الحداثة وإهانة السيد المسيح
بقلم: مهنا الحبيل
| 28 يوليو, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: مهنا الحبيل
| 28 يوليو, 2024
الحداثة وإهانة السيد المسيح
قراءة فلسفية لحفل العشاء الأخير لأولمبياد باريس
أخذتُ وقتاً يكفي لكي أطّلع على المادة المنتجة، للمشهد المعتنى به في افتتاح أولمبياد باريس، المخصص لإعلان ما يشبه بياناً تاريخيّاً تبنته فرنسا التقدمية، بصفتها إحدى أهم عواصم الحداثة الغربية الرأسمالية بجذرها العقائدي، كمركز ديني كوني يعلن سيطرته على العالم، وراجعتُ المشهد بتركيز حتى تكون الرؤية النقدية مبنية على مادة صلبة ذات دلالة واضحة.
هنا ثنائية مهمة للغاية، في هذا البيان:
شقها الأول الاستهزاء بالسيد المسيح كرسول يمثل مفهوم النبوات، وعلاقتها بتاريخ العالم منذ وجوده، وليس فقط في رسالة السيد المسيح عليه السلام بذاته، فأهم مركز عقائدي وصلت له الحداثة وشرحناه في كتاب جدل ثالث، هو مفهوم الإنسان الإله، هذا المفهوم تجلى في هذه اللوحة بقوة.
فهذا الكائن المثلي المتنوع المضطرب سلوكياً- بكل الصور الشائنة متعددة الشذوذ- هو (السيد المسيح)! فلا إله ولا نبوات، وإنما الإله الجديد هو الشهوة والنزوة، وهي الثنائية التي حلبت منها الرأسمالية العالمية حياة الناس ومقدراتهم المالية، وكانت الحافز الضخم المتتالي، المدعوم في مركزها الغربي بين واشنطن وباريس، والتي تسخّر بشراسة لا حدود لها لصالح تسليع قدرات الإنسان، ثم تسليع ذاته وأطفاله.
إذن.. بيان باريس أعلن رسمياً سقوط أي حق أخلاقي، وهو العنصر الثاني في رسالة المشهد، ورفضت (باريس الأولمبياد) أي مبدأ احترام أساسي كفلته الشرائع والقيم في تاريخ العالم كله، في حق احترام معتقد الضمير، ونلاحظ هنا مسألة مهمة في هذه الاستباحة، والطعن الشرس، والابتذال المنحط في تصوير الحواريين أو المحيطين بالسيد المسيح، في رمزية لوحة دافنشي التي سبق أن رأيتها عن قرب، وكتبتُ مقالا عن لوحتها الأصلية، خلال زيارة سابقة لمعرض موسمي في قصر باكنجهام في لندن.
هذه الاستباحة الهجومية قُدمت في منصة المثلية القهرية والجندر الإلحادي، التي تطارد ببعض سلطات الدول الغربية كل الأسرة البشرية من دينيين وغير دينيين، وتشرّع قوانين حتى في الأمم المتحدة لعدم نقدهم أو التعرض لهم! فيما بيان أولمبياد باريس، يطعن في الدين والنبوات، ويسخر من الأسرة الفطرية، ثم يعلن نهايتها، وأنه قرر تحويل إرثها لمكتسبات الشذوذ المطلق، فلاحظ هنا مقدار الهجوم الشرس على المركز الأخلاقي في الأرض واستفزاز كل شعوبه!
ومن المهم أن نقف عند لقطة عابرة رمزية طافت حول الطفولة، وهي ترمز إلى التمهيد لفرض سلوكيات الشذوذ الجنسي ومعاشرة الأطفال شذوذيّاً، ولكنها لم تكشف عن تشريع السادية ضدهم في المشهد، وهي القاعدة النهائية لفلسفة ميشيل فوكو وعقيدته في إعلان مرجع النزوة في الذات البشرية، والخضوع عند سلطتها (راجع ما كتبناه عن فلسفة فوكو في هذا الشأن في المصدر السابق وفي كتاب طاولة مستديرة).
إن مستوى التمهيد للترويج للسادية ضد الأطفال تقدم كثيراً، ففرض المثلية على الأسرة، ونزع مرجعية الآباء والأمهات على بنيهم من كل الديانات، وصولاً إلى تفويض الدولة اختطاف الطفل في لحظة قهر لوالديه، وإغراء مخادع للطفل بعد التشكيك في جنسه، تحت الضخ الإعلامي العاصف، ثم قذفه في المشفى (الرأسمالي)، ثم إعطائه كمّاً هائلاً من الهرمونات، ثم استئصال أعضائه الجنسية، وهذا لم يكن سائغاً من قبل في كل العالم، حيث كانت الأسرة الإنسانية تتمسك بفطرتها، تماماً كما تتنفس الطبيعة الخضراء في بيئتها.. واليوم أصبحت هذه الفكرة تُفرض من حكومات غربية، وتروّج من الأمم المتحدة، أما في الأمس فلم يكن هناك مجال لذلك.
ماذا يعني هذا؟
يعني أن عشر سنوات، أو أقل أو أكثر، قد تسمح بظهور لوحة أخرى، تعيد عقيدة النزوة مع الأطفال لمنصة الفرض المتوحش، فيكون مشهد فوكو وهو يوقّع خطاب المطالبة بتشريع السادية مع الطفولة، أو وهو يطارد أطفال تونس لممارسة السادية الجنسية عليهم، مذهبا جندرياً حراً، لأنه يُعظّم عقيدة الشهوة والنزوة، ولو لاحظنا إيقاع المشهد وجنونية الرقص، الذي تشابه مع أغنية المغنية الإباحية الأسترالية إيغي أزاليا في مهرجان الطائف في السعودية، سندرك معنى الوحدة العقائدية لهذا المشروع، لكن فرضه على الطفولة يحتاج بعض الوقت، وهذا ما تخطط له الحداثة المثلية.
ورغم الفزع من المشهد، وحجم تخطيه كل الحدود، فإنه في تقديري مشهد يشير إلى خوف وقلق، هذا القلق بسبب عودة مشاعر الروح والعاطفة الفطرية، ومعنى العلاقة المقدسة بين الأسرة والطفولة في دين الفطرة الخَلقِية، التي تؤمن بها الديانات السماوية وغيرها، إن هذه المشاعر المنتفضة في الأوساط المسيحية، الخائفة على فلذات أكبادها، باتت تطرح تاريخ التواطؤ من بعض الكنائس المسيحية الغربية مع الحداثة الرأسمالية ضد الإنسان وحياته، وإعلان وصاية الإنسان الإله على البشري، لا على قوته ولا على رياضته ولا على زمنه وحسب، ولكن على المولود في رحم أمه.
فهل تتقدم الإنسانية إلى تحالف أخلاقي ينقذها من الحداثة الرأسمالية، إلى الروح الأخلاقية التي تصلح بها مفاهيم الحقوق العالمية، نحو حداثة تخدم الإنسان لا حداثة تسحقه؟.
رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
أستاذ، دكتور، وصفك لما حدث في مهرجان الافتتاح في باريس لا جدال فيه، واستشرافك للمستقبل في التعامل مع الطفل لا جدال فيه كذلك، ولكن السؤال كيف يكون التعامل مع هذا “الغول” الغربي الذي يمتلك وسائل القوة لترويجه بل لفرضه على بقية الشعوب واولها الشعوب المسلمة؟ هل السردية “الأخلاقية” أو “الدينية” هي التي سوف توحد العالم ضد هذا السيل الجارف؟ هل “السلفية” الدينية والفكرية التي يحملها جلّ المثقفين العرب هي التي ستجادل الغرب فيما يطرح؟ أنت أستاذ تكتب هذه السطور وأنت تستعمل “الآيباد” أو “الآيفون” لكتابة مقالك! أليست هذه جدلية متناقضة؟ أليس الأفضل هو نشر ثقافة “الاستيعاب” للآخر “الغربي” ثم بعد الاستيعاب التجاوز وطرح بدائل تقنع العالم؟ بدل هذا الرفض وهذا “الازدراء” بما يطرحه “الآخر”؟ لنستوعب “معرفيا” وليس على مستوى الممارسة كل ما يطرحه “الغرب” ثم بعد ذلك ومن خلال ذلك لنطرح بدائل “معرفية” أيضا وليس دينية تقنع بقية شعوب العالم، بدل هذا الرفض الذي يحمل بذور “النفاق” ونحن نستعمل ثمار “الحداثة” من وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الحديثة ونحن نلعن هذه “الحداثة” في آن، كالذي “يأكل الغلّة ويسبّ الملّة” كما يقول المثل التونسي.