محمد أحمد الراشد.. الشمائل والآثار الباقية (3)
بقلم: إبراهيم الدويري
| 18 سبتمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
الشكر.. دوامٌ للنعم في الدنيا وفوزٌ في الآخرة
أنعم الله تعالى وتفضّل على عباده بالكثير من...
-
الترامبية المتجددة وأمْوَلَة نظام الحكم في الولايات المتحدة
منذ أن بلور حكماء الإغريق قديما فكرةَ...
-
السياسة الخارجية المتوقعة لإدارة ترامب.. تداعياتها على الشرق الأوسط
خلال حملته لاستعادة رئاسة الولايات المتحدة، قال...
-
ترامب وهاريس.. وجهان لعملة واحدة
نجح دونالد ترامب.. فاز مرشح الحزب الجمهوري...
-
السؤال الكوني وعجز الغرب الفلسفي
كمدخل فلسفي مبسط، يعود السؤال هنا على الفرد...
-
لهذه الأسباب فاز ترامب
استيقظنا صباح الأربعاء، 6 نوفمبر/ تشرين الثاني...
مقالات منوعة
بقلم: إبراهيم الدويري
| 18 سبتمبر, 2024
محمد أحمد الراشد.. الشمائل والآثار الباقية (3)
تميز الشيخ محمد أحمد الراشد بشمائل جمة، حري بأبناء الجيل معرفتها ليقرأوا تراثه الكثير في ضوئها، مستلهمين من خصائص نفسه السخية بالعلم والبذل والنبل، ومسترشدين بأخلاقه وأفكاره ومسيرته العملية الحافلة، وهي شمائل خلقية وعملية طبعت مسيرته الدعوية الحافلة، وفي ظلالها كتب مصنفاته الذائعة، ومارس يوميات الدعوة، فكان انعكاس تلك الشمائل على عطائه العلمي والدعوي أثرا باقيا بعد رحيله الفاجع.
فمن شمائله النبل والوفاء فأخباره حافلة بمبادرات النبل والوفاء لإخوانه الذين نُكِبوا أو رحلوا وتركوا وراءهم ذرية ضعفاء، ولعل أشهر تلك القصص، قصة إنفاقه على أبناء أحد رفاقه الدعاة المقربين الراحلين، وإيهام ذويه أن ما يرسله لهم من أموال هو أرباح شراكة استثمارية بينه وبين أخيه الداعية الراحل.
وحين كبر الأطفال عرفوا أن أباهم لم تكن له شراكات ولا استثمارات، وإنما ترك أخا نبيلا من مبادئه قول جعفر الخلدي: “سعي الأحرار في الدنيا يكون لإخوانهم لا لأنفسهم”، وهو من الأقوال التي احتفى بها الراشد في “تقرير ميداني”، وما مرافعته عن أحرار الإمارات في “آلام صحراوية” إلا نخوة إسلامية ونجدة مضرية.
ويرصد الراشد في التقرير الميداني صورا كثيرة من قصص نبل الدعاة وتضحياتهم، ويهتز لها اهتزاز الأريحي للبذل، فلَكَمْ أعجبه ذلك الداعية الغني المتفضل الكافل للفقراء، وذلك المؤثر الصبور على زوجه غير الملائمة، وذاك الذي يتزوج أرملة شهيد أسير فيكفل بنات أخيه الأربع، وآخر رئيس جمعية يركض “بين يدي الضيوف يحمل متاعهم ويوصلهم إلى غرفهم، ويسألهم عن طلباتهم، ويركض معه إخوان آخرون، حتى ينهكهم التعب، وينهكوا الشيطان بالتواضع،،، وداعية جُهل عليه فكان أعقل، وكظم وصفح”. ( رسائل العين: تقرير ميداني ص 338-339).
فهذه القصص والمشاهد يرى الشيخ الراشد أنها “صور من تنافس النبلاء”، وهي عنده قابلة للإبداع واجتراح الجديد، فهو يرى أنه “كما يكون إبداع الشاعر معنى لم يسبق إليه، أو اجتهاد الفقيه فتوى يتجاوز فيها التقليد، يكون نبل النبلاء أحيانا، بدعة في جيل متمرد على خصال الإحسان، لا يتجاوز عن حق ولا يغض الطرف عن خطأ”.
ومن شمائله العصامية وعزة النفس والقناعة، وهذا سبب دعوته المتكررة للاستقلال المالي من باب التجارة، وكان يطبق ذلك في نفسه، فقد كان يبيع ويشتري في الأسواق، وكان يدعو للصلابة النفسية في مواجهة ضغوط الحياة ومكاره الزمان وتقلبات الأحوال، ويدعو الداعية في حال عدم حصوله على وظيفة إلى أن ينزل “إلى ميدان المهن، وأعمال الخدمات المدنية، ويأكل من عمل يده، وليتحمل الشمس والبرد، وله أن يفخر بقطرات عرق ترى على جبينه، أو رعشة في يده من إرهاق فإن العمل شرف”، وكان الراشد مع دعوته للسمو والغنى زاهدا لم تستهوه القصور ولا الأموال، وعنده أن “زهد الداعية هو شراعه الواسع المتين الذي يشق به بحار العمل والجهاد معا”.
ومن شمائله ذات الأثر العميق في وفرة عطائه العلمي رهافة حسه وشدة تأثره بما يسمع ويقرأ، فثمة أقوال كثيرة نسمعها أو نقرؤها تمر على مسامعنا كما “يمر الأتيُّ على الصفاة” لكنها تترك في نفس الراشد أثرا عميقا، وهذا سر احتفائه بالأبيات السائرة والأقوال المأثورة، ومن الكلمات التي تركت في نفسه أثرا عميقا كان سببا في تأليف أكبر كتبه قول عبد الوهاب عزام في “الشوارد” … “…فلا تخدعنكم الصور الحائلة الزائلة، فإن وراءها حقائق دائمة عمادها الحق الباقي الذي لا يزول، ومن هذا الحق الكلمة الطيبة تتداولها الأجيال بعد الأجيال، مزهرة مثمرة مظلة، والعمل الصالح تسير على سنته القرون بعد القرون”.
وهي الكلمة التي استهل بها الراشد كتابه الموسوعة “أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي” وقال عنها :” أسرتني كلمات عبدالوهاب عزام رحمه الله واستبدت بمشاعري، وتركتني أنتفض كلما قارفت كسلا أو استولى علي الذهول، وميزة حكمته أنه يضع بين يديك حقائق الحياة حين تنسيك إياها زحمة الأحداث، فيفتح لك أبواب الآمال عراضا، وقد يقعد التشاؤم بك”. (أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي ج1، ص 9).
ومن أعظم شمائل الشيخ الراشد وجيله من الكبار عندي أنهم أصحاب “قلوب ملذوعة”، والوصف للراشد نفسه قاله في إمام العصر يوسف القرضاوي، فقد ذكر أن القرضاوي تميز بكونه “ربط القضايا الشرعية بالواقع”، وذلك عند الراشد “ليس سهلا على فقهاء النذور والطلاق وكفارات الأيمان لأنهم لا يستوعبون ذلك لكن القرضاوي فهمه لأنه داعية يهتم بقضايا المسلمين الكبرى، وله قلب ملذوع يستفزه إجرام الظالمين وجهل المخدوعين”. (التسعينية ج1، ص 460).
إن شمائل الشيخ الراشد كثيرة جدا بحجم رجل فرَّغ نفسه للدعوة إلى الله وإحياء فقهها وتكوين الدعاة على ذلك في سبيل التغيير والنهوض بالأمة من كبوتها وتحريرها من طغاتها وغزاتها، ولم يهن ولم يتراجع لما أصابه في سبيل مبادئه وقناعاته، لكن ثمة سؤال اعتاد الناس طرحه عقب رحيل العظماء والمؤثرين في مسارات الأمم والشيخ الراشد أحدهم بلا خلاف، والسؤال المتكرر هو الأثر الباقي مما ترك الراحلون.
وعندي أن الأثر الباقي والأرسخ من سيرة ومسيرة الشيخ الراشد أمران الأول: فكر صياغة الرجال، والثاني: ترسيخ ثنائية الاحتساب والانتساب، فلهذين الأمرين أثر عميق في مستقبل الدعوة وحركة حياة الدعاة في ضوء ما يعتلج في صدر الأمة من توثب للمستقبل، فأما الأول فقد كان يرى أن “صياغة الرجال هي أهم الواجبات”، ويرى أن تلك الصياغة لا يمكن للعاطفة الإيمانية اللاهبة التي يتحلى بها الدعاة أن تقوم بها، بل لا بد عنده من أن يقترن إيمان الدعاة “بعلم شرعي وثقافة شمولية، ودراية إدارية، وخبرة ميدانية واقعية، وخلطة اجتماعية”. (رسائل العين 220).
وبرصد آثار كتب الشيخ محمد أحمد الراشد في تربية جيل الصحوة وصياغة الرجال نجد أن كتبه ساهمت في صياغة مرابطي عسقلان أحسن صياغة، وهم خير رجال هذا العصر فهما وبذلا وتضحية، وفي رسالة المؤسس المجدد الشيخ أحمد ياسين إلى الشيخ محمد أحمد الراشد في استئذانه في طبع كتبه دليل ذلك القاطع، وهي الرسالة التي قال فيها ياسين “وجعلنا مؤلفاتكم وما يصدر عنكم من كتب منهجا تربويا لهذا الجيل”.
وأكد على ذلك القائد الشهيد إسماعيل هنية في رسالته “بين يدي رسالة الراشد”، وهي رسالة يجيب بها رسالة الشيخ الراشد “رمزيات حمساوية”، وكان مفكر حماس الدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة “قد أخذ على عاتقه تربية أكبر عدد ممكن من الشباب وتأهيلهم، فكان يلتقي بالشباب ويناقشهم، ولم يبخل عليهم بالمحاضرات الخاصة والعامة، وكان حريصاً على تحبيبهم العلم، فكان قـد شـرع في شـرح صحيح الإمام مسلم، والتفسير، وكتب ” الراشد ” ، وغيرها من العلوم لمريديه مـن شـباب الجامعات وغيرهم”. ( الأعمال الكاملة للمقادمة، ج1، ص 34).
أما الثاني فإنه أمر لم يتهيأ إلا لقلة من عظماء الرجال، وهو أن يحافظ المرء على نفس الحماس التنظيمي ويشفعه باحتساب يرصد ويقوم ويتحمل مسؤولية ما يترتب على ذلك من قسوة في أعراف التنظيمات والحركات المؤسسية الجادة، وكان الراشد محتسب الدعوة ورائدها، كما كان الإمام زروق محتسب الصوفية وشيخها في زمانه.
كان الشيخ الراشد يربي الدعاة على ثقافة تحمل النقد، ويحذرهم من “الجزع عند المعاتبة”، ويرى أن ذلك “ينحت نحتا ضارا من قابلية استدراك الخطأ ومعالجة العيب، وكل داعية لا بد خطَّاء، ولا مفر من طبيعته الإنسانية، وليس يصح لأحد أن يألم لكلمتين خفيفتين، تقالان له، بل حتى ولا لثقيلتين”. (رسائل العين ص 340).
وتاريخ الراشد الدعوي والفكري شاهد على عمق انتظامه وحافل بشدة احتسابه على الدعاة والحركات، فله في الشام سبح طويل مع إخوان سوريا قديما، وحركة حماس حديثا، وله مع إخوان مصر مراسلات وانتقادات، أما إخوان العراق ففي الجزء الأخير من موسوعته “أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي” فتوى حول “أوضاع الدعوة في العراق” تكفي مراجعتها عن كل قول وتنظير، وحري بمن يريد مراجعة تلك الفتوى أن يقرأ ما قبلها من المجلدات والعلم المؤصل والفكر المنظم.
ثم يختم بما ختم هو به الموسوعة؛ “منحتك علما فامنحني استغفارا وحسن الظن وجميل الدعاء”، وردد دعاءه: “ربنا عبدك هذا كتب لنا يعلمنا فقه الدعوة، وأقام لنا الدورات، وجرد لنا موسوعات الفقه ليستخرج ما نميز به الدرب، فاعف عنه، واغفر له، وتقبل منه ما خط قلمه، ولهج به من الشرح لسانه، وأدخله الجنة برحمتك، ينعم بسلامها، ويلتذ بمباهجها، ومع حورها بعد متاعه في الحياة الدنيا، فقد سرق منه السارقون، واعتدى عليه الظالمون، وافترى عليه الحاسدون، فحاول الصبر ما استطاع، فعوضه خيرا، واتركه يتمدد في البقعة التي طلبها بين الأنهار الأربعة “. اللهم آمين.
2 التعليقات
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
خرافة اسمها الحب!
من البديهيات أن المشاعر جزء أصيل لدى الإنسان.. البعض قسمها إلى مشاعر إيجابية: كالحب، والسعادة، والرضا؛ وأخرى سلبية: مثل الغضب، والاشمئزاز، والخوف. غير أن علم النفس ذهب ليؤكد أن كل المشاعر لها جانبان، واحد سلبي وآخر إيجابي؛ فالغضب -مثلاً- يعد أحد أسوأ المشاعر الإنسانية...
الشكر.. دوامٌ للنعم في الدنيا وفوزٌ في الآخرة
أنعم الله تعالى وتفضّل على عباده بالكثير من النعم والأفضال؛ فمنها ما هو متعلق بالدين، ومنها ما هو متعلق بالدنيا.. وقال العلماء إن أعظم نعم الله -عز وجل- على الإنسان هي نعمة الهداية إلى الإسلام، وهو دين الله الذي اختاره وارتضاه للخلق في رسالة الرسول محمد ﷺ. ومن نعم...
الترامبية المتجددة وأمْوَلَة نظام الحكم في الولايات المتحدة
منذ أن بلور حكماء الإغريق قديما فكرةَ الديمقراطية قبل ستة وعشرين قرنا، وعزّزها فلاسفة التنوير بضوابط الحداثة السياسية في القرن الثامن عشر، ظلّت الحِكامة السياسية تتحرك داخل مثلث محتدم، يجمع بين الفضيلة السياسية وبقية أخواتها من الأخلاقيات والأهلية المعرفية من ناحية،...
رحمة الله عليه ومغفرته أسكنه الله فسيح جنانه ومنه عفوه ورضوانه.أمين يارب🤲
ما شاء الله ..