محمد أحمد الراشد.. منابع التكوين (2)

بقلم: إبراهيم الدويري

| 11 سبتمبر, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: إبراهيم الدويري

| 11 سبتمبر, 2024

محمد أحمد الراشد.. منابع التكوين (2)

أقام الشيخ محمد أحمد الراشد مذهبه في العمل الإسلامي، وأدبيات إحياء فقه الدعوة، على عُدَّةٍ تنظيرية صاغها على لهيب تجربته العملية الطويلة الثرية، الجامعة بين ثمار بيئات دعوية مختلفة، وتربية أجيال متباينة الأعمار، وأضفى عليها من عوامل تكوينه الشخصي ما جعل مذهبه الإحيائي متوثبا نابضا بالحياة متفاعلا بقضايا الإسلام ومعاناة شجون الواقع الدعوي؛ تأسيسا وتقييما للمخرجات، ورصدا للآثار واستشرافا للمستقبل.

في الحديث عن عوامل تكوين شخصية الراشد لا بد من التوقف أولا عند أثر البيئة البغدادية في نفسه وحسه الحضاري، باعتبار ما تحدثه البيئات -وفق النظرية الخلدونية- من آثار في نفوس أبنائها وأخلاقهم.. فإن كانت البيئات تترك ظلالها على بسطاء الناس، فكيف سيكون أثرها على شخص مثل الراشد في رهافة الحس وتوقد العقل وعلو الهمة، ومن بيئة مثل بيئة بغداد التي قادت العالَم لقرون؟!.

ولا يخفى أن منشأ الراشد في بغداد بحمولتها التاريخية العريقة، وأنفاس الصالحين التي ترددت في أرجائها عبر القرون باحثة عن قلب مستعد لحمل القول الثقيل، ترك في روحه وعقله أثرا عبّر عنه تصريحا وتلميحا، فقد كان الراشد بحسه المرهف أعظم مستقبِل لأنفاس الصالحين، وبركات مجالس التحديث والوعظ في مساجد دار السلام ورباطاتها وقصورها ومدارسها، كما لا  تخفى آثار الأعظمية ورمزية إمامها أبي حنيفة النعمان وتلامذته في عقل الراشد الفقهي.

في حديث الراشد عن روحانية مسجد حسين باشا، الذي كان يتداعى إليه مع نفر من إخوانه الشباب خوفا من ملاحقة الأمن العراقي، أنهم كانوا يجدون في ظلال المسجد وصوت مؤذنه المتطوع الحاج أحمد من الروحانية ما “يعدل ما يرجعون به من آثار التلاوة والتهجد”، وكان رفيق دربه عادل الشويخ يقول إن المبيت في ذلك المسجد القديم يصح ثمنا لسماع صوت مؤذنه المؤثر.

وفي تعليل الشيخ الراشد لذلك الأثر، رأى أن ذلك “المسجد العتيق قد بناه صاحبه بنية خالصة، ثم تتابعت أجيال كثيرة من المؤمنين تصلي فيه وتدعو، فحباه الله تعالى ببركة خاصة ميّزته عن مساجد أخرى، ثم يبدو أن هذا المؤذن الذي ليس هو بأجير كان على شعبة من الإخلاص، واقتراف الحسنات، فأودع الله عز وجل في صوته تلك العذوبة والقوة التأثيرية” (منهجية التربية الدعوية ص 7).

فهؤلاء المؤمنون الذين تعاقبوا في المساجد، ورددوا آي الذكر الحكيم وذكْر الله العظيم بصدق وإخلاص، اقتبس الشيخ من بركاتهم، فكان متأثرا بأماكن أنفاسهم ومدارج ترقّيهم، ومسجد الباشا المنوه به نموذج لأماكن بغدادية كثيرة وقصص لا تنتهي، تترك آثارها على متلقيها اللوذعي.

ومن تلك القصص البغدادية ما حدّثه به صديقه السلفي نوري القاسم، من أن شيخهم عبد الكريم الشيخلي الملقب بالصاعقة (1285هـ – 1379هـ) ذهب بطلابه ذات يوم “إلى المدرسة النظامية، وكشط بعض الجص عن بعض جدرانها العتيقة، فإذا آثار الدماء الحمراء المسودة تحت الجص، وقال: هذه دماء من قتل في تلك الفتنة، جصَّصوا عليها”، (أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي ج3/ ص 301)   يقصد فتنة الأشاعرة والحنابلة الواقعة في مجلس وعظ أبي نصر القشيري.

يقول الراشد إن شيخه الشيخلي كان على علم بتفاصيل تلك “الحادثة إما من كتاب أو مما توارثه علماء بغداد من أخبار”، فما توارثه علماء بغداد من أخبار شفوية، وقصص مكتوبة في أسفار تاريخها الكثيرة، وما نشأ عليه أهلها من عادات ترسخت على مر القرون في التعبد والتزهد والترفه، تركت كلها فيما تركت في الشيخ الراشد نفَسا تزكويا عميقا، ومسحة جمالية وأدبا ذوقيا ظل يحرص عليهم شخصيا في التعبد والملبس والتعامل، ويدعو لهم الدعاة في رسائل طريفة كآفاق الجمال وفي ثنايا رسائل العين.

ومصدر التكوين الثاني الذي ميّز مذهب الراشد تأثره المكبر بأئمة الإصلاح ومجددي العصر من أمثال الإمام الشهيد حسن البنا والشهيد سيد قطب، وبتلمذته الشخصية على الكبار ومصاحبته لهم من أمثال الشيخ أمجد الزهاوي (1300-1386هـ) ومحمد محمود الصواف (1333- 1413هـ)، والشاعر الإسلامي الكبير وليد الأعظمي (1348-1425هـ).

وهذا الشاعر  العراقي هو أول أستاذ للراشد، وهو شيخه الذي أخذ بناصيته إلى الجدية والوقار، وجعله وعظه يعتقد مبكرا “وجوب أنماط التربية الإيمانية في الطريق الدعوي”، وهو المبدأ الذي يسميه الأعظمي بالمحاربة، وهي التحفز الدائم لمجابهة النفس والهوى.

 فحين دخل الراشد “دار الدعوة” وجد  وليد الأعظمي يعظ شبابا في مسجد فدخل عليهم مدخل الصدق، فكان يعظه ويعظ شباب جيله “فيقف وقفاته المباركة في الجموع الحاشدة في حفلات المساجد وغيرها، فيزمجر تارة ويرفق في أخرى ويتلطف، ويتنقل بين معاني الخير، ويغرس غرسه في القلوب” (رسائل العين ص 9-10).

علاقة الراشد بهؤلاء الأعلام جمعت بين التتلمذ العلمي والتزكوي والحركي، في أفياء جماعة الإخوان المسلمين التي انتمى لها عام 1953، وهو ابن خمسة عشر ربيعا، وظل ملتزما ببيعتها وأدبياتها حتى ووري الثرى، رغم الأذى والمحن التي نالته منها ومن أعدائها، فقد صاغت مبادئ الإخوان التنظيمية والتربوية فكره الدعوي، وأضحى رجالها المؤسسون قدوته ونموذجه في الجد والتجديد الدعوي والجندية والالتزام الحركي.

 فأصحاب البنا الموصوفون في رسالته “إلى أي شيء ندعو الناس” هم الجيل الملهم للراشد، وهم الذين رأى أنهم مجددو الدعوة في مصر، والمبرهنون بدعوتهم وتربيتهم وجدِّهم أن الإسلام الذي أنتج جيل الصحابة والتابعين لا يزال حيا، “وكما في مصر كان من رعيل العراق الأول أبو صفوان الدباغ صاحب رسالة (مع الناشئة)، الرسالة الصغيرة البسيطة جدا، الطريفة جدا”، وهو داعية قد جدد بيعته لقائد الإخوان في العراق وهو على فراش الموت، وقد حمَّل الحاضرين لوفاته “السلام إلى من كان من الدعاة آنذاك، وإلى من سيلتحق بعد، ثم أعاد الشهادة ومات من فوره”.

 وذلك عند الراشد “منقبة لا يرزقها إلا من كان توجهه صادقا في حياته”، ويعلق على قصة الدباغ التي حدثه بها أحد شهودها تعليقا شجِنا يشير فيه إلى ترابط الأجيال الإخوانية، فهو يرى أن تجديد الدباغ للبيعة رسالة منه للإخوان الذين لم يولدوا بعدُ.. يحييهم ويقول لهم عليكم بالالتزام بهذه الدعوة في كل أحوالكم؛ فالناصح قد “جربها في صحته ونشاطه، وجربها في آخر لحظات حياته، فوجد لذة السير إلى من أنعم بها على عباده، إن في ذلك لعبرة تغني اللبيب عن كثير من الكلام المنمق والبلاغة المتكلفة” (الرقائق ص 173-174).

وهذا العامل الثالث في تكوين شخصية الراشد من أعمق العوامل أثرا وأطولها صحبة، فالراشد قد سخّر حياته لفكرته؛ فمنذ أقبل نحو الإسلام ودعوة الإخوان لم يُدْبر ولم يتردد، وكانت حياته كلها جهادا ومحاربة كما ألقى في روعه شيخه الأعظمي، والسبب في تلك الجدية قضية فلسطين، كما قال هو.

وفلسطين هي العامل الرابع في تكوين شخصية الراشد الجادة المنطلقة؛ فضياع فلسطين قد أحدث في نفسه هزة “فطمته عن اللهو مبكرا، واستبدت به عزائم الجد التي كانت تتصاعد كلما قرأ رسالة من رسائل فكر الدعوة”، وظلت قضية فلسطين تهزه في كل مراحلها، لا سيما عند تأسيس حركة حماس التي وصفها بأنها “عصبة من أولي العزم تنادوا للجهاد وانتخبوا أميرا، لما رأوا خلو الأرض من خليفة يجاهد”. (الأقصى وسبيل إنقاذه ص 20).

وفي الذكرى الثامنة عشرة لانطلاق حركة حماس وفوزها في الانتخابات التشريعية، حياهم الشيخ الراشد برسالة بديعة عنوانها “رمزيات حمساوية”، وقد تركت الرسالة في نفس الشهيد القائد رئيس الوزراء، إسماعيل هنية، والحركة أثرا بليغا، فرد على التحية بمثلها، إكبارا وإجلالا للداعية الكبير عميق الفكر والرؤية، الذي “تربى جيل الصحوة في فلسطين على كتاباته في مقتبل عمر الدعوة، لما انطلقوا فتجاوزوا العوائق، واستراحوا في ظلال الرقائق، ثم واصلوا على خطى المسار من أجل صناعة الحياة في إطار الفقه الدعوي، ونظريات العمل الإسلامي في مجالات الدعوة والسياسة والجهاد”.

كان الراشد يسأل الله أن يطيل عمره حتى يشهد تحرير الأقصى وفلسطين، وكان يرى أن عام 2022 سيكون عام التحرير أو انطلاقة معاركه الكبرى، وقد أمد الله في أيامه رغم الأمراض حتى شهد انطلاق طوفان الأقصى، وعاش أشهره العشر الأولى.

 وحين انطلاقة الطوفان المفاجئة في ظل الدهشة التي أصابت العالم أجمع، ومنه بعض الإسلاميين، رافع الشيخ الراشد عن أبطال الطوفان وزكّى عمليتهم المباركة، ورأى أن “اندفاعية حماس واعية ومدروسة، وامتلأت عقلانية وحساباً رقمياً وجَبرياً، وتخطيطاً هندسياً، وخوارط تقدم آمِن، ولم تؤثَر عنها مجازفة ولا نزوة، وقرارها جماعي بعيد عن استبداد الزعامات الفردية التي تلغي وجود الأقران ورفاق الدرب”.

ويبقى منبع القراءة من أعمق منابع فكر الراشد وأثراها قلبه وعقله، فهو حلس مكتبات بدأ رحلته مع القراءة في سن مبكرة بجد واجتهاد في مكتبات بغداد، وكان يقرأ كل شيء، وكتبه واقتباساته تدل على اطلاع مذهل، والقراءة إحدى هواياته الغلابة، ولها من أمنياته في دار الخلود النصيب الأوفى.

 وقراءة الراشد المذهلة قراءة واعية مؤطرة بهمٍّ رسالي يأخذ شوارد الحكم والأفكار والأشعار والخواطر، ويصهرها في نهر واحد  يصب في بحر الدعوة وهموم التربية، ومن عظمته العلمية أنه يستفيد في رصده العلمي وفي حشده لنصرة فِكَره من كل أحد، حتى من طلاب طلاب طلابه، ومنهم الصديق أحمد فال ولد الدين، فقد اقتبس منه، والأخير حينها في مقتبل عمره الكتابي، والتواضع العلمي من ميزات الكبار، وللراشد ميزات أخرى نكملها في جزء ثالث عنه رحمه الله تعالى.

1 تعليق

  1. عمر سامي الفهداوي

    السلام عليكم/ممكن الجزء الأول والثالث

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...