الخرافة والسياسة والولاية
بقلم: نبيل البكيري
| 25 يونيو, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: نبيل البكيري
| 25 يونيو, 2024
الخرافة والسياسة والولاية
حينما تحضر الخرافة تموت السياسة.. هذا أبسط شيء يمكن قوله اليوم في الواقع الطائفي المأزوم الذي تعيشه المنطقة العربية على وقع انهيار الدولة الوطنية العربية، في عديد من الجمهوريات العربية، التي أُفشلت فكرة الدولة فيها لعوامل عدة.
في مقدمة تلك العوامل عدم تحول فكرة الدولة الوطنية في هذه الدول إلى فكرة وطنية جاذبة، إضافة إلى تراث الخرافة السياسية التي أٌعيد الاشتغال عليها طوال العقود الأربعة الماضية من قيام الثورة الإيرانية، بعد أن كانت قد بدأت بالتلاشي والأفول، وأخيراً سطوة نفوذ المستعمر الذي ساهم في إبقاء فكرة الدولة الوطنية العربية غير جاذبة.
لكن قبل هذا كله يبقى دور الخرافة، وهي التي قال سبنيوزا يوماً إنها – أي الخرافة- “أكثر الوسائل فعالية لحكم العامة”، والخرافة هي قرين الجهل، وتقوم على انفعالات الإنسان وعواطفه، من البغض والكراهية والتعصب والعنف، ولهذا فحيثما حلت الخرافة حلت الفوضى والخراب والاضطرابات في المجتمعات.
وأخطر أنواع الخرافات تلك التي تتلبس لبوس الدين، حيث تتسيَّد الخرافة المشهد، وتبعث غرائز معتنقيها وتفلتها من عقالها، وخطورتها لا تتوقف عند مستوى العنف وتطبيعه فحسب، بل تؤطر العنف وتتمدد بأشكال وصور شتى.
ولا تقف الخرافة مطلقاً عند حدود أي منطق سياسي أو إنساني، فالخرافة تبدأ بإنتاج صور وأشكال شتى من أشكال البؤس الإنساني لمجتمعات الخرافة؛ حيث يُخيم الجهل والتخلف والعنف والأمراض المختلفة، وفي مقدمتها الأمراض الاجتماعية التي تعبث باستقرار المجتمعات وتماسكها.
السؤال هنا: ما الداعي لكي أكتب اليوم حول هذا الأمر؟ لا شك أن ثمة أسباباً شتى اليوم ترشح على عتبة جزء كبير من المشهد السياسي العربي في العراق واليمن وسوريا ولبنان، وثمة العديد من البلدان العربية مرشحة للدخول في دائرة هذه العبثية القائمة، وهي تسيُّد الخرافة على أنقاض السياسة، وتحكمها بالمشهد السياسي العام في هذه البلدان التي ترزح اليوم تحت رحمة وهيمنة أسطورة الخرافة الطائفية، التي بزغت في مشهد غياب فكرة الدولة “المغدورة” وتجلت كصنم يُعبد، بحسب مالك بن نبي الذي قال إنه كلما غربت الفكرة يبزغ الصنم.
فعلى ضوء الجدل الدائم والمتكرر في بلدان صراع الخرافات على أنقاض السياسة – كاليمن مثلاً-، التي ترزح أجزاء منها اليوم تحت سلطة مليشيوية طائفية هي مليشيات الحوثي، التي تقوم على فكرة الحق الإلهي في الحكم، وهي فكرة تأسيسية في الفكر الزيدي خصوصاً والشيعي على وجه العموم، وإن اختلفت في تحديد طرق اقتضاء هذا الحق بأشكال شتى.
فالزيدية تقوم على فكرة الحق الإلهي بالحكم المباشر عن طريق الإمام الهاشمي المنتمي لما يطلقون عليه بالبطنيين، أي أن يكون من ذرية الحسن والحسين، ابني علي بن أبي طالب، ويجب عليه بحسب شروطهم المذهبية الخروج بالسيف طالبا الحكم، خلافاً لما هو عند بقية الفرق الشيعية التي ترى غير ذلك، كنظرية الـ”اثني عشرية” التي ترى الحكم في اثني عشر إماماً آخرهم إمام السرداب المنتظر، والتي طوروا منها فكرة الإمام الغائب، التي تطورت لاحقا لنظرية الولي الفقية وجدلياتها.
بالعودة للوضع في اليمن.. يجتهد الحوثيون منذ نشأتهم في إثبات ولاية علي بن أبي طالب، وأحقيته بالخلافة قبل أبي بكر وعمر وعثمان، كبقية الفرق الشيعية، لكن الحوثيين اليوم تركوا جدلية حق الإمام علي وذريته بالحكم، وذهبوا لإثبات ولاية عبد الملك الحوثي، وكرسوا شعاراً عجيباً يردده أتباعهم دائماً بقولهم: “اللهم إنا نتولاك ونتولى نبيك، ونتولى من أمرتنا بتوليه، سيدي ومولاي عبد الملك بن بدر الدين الحوثي”؛ فإذا كان الجدل السني الشيعي واقفاً عند جدلية أحقية الإمام علي بالخلافة، ففي حالة الحوثيين تم تجاوز هذا الجدل كله، ولم يعد يهمهم من الأمر سوى تولّي عبد الملك الحوثي، باعتبار توليه أمراً إلهياً لا يقبل النقاش.
مثل هذا الوضع الذي يمضي عليه الحوثيون، ويحشرون له كل جهد في ترسيخ مثل هذه الخرافات والأقوال والشعارات، ولا يرف لهم جفن في القول بصحة ما يقدمون عليه وما يفعلونه، مستندين إلى كمٍّ من الخرافات المبثوثة، ليس في كتبهم فحسب، بل أيضا في بعض كتب السنة فيما يتعلق ببعض الأحاديث الإشكالية، كحديث الغدير وحديث الكساء، وهي آثار حديثية جدلية، ساهمت وتساهم في حالة الإحماء الطائفي القائم، وتعمل على استمرار فكرة الخرافة واستدامتها في صراعات هذه اللحظة، التي تتجلى فيها كل أفكار ما قبل الدولة الوطنية، وتتصادم حتى مع المعلوم في الدين بالضرورة.
إنه من العبث اليوم، وأنت ترى وتشاهد هذا المشهد الاحتفالي الدوغمائي للجماعات الطائفية، أن تذهب لنقاش مقولاتها المذهبية والدينية، وأدلتها التفصيلية، فهي لا تستند في أدلتها سوى على دوغمائية العقل الطائفي، وخرافاته الحاكمة لقطيع المؤمنين بها، الذين يمضون وفق تصور دوغمائي ليس المهم صحته من عدمه بقدر ما هو مهم اتباع هذه المقولات والإيمان بها والموت في سبيلها، ومثل هذا العقل الدوغمائي لا يمكن نقاشه علمياً، لأنه عقل مفرغ من وظيفته التفكيرية العقلية بفعل هيمنة الخرافة وتسيُّدها فيه.
لذا أجدني مشفقاً كثيراً على من يبذل جهداً ما في نقاش مثل هذه الخرافات، التي تتعارض مع أبسط مدركات ومسلمات العقل البشري، فضلا عن نصوص القرآن وحقائقه الجلية والواضحة، التي قررها كقواعد حاكمة للتفكير والتأمل والحكم على ضوئها، وهي آيات واضحات جليات، وفي مقدمة هذه الآيات قوله تعالى: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}، وهي آية صريحة واضحة في تقرير حقيقة الأفضلية بين البشر وأنها للتقوى فقط، لا لنسب ولا حسب ولا لون ولا فكرة ما من توهمات العقل الطائفي.
ومثلها عشرات الآيات القرآنية الحاكمة في هذا السياق، التي وضعت تصويباً قرآنياً واضحاً لفكرة الأفضلية المتوهمة، وفكرة آل البيت المتخيلة في ذهنية معتنقيها، والتي تستند على أحاديث إشكالية تتعارض وصريح النص القرآني، كما في موضوع آل البيت وامتيازاتهم السياسية التي يراد تعزيزها اليوم من خلال فكرة الولاية والقول إن الولاية التي وردت في حديث غدير خم هي اليوم التي يجب أن تسود الواقع الاجتماع السياسي الراهن، بعد ما يقارب ألفاً وأربعمائة عام .
إن خطورة فكرة الولاية الحوثية الشيعية اليوم تكمن في أنها لا تستهدف اليمن في تصور الحوثي فحسب، وإنما تفتح المجال واسعأً أمام مدعي الانتساب النبوي أن يستعيدوا هذه المقولات السياسية في إثبات أحقيتهم في حكم البلدان التي يقيمون فيها؛ وهذا التصور الإشكالي يفجر حالة الاجتماع السياسي القائم اليوم في كل أرجاء العالم الإسلامي مترامية الأطراف.
والأكثر خطورة من هذه الخرافة السياسية هو حالة الاسترخاء التام، التي تُقابل بها من قبل المنظومة العلمائية والسياسية والأمنية لدول المنطقة، وفي مقدمتها منطقة الخليج التي تنعم باستقرار صوري مؤقت، لن يظل إلى ما لا نهاية بحكم أن تفخيخ أمن واستقرار هذه المنطقة اليوم هو هدف مركزي وجوهري لكل جماعات التشيّع السياسي الموالي لإيران، وهو ما يهدد المنطقة كلها اليوم.
إن من يظن أن ما يجري في اليمن والعراق وسوريا ولبنان شأن داخلي في هذه المجتمعات لا يفقه ولا يفهم شيئاً، وخاصة إذا ما أجال النظر في ما جرى على مدى عشر سنوات من تحولات في مشهد سياسة الرمال المتحركة، التي تحكم أمن المنطقة العربية كلها من المحيط إلى الخليج.
مهتم بالفكر السياسي الإسلامي
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق