عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
بقلم: خليفة آل محمود
| 16 نوفمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: خليفة آل محمود
| 16 نوفمبر, 2024
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب العشريني مدى صعوبة مهمته، بسبب أن أهل المدينة لم يكونوا على وئام مع الدولة، وحكامها من بني أمية على وجه التحديد، نتيجةً للقمع الكبير الذي عانوه في الماضي.. منذ اللحظة الأولى التي أُبلغ فيها بأنه مكلف بولاية المدينة، أدرك الأمير الأموي الشاب حجم المشاكل التي سيواجهها؛ ضعف خبرته، وصغر سنه، والنفور من النظام الذي يمثله، كانت تحديات حقيقية، أدركها قبل مغادرته دمشق لمباشرة مهمته.
عزيمته على النجاح خلقت لديه ثقة كبيرة لانتهاج الطريق الصحيح؛ فلم ينتظر طويلاً، ومنذ لحظة وصوله إلى المدينة طلب الاجتماع مع فقهائها، وهم كما يقال صفوة المجتمع من الناحية الفكرية. كان المجلس مزيجاً غريباً، يتصدره شاب صغير، يجلس في مواجهته جهابذة علماء المدينة من أصحاب الأعمار الكبيرة، كان ذلك المجلس غاية في الأهمية لهؤلاء الشيوخ، لمعرفة أغوار وطبائع ذلك الفتى الذي أرسله أعمامه ليتولى مقاليد أمور المدينة.
لم يدم جس النبض طويلاً، وحين بدأ الحديث تلاشى الحذر، وأصبح الجميع يتحدث بأريحية بعد إزالة الحواجز، ساعد في ذلك الانطباع الجميل عن الأمير الجديد؛ فقد تبين لهم، فضلاً عن أدبه الجم وتواضعه، أنه يمتلك نضجاً وعلماً يتجاوز سنه بكثير، انطلقت سقوف الحديث كحصان جامح يقطع سهولاً مترامية الأطراف.. وفي نهاية ذلك اللقاء، طلب منهم أن يكونوا جلساءه في أيام منتظمة لمناقشة أمور المدينة، وقال لهم إنه لن يتخذ أمراً إلا بعد سماع مشورتهم ورأيهم. كان ذلك الطلب وموافقة الشيوخ عليه بمثابة تدشين لأول “مجلس شورى” نظامي في الإسلام لدعم السلطة التنفيذية.
الشاب قليل الخبرة صارت تُعرض عليه الأمور الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية للمدينة، يدير الحديث ويسمع للجميع في أطروحاتهم واختلافاتهم، يدور أمامه نقاش مستفيض عن الأمر وآثاره الجانبية، وسبب القبول أو الرفض، والحوار ومحاولة الإقناع بين قامات علمية كلٌّ بحجته حول أمر من الأمور.. بعد ذلك الحديث الطويل والضجيج، يكون له وحده القرار، فيبارك الجميع له ذلك على اختلاف نظرتهم للأمر!. كان لذلك المجلس دور كبير في النهضة العمرانية والإدارية، وكذلك في سيادة حكم القانون، فأصبحت المدينة ملاذاً لكثير من طلاب العدل والاستقرار، وحماية لهم من جور ولاتهم.
انعكست سنوات العمل إيجاباً على المدينة، حتى إن الخليفة الوليد بن عبد الملك حين زارها، أظهر إعجابه وانبهاره بجمال ما رآه، وأثنى على ابن عمه، كما أن حفاوة الاستقبال من أهلها أبهجته، وأزالت الكثير من العتب والوجد بين الطرفين، فكان لقاء أهل المدينة بالخليفة ولسان حالهم يقول: شكراً لعطائكم الذي تمثل في صورة زهرة بني أمية؛ شخص عادل ونزيه، يسمع ويتحرى ويقرر.
لم يدم ذلك المشروع الإصلاحي طويلاً بسبب المكائد والوشايات في بلاط الخليفة، خاصة من الحجاج الذي انزعج من تلك التجربة التي تتعارض مع طريقته في إدارة الحكم في العراق؛ فاستغل نفوذه ليوقع الخليفة في الوالي حتى تحقق له ما أراد، وتم عزل عمر بن عبد العزيز، كان لذلك العزل وقع حزين على الوالي وكذلك الرعية، وتجهز للرحيل والعودة إلى الشام، وتذكر المصادر أن أهل المدينة خرجوا عن بكرة أبيهم لوداع الوالي، وخلت البيوت من أهلها وامتلأت الطرقات في حفلة حب حقيقية.. قال أحدهم: “لم أعش لحظة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن كما قيل لنا، كان يوماً مظلماً كئيباً، وانكسرت فيه قلوب الناس ونفوسهم، وعمت الكآبة على الجميع، ولا أظن أن أتى يوم حزين آخر على المدينة مثل يوم خروج عمر بن عبد العزيز منها معزولاً”.
تلك كانت تجربة عمر بن عبد العزيز، ولمدة خمس سنوات ثرية جداً، عالج فيها الكثير من الأمور بحلول سهلة ولكنها ذات أثر عميق؛ فقد خلق مؤسسة ساهمت في نجاحه وازدهار العمران وسكينة المجتمع، وحقق العدل، ذلك النقاش والحديث والاعتراضات واتخاذ القرار في كل تلك الأمور، جعل الشاب الصغير في السن كهلاً في الخبرات والتجارب، مدرسة جميلة تتغذى من خبرات الآخرين وحبهم للإصلاح، وكانت خيراً على المسلمين في قادم أيامهم، ذلك المجلس الصغير للشاب الصغير كان في الواقع جامعة راقية جداً ومتقدمة، تشكّل فيها وتطوّر فكر شخص سيصبح في قادم الأيام الشخص الأول الذي يدير المشهد في العالم الإسلامي حين تؤول إليه الخلافة، ليصبح زمانه من أزهى العصور بفضل تلك التجربة الثريّة.
عبر التاريخ وصولاً إلى الواقع، لا أجد مجلساً يمثل منظومة نجاح مثل ذلك المجلس؛ سبب النجاح أن المعايير في الاختيار كانت حقيقية، والألفة والصراحة كانت تميز المجتمعين في نقاشهم خلف الأبواب المغلقة، تلك تجربة سياسية رائعة، جمعت عنفوان الشباب في الإمارة مع خبرات مميزة بأعمار كبيرة، ليتحقق نضج سياسي يثمر رخاءً ورفاهية ومنظومة نجاح.
في الحقيقة، حين نتمعن في التجربة، نجد أن الوالي لم يفقد سلطته، بل عززها بخبرة اختصرت له السنين من خلال أناس يكنّون له كل حب وتقدير، ويكنُّ لهم حبّاً بمثله. لهذا، كانت النوازع النفسية التي يتميز بها الإنسان من حب السلطة والاستئثار بها بعيدة عن تلك التجربة، لندرك أن المعادلة بسيطة جداً: بيوت الحكم لها السمع والطاعة والقرار بعد الاستشارة، أما أصحاب الخبرات فدورهم إخلاص النية في الرأي، ووضع الصورة كاملة بيد رجل القرار، والأهم هو الإخلاص من الجميع.. وهي قاعدة، تكفل الله بنجاحها إن طُبقت، وفقاً للقاعدة الشرعية: {إن يريدا إصلاحاً يوفّق الله بينهما}.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق