أنا والأشجار

بواسطة | يونيو 18, 2024

بواسطة | يونيو 18, 2024

أنا والأشجار

لكل واحد فينا حياة مع الأشجار.. طفلاً يصحبه والداه أو أحدهما إلى الحدائق، ثم شابّاً يذهب إلى الحديقة مع حبيبته، ثم أباً يذهب إليها مع زوجته وأولاده. هذه الحياة مع الأشجار تشكل نمطا عاديا في الحياة، لا ينتبه أحد إلى ضرورتها إلا حين يتعذر الذهاب إليها؛ وتترك الحدائق أثرها في الأطفال أكثر حين تكون خاصة بالحيوانات التي يداعبها الأطفال، أو خالية من الحيوانات فيتفرجون على الزهور ويلعبون بها الكرة وغيرها، ويمضون يومهم مع أهلهم سعداء.

عرفت مبكرا ثقافة الحدائق، وكيف كانت مع الخديوي إسماعيل وأبنائه بعده في العصر الحديث.. صرت كلما ذهبت إلى باريس أزور حدائق التويلري، لا لأراها فقط وأستريح فيها، لكن لأتذكر أن حديقة الأورمان في مصر أنشئت على نظام وشكل التويلري في تنوع أشجارها وزهورها الكبير. يذكّرني ذلك بالثقافة التي سادت وقتها، وهي أن أوربا والبحر المتوسط هما وجهنا إلى العالم، وليس الصحراء شرقا أو غربا.. لم يأتِ هذا من فراغ، فحين احتل اليونان ثم الرومان مصر كانت الإسكندرية يونانية المنشأ هي عاصمة العالم ومركز ثقافته.

رغم أي قهر وقع على المصريين – وما أكثره- فلقد كانت أسرة محمد علي وأبنائه تعرف وجه مصر الحقيقي في الثقافة، الوجه المتوسطي الذي كتب عنه طه حسين كتابه الرائع “مستقبل الثقافة في مصر”، وهو الكتاب الذي طالما طالبتُ وزارة التربية والتعليم أن تقرره على طلبة المدارس الثانوية بلا فائدة؛ كانت تعرف أنه سياتي يوم لا تكون فيه مدارس، بل “سناتر” أو مراكز دروس خصوصية خارج المدارس، وهو ما يحدث الآن.

الحقيقة أن حكامنا أفضل منّا فهماً للمستقبل الذي يضيعونه تماما في الثقافة التي تهمني.. ما يحدث في السياسة من تراجع سيتم تصحيحه بقرارات في يوم ما، سيأتي مهما بدا بعيدا، لكن تصحيح المسار المعوج في الثقافة يحتاج عشرات السنين. الثقافة – للأسف- صارت غريبة في بلادنا بين الحكام .. لماذا أقول ذلك؟ الأسباب كثيرة، لكني سأعود إلى ما بدأت به، وهو الحدائق والأشجار.

تتعرض الأشجار في مصر منذ سنوات قليلة إلى مذابح  كبرى لا يعرف سرها أحد، رغم ما نسمعه عن خطط زراعة الملايين منها.. انتشر الحديث عن هذا الآن بسبب موجة الحر الرهيبة التي تمر بالبلاد، والكلام عن أن أحد أسباب الحر هو قطع الأشجار، لما لها من قدرة عظيمة على امتصاص التلوث في الجو وترطيبه. طبعا هناك من يدافع عن الحكم بالقول إن تغير المناخ شمل العالم كله، لكنه لا يقول إننا أضفنا إليه بقطع الأشجار، بعد ردم البحيرات من قبل وإغلاق الشواطئ.

صور الأشجار القديمة التي يتم تقطيعها في المدن والقرى شمالا وجنوبا لا يمكن تخيلها، هذا بالإضافة إلى ما يجري في العاصمة.. طرق كاملة وشواطئ أزيلت أشجارها! أشاعوا في البداية أنها تحجب المجال أمام كاميرات التصوير، ولا أدري كيف، حتى وصلنا إلى أن الخشب يتم بيعه بعد حرقه إلى المقاهي بدلا من الفحم لاستخدامه في تدخين الشيشة.. كلام كثير لا يصدقه عقل، وليس هناك مسؤول يقدم سببا مقنعا، لكنها لجان حمقاء ترد بالحماقات والأكاذيب، فتنشر على سبيل المثال صورا لنخيل لا أعرف ما هي علاقته بالنخيل الذي عرفناه مورقا ومثمرا، أو حتى مورقا فقط.. نخلهم أشبه بصور الكاريكاتير! نقرأ أنه يتم إقامة أكبر حديقة في العالم بالعاصمة الإدارية، فهل يعني ذلك قطع أشجار بقية المدن مثلا؟! نحن ننتظر الآن تطوير حديقة الحيوان والأورمان بالقاهرة، وحديقة أنطونيادس بالإسكندرية.

لقد تم – كما يقال- تطوير حدائق قصر المنتزه بالإسكندرية، واتضح أن كثيرا من الأشجار العتيقة قد أزيلت من أجل طرق ومحلات.. حدائق المنتزه تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أقامها الخديوي عباس حلمي الثاني، وأضاف إليها الملك فؤاد ثم فاروق. لن أحدثك عن مساحتها ولا مساحة أي حديقة، فكل شيء متاح على السوشيال ميديا.

أما حديقة أنطونيادس التي يتحدثون عن تطويرها الآن، فهي أقدم حدائق العالم في الإسكندرية تعود إلى العصر البطلمي؛ كانت قد تدهورت فجعلها محمد علي باشا مثل حدائق قصر فرساي الفرنسي، وأضاف إليها أبناؤه، وأقيم بها القصر العظيم الذي آل إلى ملكية البارون اليوناني أنطونيادس فصارت باسمه، ثم صارت لمصر.. لن أحدثك عن زهورها التي لا تقل عن زهور حدائق الأورمان، ولا عن النشاط الفني الذي يتم فيها، وغيره كثير.

حديقة الحيوان بالجيزة بمصر تأسست عام 1891 وكانت تسمي جوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا والشرق الأوسط، هي مغلقة الآن مثل الأورمان للتطوير، الكلمة التي صارت تعني كباري ومحلات فول وفلافل.

حياتي مع الأشجار لا تختلف عن غيري، لكني عام 1908 نشرتُ رواية بعنوان “قبل أن أنسى أني كنت هنا” عن الأشجار التي تركت البلاد في مصر.. كل شجرة وقف تحتها يوما شاب أو فتاة، أو زرعها في بلده بعيدا عن القاهرة، واستشهد في أيام ثورة يناير 2011، أو بعدها في أيام الجُمَع الصاخبة في شوارع مثل محمد محمود، طارت من البلاد حزنا على الشاب أو الفتاة اللذين وقفا تحتها يوما.. لم أرَ حزنا في الدنيا يفوق حزن الأشجار، حتى في الخيال.

في الحقيقة، نحن نعرف أن الشجرة عادة لا تثمر بعد موت صاحبها، عشنا ذلك ورأيناه وما زلنا نراه، خاصة حين يكون قد زرعها في بيته، فيراها وتراه كل يوم، يسقيها من الماء وتعطيه من الظل والسعادة والفاكهة؛ ثم يتوقف إنتاج الشجرة من الفاكهة وتذبل بعد وفاته.. ربما كان هذا وراء خيالي بصعود الأشجار إلى السماء حزنا على الشباب الشهداء الذين زرعوها، أو ظللتهم في أيام الحب والأمل. كان بطل الرواية شاعرا، ومما كتبه في الرواية:

وضعني الهدهد على أطراف مدينة لا أعرفها

ما إن دخلتها حتى صارت الأشجار تطير أمامي

لماذا تفعل بي ذلك أيها الهدهد؟

أنا لا أفعل بك أي شيء

الأشجار ستحمل الحزن معها

لا تحزن حين تترك الأرض ومن عليها

الإنسان لا يعيش على خطيئة

الأشياء تنتقم حين يعجز البشر

خراب في خراب في خراب بلادكم

لكنْ في الرواية، الأشجار هي التي تفارق البلاد حزنا على الشهداء ولا يخلعها أحد! أحيانا أقول لنفسي ساخرا لعل أحدا من قاطعي الأشجار قرأ الرواية، فقال نقطعها نحن قبل أن تتركنا ونستفيد من أخشابها، لكن يظل السؤال: كيف انتهت النظرة إلى حضارة البحر المتوسط إلى هذه النهاية؟

أعرف أن مصر انتهت من العمارة المتوسطية، وصارت العمارات الجديدة عشوائيات.. العشوائيات ليست في البنايات الفقيرة فقط، لكن حين يتم بناء عمارة من خمسة عشر طابقا في شارع عرضه ستة أمتار فهي العشوائية نفسها. يضحكون علينا فيقولون إنه هكذا تكون البنايات في دبي وإمارات الخليج، ولا يرون اتساع شوارع هذه البلاد رغم صغر مساحتها مقارنة بمصر أو حتى مدنها، ولا ما تفعله هذه البلاد من زراعة الأشجار.. أرى ذلك حين أسافر إلى إحدى الإمارات، وأشعر بالحزن علينا.. سياسة تخضير البلاد في المملكة العربية السعودية مثلا مذهلة، ولمن يشك في كلامي فلديه السوشيال ميديا ينظر ويرى.

للأسف، لا أحد يعرف سر قطع الأشجار في مصر، وليس من تفسير مقنع إلا أنه تخريب متعمد، فلا سعر أخشابها لو تم تصديرها سيسدد ديوننا، ولا المقاهي في حاجة إلى الأخشاب المحروقة لتناول الشيشة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...