هل من العيب أن يقتدي مسؤولو الأمة بماسح الأحذية؟!

بقلم: شريف عبدالغني

| 9 يوليو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: شريف عبدالغني

| 9 يوليو, 2024

هل من العيب أن يقتدي مسؤولو الأمة بماسح الأحذية؟!

اللهم لا اعتراض، ويارب لا نسألك رد القضاء ولكن اللطف فيه.

 أظن أنه من الطبيعي أن يشعر كثير من العرب بالغيرة من البرازيليين، ليس فقط لأنهم يملكون سحرة الكرة في العالم، وإنما أيضا لأن السماء منحتهم ساحراً آخر سيبقى تأثيره أهم وأكبر في حياتهم من تأثير”بيليه” و”زيكو” و”رونالدو” و”روماريو”و”كاكا” و”نيمار”.

إنه “لويس إناسيو لولا دا سيلفا”.. الرئيس الذي ترك السلطة راضياً عام 2010، بعد دورتين رئاسيتين فقط غيّر فيهما وجه الحياة في بلاده سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وصنع لها دوراً ملموساً على المستوى الدولي. ثم عاد مجدداً للرئاسة بعد 12 عاماً، بأصوات الشعب وليس بأية وسيلة أخرى يعرفها سكان عالمنا الثالث.. عشر.

ليس من حقنا فقط أن نشعر بالغيرة من الشعب البرازيلي، بل من “النطاعة” ألا نشعر بذلك، فرغم موت القدرة لدينا على “الفعل”، ستكون مصيبة لو ماتت عندنا نعمة “الإحساس”، خاصة أنّ لولا دا سيلفا سيظل مع غيره من الحكام الإصلاحيين في العالم بمثابة المرارة في الحلقوم العربي؛ لا لأنه يعمل لصالح شعبه ويعمل على رفع مكانة بلاده الدولية، ولكن لأنه أيضاً – وهو البعيد عن منطقتنا آلاف الأميال- يساند الشعب الفلسطيني، ويعارض بشدة إرهاب الكيان الصهيوني ضد الأشقاء في غزة، وحرب إبادتهم الهادفة إلى مسح القطاع من الخريطة.

ما فعله هذا الرجل في البرازيل خلال فترتي رئاسته الأوليين (2002-2010) لا تكفي المساحة المتاحة لتوضيحه قطعا، لكن مجرد نظرة في رقمين ستكون كفيلة بالربط بينه وبين المرارة والغيرة، وكل معاني الحيرة والخجل، التي وُضعنا فيها نحن الشعوب، ومعنا كثير من مسؤولينا على امتداد الأمة.. والرقمان هما (8) و(29).

الأول هو عدد السنوات التي قضاها في الحكم، ولم يستورد خلالها أحدث أنواع “الغراء” التي تجعل المسؤول ملتصقاً دائماً بكرسي السلطة؛ أما الرقم الثاني فهو خاص بعدد ملايين البرازيليين الذين نقلهم من الطبقة الفقيرة والمُهمّشة إلى عداد الطبقة المتوسطة. ومعروف أن قوة اقتصاد أي دولة يقاس بمدى حجم طبقتها المتوسطة، باعتبارها ركيزة استقرار المجتمع.

ولو عرفنا أن إجمالي سكان البرازيل خلال تلك الفترة 133 مليوناً فسيتضح حجم إنجاز نقل 29 مليوناً منهم إلى طبقة أعلى بلا ضجيج ولا ضجة، باستثناء ضجة العمل التي أحدثها الرجل في كل مناشط الحياة في بلاده.

وجاءت لحظة فوز البرازيل باستضافة كأس العالم لكرة القدم لعام 2014، ثم بدورة الألعاب الأولمبية لعام 2016، بعد منافسة مع دول مثل إسبانيا واليابان والولايات المتحدة الأميركية، لتكون تتويجاً لصعود البرازيل على المسرح الدولي كقوة اقتصادية وسياسية وثقافية، حتى أصبح هذا البلد تحت قيادة “لولا” – وهذه الكلمة تعني بالبرتغالية الكالمار أو الحبّار، وهو نوع من السمك- نموذجاً في أميركا اللاتينية، وقوة إقليمية تلعب دوراً محورياً في قضايا القارة. كما انفتحت  لتمارس دوراً في قضايا العالم، ليس أقلها عرض التوسط في ملف سلام الشرق الأوسط أو الملف الإيراني.

إذا كان هذا الرئيس فعل كل ذلك في 8 سنوات، أفليس من حق أبناء العرب العاربة والمستعربة أن يغلّوا فى نفوسهم ويحقدوا على الإخوة في البرازيل؟ فحكام أمتنا الذين نولد ثم ندخل المدارس ونتخرج من التعليم وبعدها نتزوج ونشيب، وهم مازالوا صامدين في مواقعهم، لا “ينقلون” مثقال ذرة من طبقة الفقراء إلى الطبقة الأعلى، ربما لأنه من الأسهل لهم إسقاطنا من المذكورة “المتوسطة” إلى “الأدنى”، وهو ما حدث في كثير من دولنا.

هذه السنوات القليلة تكشف زيف حجج من يتأخرون في الإصلاح السياسي والاجتماعي، بدعوى الحفاظ على الاستقرار وحماية البلاد والعباد من الفوضى، كما تؤكد كوميديا تصريحات العديد من الوزراء، الذين يقولون إن بقاء الحاكم في السلطة سنوات طويلة يجعله أكثر “خبرة وحكمة” في  التعامل مع الأحداث، وإن الحاكم تزداد قيمته بطول فترة بقائه. ولم ينقص أصحاب هذه الهرتلة سوى تشبيه المسؤول بالسجادة الإيرانية، التي يرتفع ثمنها بقدر طول عمرها!

ولأن البرازيليين شعروا خلال السنوات الثماني من حكم “لولا”، في العقد الأول من هذا القرن، بمدى الطفرة التي أحدثها في حياتهم، فقد طالبوه بتعديل الدستور حتى يستطيع الترشح لفترة انتخابية ثالثة تالية لسابقتيها، والفوز حتماً في الانتخابات ذات الصناديق البيضاء الشفافة، وليس على طريقة الست “نزيهة” العربية.

لكنه – مثل كل العظماء أصحاب الرسالات- رفض، فقد أدى ما عليه، وعمل بجد طوال 8 سنوات، وحان وقت الراحة. وبعد 12 عاماً خارج السلطة، وتلبية لمطالبات شعبية، ووفق ما يسمح به الدستور، عاد للترشح والفوز على الرئيس اليميني المتطرف جايير بولسونارو.

 إنه بموقف رفضه تعديل الدستور للبقاء في الحكم لثلاث دورات متتالية، يعيدنا إلى الحيرة وإلى التساؤل المشروع: ألا يشعر كثير من المسؤولين العرب بالتعب أو بالملل من كثرة العمل، فيرغبوا بالتالي في الحياة الهادئة بقية حياتهم والراحة من مسؤولياتهم الجسام، أم إنهم بالأصل لا يعملون، ومن ثم فلا داعي للراحة؟!

المفارقة أن كثيرين منهم عندما يستيقظون من النوم ولا يجدون شيئا يفعلونه، أو حاكماً زميلاً يكلمونه، أو شخصاً شارداً يعتقلونه، فإن أول شيء يسلّون به أنفسهم هو اللعب.. ليس طبعا “شطرنج” أو”بلاي ستيشن”، ولكنه اللعب في “الدستور”.. يعدّلون فيه، ويزيدون مادة هنا  وينقصون أخرى هناك، ليكون المسكين الملعوب فيه مفصّلا عليهم، وضامناً لبقائهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

هل اختلاف الظروف والنشأة بين مسؤولي العرب ولولا دا سيلفا هو السبب في هذا الاختلاف الشاسع بينهم وبينه؟!

ربما.. فالرجل، المولود في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 1945، كانت طفولته قاسية، وسكنت عائلته في غرفة واحدة في منطقة فقيرة في ساو باولو، غرفة خلف ناد ليلي، تنبعث منه موسيقا صاخبة، وشتائم سكارى.

وقد أسهمت الأم “أريستيديس” بشكل كبير في تربية وتكوين شخصية “دا سلفيا” عقب زواج والده على أمه بعد فترة قصيرة من ولادته، ولذلك يعترف “لولا” قائلا: “لقد علمتني أمي كيف أمشي مرفوع الرأس، وكيف أحترم نفسي حتى يحترمني الآخرون”.

توقف لولا عن التحصيل الدراسي في مستوى الخامسة من التعليم الأساسي بسبب الفقر، الأمر الذي اضطره إلى العمل كماسح للأحذية، وبعدها صبياً بمحطة بنزين، ثم خراطاً، وميكانيكي سيارات، وبائع خضار، لينتهي به هذا الحال كمتخصص في التعدين.

 وفي سن الـ 19، خسر “لولا” أصبعه الصغير في يده اليسرى في حادث أثناء العمل في مصنع قطع غيار للسيارات، الأمر الذي دفعه للمشاركة في اتحاد نقابات العمال ليدافع عن حقوقه وحقوق زملائه. وواصل نضاله حتى أصبح  أول رئيس برازيلي من الطبقة العمالية، ليهتم بتحسين أحوال طبقة المهمشين.. ولذلك يطلقون عليه “نصير المحرومين”.

أظن أنه لو كان الأمر بيد المواطنين العرب لدعوا حكامهم إلى الاقتداء بسيرة “لولا”، وطالبوهم بالسير على نهجه، عسى أن تنصلح أحوالهم.. لكني أخشى أن يخرج غداً أحد الكتاب من صنف المُسبّحين بحمد الحكام، ليتهم أصحاب هذه الدعاوى وتلك المطالبات بالعيب في الذات الرئاسية، وليكتب في زاويته رداً عليهم: “شعوب قليلة الأدب ما لقتش حد يربيها.. قال ماسح أحذية قال اللي فخامة القائد يقلده”!.

1 تعليق

  1. Lady Gaga

    القادة العظماء هم من يعتبرون أن إدارة شؤون المنظومة التي يقودها و هموم افرادها هو الأولوية الأولى في عمله ، بعيدا عن مصالحه الشخصية و أهوائه و رغباته و نزواته .. صاحب رؤيا واضحة متقدة و شجاعة لمواجهة جميع أطراف المشاكل التي سيواجهها وحلّها بما تقتضيه المصلحة بكل نزاهة وصدق ، والاستماع و التركيز على قضايا الأفراد المسؤول منهم ، بغض النظر عن ضخامة أعدادهم أو قلّتهم .
    للأسف يندر في عالمنا ( العربي) هذا الصنف من القادة من أصغر منظومة إلى أكبر هيئة أو كيان .لأن القائد لدينا مجبول على حب السلطة و الالتصاق بالكرسي كما تفضلت في مقالك ،
    قد تكون الصفات التي ذكرتها موجوده لديهم ولكن المعايير معكوسة ، وكلها تصب في صالحهم و لخيرهم ( المؤقت) . فلكل بداية نهاية.. إلا للأشراف الذين سيظل التاريخ يتحدث عنهم و يتداول الأجيال تجربتهم .
    كما هو قلمك الشجاع الذي سيظل مداده ينطق بالحق.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...