتركيبتها المعاصرة.
فالدول لا تُبنى بين ليلة وضحاها، بل تتكون عبر مسيرة طويلة من الأحداث والتفاعلات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، التي تترك بصماتها المتجذرة على ملامح الدولة وهويتها. ويعتمد نشوء الدول على صراعات وتحالفات تاريخية، وتدخلات خارجية أحيانًا، ما يجعل الحكم السطحي على الممارسات الحالية غير كافٍ لفهم التحولات الفكرية والبشرية المعقدة التي تشكل ماضيها.
فالحكم على الأنظمة الحالية من خلال ممارساتها الحالية دون النظر إلى العمق التاريخي والتراتبية الحقبوية الزمنية يعتبر نظرًا قاصرًا في فهم التطور البشري والتغير الفكري الذي يكيف المجاميع البشرية في تلك الأنظمة. والناظر حاليا إلى اهتمام الجيل الحالي العربي بممارسات النظام الإيراني، ودخوله في الخط الملتهب مع الكيان الصهيوني، يجعلنا نتوقف في فهم خط الزمن لهذا النظام.
تُعد إيران- أو فارس قديمًا- واحدة من أعرق الحضارات في العالم، حيث يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وقد ظهرت الحضارة الفارسية نتيجة تطور المجتمعات القديمة المعتمدة على الزراعة والرعي في مناطق إيران الحالية، ثم ازدهرت لتصبح إحدى القوى العظمى في العالم القديم.
بدأت ملامح هذه الحضارة في الألفية السادسة قبل الميلاد، لكن ظهور الإمبراطورية الأخمينية في القرن السادس قبل الميلاد تحت قيادة كورش الكبير وضع فارس على خارطة العالم كقوة بارزة؛ فقد تميزت الإمبراطورية بامتدادها الجغرافي من مصر غربًا إلى الهند شرقًا، مع ما يشمله هذا الامتداد من ثقافات وشعوب متعددة.. وقد عُرف كورش بعدالته وإنسانيته؛ حيث أصدر ما يُعرف بأول وثيقة حقوق إنسان، تتضمن حرية العبادة وحقوق الأفراد، ويُعتقد أن هذا النص ألهم لاحقًا المبادئ الحقوقية في العديد من الثقافات والحضارات.
وفي ظل الإمبراطورية الأخمينية تم إنشاء شبكة طرق متقدمة لخدمة البريد ونقل المعلومات، مثل “الطريق الملكي” الذي امتد عبر أراضي الإمبراطورية، وساهم في تسهيل الإدارة المركزية وتنسيق العمليات العسكرية والتجارية. وإضافة إلى ذلك، تم ابتكار نظام ضرائبي موحد ولغة رسمية هي الآرامية، ما عزز من تماسك الإمبراطورية، وأصبحت واحدة من أقوى وأكبر الكيانات في العالم القديم.
ومع دخول القرن الرابع قبل الميلاد، جاء الإسكندر الأكبر ليهزم الفرس في معركة حامية ويضم أراضيهم، مؤسسًا إمبراطورية واسعة تجمع بين الشرق والغرب، ما أدى إلى إدخال الثقافة اليونانية إلى فارس، وتبني الفرس بعضًا من عناصر تلك الثقافة الغازية. وبعد وفاة الإسكندر انهارت إمبراطوريته، وظهرت ممالك متفرقة، وأسست فارس جبهة قوية، وحكمت لفترة طويلة، وتحدت نفوذ الإمبراطورية الرومانية، ما جعلها طرفًا مؤثرًا في السياسة العالمية خلال تلك الفترة.
وفي القرن الثالث الميلادي، تأسست السلالة الساسانية التي جلبت لفارس عصرها الذهبي.. شهدت الحضارة الفارسية تحت حكم الساسانيين ازدهارًا كبيرًا، إذ أقاموا نظام إدارة متقدم، وأبدعوا في الفنون مثل النقوش الحجرية والعمارة، التي ما زالت شواهدها قائمة حتى اليوم. وقد عُرف الساسانيون بمواقفهم الحازمة ضد الرومان، ودخلوا في حروب طويلة معهم، كما تميز عهد الساسانيين بانتشار الديانة الزرادشتية كدين رسمي للدولة، ما أسهم في تشكيل الهوية الدينية لفارس في ذلك الوقت.
ومع الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، دخل الإسلام إلى فارس، وكان له تأثير بالغ على ثقافتها ولغتها، حيث تبنّت الفارسية تدريجيًّا العربية وأسهمت في إثراء الحضارة الإسلامية في مجالات عدة، مثل الطب والفلسفة والعلوم، وظهر في هذا العصر علماء ومفكرون من أصول فارسية أثْرَوا الحضارة الإسلامية، مثل ابن سينا والفارابي.
ومع حلول القرن الثالث عشر، تعرضت فارس لغزو المغول، ما أحدث دمارًا واسعًا، ولكنها سرعان ما استعادت عافيتها الحضارية. وتحت حكم السلالات المحلية- مثل الصفويين- شهدت البلاد ازدهارًا جديدًا، وتبنت الهوية والمذهب الشيعي، ما أدى إلى تطور دورها الديني والسياسي في المنطقة، وأصبحت مركزًا للتعليم الديني والثقافة الإسلامية الشيعية.
في العصر الحديث، خضعت إيران لسلسلة من الإصلاحات السياسية تحت حكم الأسرة القاجارية ومن بعدها الأسرة البهلوية، حيث تبنت الحكومة الإيرانية البهلوية سياسة تحديث البلاد على النمط الغربي، إلا أن تلك السياسات كانت محل جدل داخلي، حيث شهدت البلاد توترات متزايدة بين التيارات العلمانية والإسلامية.
وفي عام 1979، وقعت الثورة الإسلامية التي غيرت مسار التاريخ الإيراني، والتزمت الدولة نظام جمهورية إسلامية تعتمد على حكم رجال الدين، ضمن نظام سياسي يجمع بين الحكم الديني والدولة الحديثة، تحت مظلة نظرية “ولاية الفقيه”، التي عارضتها بعض الكتل العلمية الشيعية. ومنذ ذلك الحين، تميزت إيران بنهجها السياسي والديني المستقل في محيط سني وجانبه عربي .
لذلك، نجد أن تاريخ فارس الذي يمتد لآلاف السنين يكشف أن إيران اليوم تمثل امتدادًا لهذا الإرث التاريخي المعقد جدًّا، فقد مزجت فارس على مر العصور بين القوة العسكرية والتأثير الثقافي والنفوذ الديني، ونشر وتصدير ثورتها إلى الأقطار العربية، ويظهر هذا التأثير جليًّا في دور إيران في أحداث المنطقة، من خلال تدخلاتها السياسية والعسكرية في صراعات عدة في العراق وغيرها، ودخولها في ملفات شائكة مثل ملف الثورة السورية ودعم الحوثي في اليمن، إلى جانب التوتر المستمر مع القوى الغربية حول برامجها النووية والصراع الإيراني الإسرائيلي .
أكاديمي كويتي
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
من زمزم إلى الذّبيح عبدالله.. إرهاصات بين يدي الولادة
"إنّي لنائمٌ في الحِجر إذ أتاني آت فقال: احفر طَيبة؛ قال: قلت: وما طَيبة؟ قال: ثمّ ذهب عني، فلمّا كان الغد رجعتُ إلى مضجعي فنمتُ فيه، فجاءني فقال: احفر برّة؛ قال: وما برّة؟ قال: ثمّ ذهب عني، فلمّا كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة، قال:...
هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (1)
علاقتي مع كتابات الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل معقدة، قد تأخذ موقفًا مما يكتبه وتتهمه بكثير، ابتداءً من التحايل على المعلومة وتعديل تفسيرها، إلى عدم إيمانه بالديمقراطية.. لكني أعود إليه كمصدر وشاهد عيان في قضايا تاريخية كثيرة، والأهمّ كواحد من أجمل الأقلام الصحفية في...
البنتاغون يتوقع اضطرابات كبيرة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض
تتزايد المخاوف في أوساط البنتاغون بشأن عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث يُخشى أن يسعى لتنفيذ وعود انتخابية قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة على الجيش الأمريكي، الذي يُعرف بحياده السياسي. من بين هذه المخاوف، توجيه الجيش للعمل داخل الولايات المتحدة،...
0 تعليق