نشر نعيه قبل موته!

بقلم: سامي كمال الدين

| 19 يونيو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: سامي كمال الدين

| 19 يونيو, 2024

نشر نعيه قبل موته!

تائه في لندن أنا، لذا تذكرت محمد عفيفي صاحب كتاب “تائه في لندن”.

ذات عام سألني أحمد خالد توفيق: كيف توصلت إلى زوجة محمد عفيفي؟ منذ سنوات طوال وأنا أبحث عن أي أثر لهذا الكاتب العظيم، ولم أصل لأحد!. كنت مثل أحمد خالد توفيق لسنوات أتقصى أثره، أبحث عن هذا الساخر الكبير، الذي تشبه كلماته الساخرة القصيرة طلقات الرصاص التي تنطلق مرة واحدة، لكنْ يبقى أثرها طوال العمر؛ وفوجئت عندما التقيت زوجته السيدة اعتدال هانم بأنها تحمل مثل روحه الساخرة.

قالت لي الكاتبة الكبيرة سناء البيسي إنها جاورت محمد عفيفي عشر سنوات في حجرة مكتب واحدة في دار أخبار اليوم، كان يقول “أنا أبو الصبيان”، وذلك لأن لديه ثلاثة أولاد، عادل ونبيل وعلاء. التقيت ابنه نبيل وهو مهندس معماري، وعلاء يعمل في الشؤون القانونية في مؤسسة أخبار اليوم.. حين جلست معهم في البيت الذي عاش فيه محمد عفيفي في حي الهرم مع شجرة التمرحنة والحيوانات الأليفة، تذكرت في تغريبتي خارج مصر جلستي في هذا البيت الذي كانت تجتمع فيه شلة الحرافيش كل خميس على مدى ٤٥ عاما: صلاح جاهين، نجيب محفوظ، أحمد مظهر، أحمد بهاء الدين، ثروت أباظة، عادل كامل، بهجت عثمان.

قبل أن تتداخل عليك الأسماء والأمكنة والتواريخ، دعني أخبرك أولا عن كاتبنا الساخر الذي نتحدث عنه هنا..

محمد عفيفي أحد أهم كتاب السخرية في الوطن العربى، ولد يوم السبت 29 جمادى الآخر سنة 1340 هجرية، الموافق 25 من فبراير 1922م، بقرية «الزوامل» القريبة من «إنشاص» مركز بلبيس- محافظة الشرقية، لكنه انتقل مع أسرته إلى القاهرة، ليدخل مرحلة الدراسة الابتدائية، وينتهي منها عام 1933 بالقاهرة، وحصل على الشهادة الثانوية من مدرسة «التوفيقية» بشبرا بالقاهرةعام 1938، والتحق بكلية الحقوق وحصل على لسيانس الحقوق عام 1942، ثم أصر على الحصول على دبلوم الصحافة سنة 1944، وكان يريد أن يكون أديباً وصحفياً، فأصدر عام 1944 مجلة القصة، التي لم تستمر كثيراً لأنها لم تحقق مكسبا.

كان محمد عفيفي يحلم بالكتابة ولكن بطريقة مختلفة وجديدة، واستطاع هذا إلى حد كبير، كما أنه بدأ رحلته الصحفية مع كاتب مثله يسعى إلى التميز وجمال الأسلوب ورشاقته وقوته، وهو أستاذ الصحافة محمد التابعي، وذلك بمجلة «آخر ساعة» في منتصف الأربعينيات. فقد قرأ عفيفى إعلانات مكثفة عن تجديد آخر ساعة، وكان محمد التابعي كشاف مواهب، أدرك حجم موهبة محمد عفيفي فكلفه في البداية بتقديم فِكَر لصور الكاريكاتير التي كان يرسمها صاروخان.. نجح عفيفي في خلق فِكَر جديدة وساخرة، لكنها سخرية ممتلئة بالحكمة لكي تواجه الناس بأعباء وتكاليف الحياة التي يعيشونها، وتميزت آخر ساعة بباب يكتبه محمد عفيفي هو «ابتسم من فضلك»، ويوميات لآخر ساعة، وحقق باب «ابتسم من فضلك» مجداً وانتشاراً لا يحلم به أي كاتب، كما حرر باب «هذا وذاك» على صفحة كاملة بمشاركة ريشة مصطفى حسين عام ١٩٦٢.

في حياة عفيفي مرحلة مهمة لا يجب أن نتجاوزها على الرغم من أن مدتها عام واحد، حيث عمل عام ١٩٤٥ في مجلة «اضحك»، التي تصدر عن دار مسامرات الجيب، وفيها انطلق قلمه متجاوزاً كل الحدود وكأنه فرس عربي وجد أمامه صحراء شاسعة بعد سجن طويل. وقبل ثورة يوليو بعامين تزوج في يوم عيد ميلاده، وأنجب ثلاثة أولاد، عادل (عام ١٩٥١) ويعمل طبيبا، ونبيل (عام ١٩٥٧) ويعمل مهندسا مدنيا، وعلاء (عام ١٩٦٠) ويعمل مدير شؤون قانونية..

محمد عفيفي دائم الإبصار والتمعن والتفكير والفلسفة في كتاباته، ولا أدري سبباً لتجاهل هذا الرجل ونسيانه بهذا الشكل.. إذ كلما مرت ذكراه يحتفل الناس بأشياء كثيرة إلا ذكراه، وكأنه لم يكن ذات يوم أهم كُتّاب مؤسسة أخبار اليوم وآخر ساعة، وأستاذ الكتابة الساخرة..

الغريب أن محمد عفيفي كان يسخر من كل شيء حتى موته! لدرجة أنه كتب نعيه قبل رحيله، وفيه: «عزيزي القارئ.. يؤسفني أن أخطرك بشيء قد يحزنك بعض الشيء، وذلك بأني قد توفيت، وأنا طبعاً لا أكتب هذه الكلمة بعد الوفاة (دي صعبة شوية)، وإنما أكتبها قبل ذلك وأوصيت بأن تنشر بعد وفاتي، وذلك لاعتقادي بأن الموت شيء خاص لا يستدعي إزعاج الآخرين بإرسال التلغرافات، والتزاحم حول مسجد عمر مكرم حيث تقام عادة ليالي العزاء.. وإذا أحزنتك هذه الكلمات فلا مانع من أن تحزن بعض الشيء، ولكن أرجو ألا تحزن كثيرا».

وعلى الرغم من أن يحيى حقي كان يعتبره حامل لواء الفكاهة في مصر، وقد وصفه صديقه نجيب محفوظ بقوله «كانت السخرية محور حياته.. ينبض بها قلبه، ويفكر بها عقله، وتتحرك فيها إرادته»، فهي ليست بالثوب الذي يرتديه عندما يمسك بالقلم، وينزعه إذا خاض الحياة، ولكنها جلده ولحمه ودمه وأسلوبه عند الجد والهزل، ولدى السرور والحزن. ونجيب محفوظ هو الذي اختار عنوان كتاب عفيفي الأخير «ترانيم في ظل تمارا» بعد رحيل عفيفي في 6/12/1981.. إلا أنه لم يُحتف بعفيفي في وطنه، ولم يحصل على مكانته التي تليق به.

عن علاقته بمحمد التابعي قالت لي زوجة عفيفي: كان زوجي يحب محمد التابعي جداً ويعتبره مثله الأعلى، والتابعي كان يحبه، لذا رشحه لمصطفى أمين في أخبار اليوم، وكلمه وقال له اذهب لمصطفى أمين، وجعله يعمل في أخبار اليوم، وفي الحقيقة لم أحضر أية لقاءات بينه وبين التابعي.. هم كانوا معاً في خارج البيت، وكانوا جميعاً أصدقاءه، لكنه كان يفضل اللقاء خارج البيت ولا يرحب بجلوس «الستات» في «قعداته».

كان من أصدقائه كامل الشناوي ورضا وصاروخان وعلي ومصطفى أمين، وكانوا يعملون جلسات كاريكاتيرية أسبوعية لتنشر في أخبار اليوم.. أما الصديق الأقرب له – تضيف السيدة اعتدال- فهو نجيب محفوظ، وكان يأتي ومعه باقي شلة الحرافيش، الذين ظلوا 45 سنة معاً، وهم: نجيب محفوظ، توفيق صالح، أحمد مظهر، ثروت أباظة، صلاح جاهين، أحمد بهاء الدين، بهجت عثمان، عادل كامل، صبري شبانة، إيهاب الأزهري. وكان لقاؤهم دائماً في الفيلا عندنا كل يوم خميس، وكان نجيب يأتي في الثامنة والنصف، حيث يضرب جرس الباب فيقول عفيفي: رجل الساعة وصل، ويقصد التزام نجيب بمواعيده.. ولم أحضر مناقشات لهم، وكان ممنوعا دخول أي «حريم» معهم، وحاولت كثيرات ورفض، وحاول التليفزيون تصويرهم أكثر من مرة لكنه كان يقول لهم: من يريد الدخول عليه أن يترك الكاميرات خارج البيت. كانت أغلب جلساتهم لا تتناول المسائل الشخصية، أغلبها مناقشات أدبية.

عن طقوسه في الكتابة قالت لي: كانت له حجرة خاصة بناها في آخر دور في الفيلا، وكنا نطلق عليها الصومعة، كان ممنوعا صعود أحد إليه إلا إذا ضرب الجرس، فنصعد لنعرف ماذا يريد؟ وبعد أن ينهي كتاباته كان يجلس إلينا، ولم يكتب أي شىء وسطنا. وفي البيت كانت له لمحات ساخرة، وكان صديقا حميما لأولاده، ولم يكن يرتدي جلابية الأب الصارم.

أما عن زيارة المثقفين والكتاب فقالت: لم يكن أحد غريب يزوره في البيت، كانت أغلب مقابلاته في الجريدة.. ولكن جاء له علي أمين مرات معدودة، أما صديقه على المدى الطويل فكان إيهاب الأزهرى.

وعن علاقته بعلي ومصطفى أمين، فقد كانت علاقة مودة، ولكن ذات مرة اختلف محمد عفيفي مع علي أمين، وقرر أن يترك «أخبار اليوم»، وبالفعل انتقل إلى «روزاليوسف»، ولا أعرف سر اختلافهما، وجاء البيت وقال: تركت الجريدة، ولم يقل الأسباب، وعمل في «روزاليوسف»، التي كان يترأس تحريرها أحمد بهاء الدين، الذي رحب به، لكن في هذا اليوم هاتفه علي أمين كثيرا، حوالي عشر مكالمات، ولم يكن بالبيت، لكن بعدها فوجئت بعلي أمين يضرب جرس البيت ويقول لي: أنا عارف أن محمد هنا وعايزه.

وخرجا معا، وركبا سيارة علي أمين، وبعد ذلك اعتذر لأحمد بهاء الدين ورجع «الأخبار»، وأعتقد أن الخلاف بينهما كان مهنيا.. فزوجي لم يكن من نوعية الأزواج الذين يحكون كل ما يحدث معهم في العمل.

وعن كتابته عن الحيوانات الأليفة تقول: كان يربيهم في البيت – مثل القطط والكلاب- وكان يجد نفسه معهم.

وعن ذكريات زواجهما تقول إنه تزوجها في عيد ميلاده، وكان ترتيبه أن نتزوج بعد عيد ميلاده بأسبوع، لكنه قال: خلي “الجواز” يوم عيد ميلادي «لكي يبقوا مصيبتين في يوم واحد»!. ورفض التقاط صور تذكارية لزفافهما، وقال لها: أنا أرفض تماما أن أتصور بنظام عريس وعروسة.. لو عايزة تتصوري اتصوري لوحدك!

إذا أردت أن تبتهج في حياتك، أرشح لك من كتب محمد عفيفي: ابتسم من فضلك، ابتسم للدنيا، ضحكات صارخة، للكبار فقط، بنت اسمها مرمر، سكة سفر، شلة الحرافيش، فانتازيا فرعونية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...