المجاهد راشد الغنوشي في ذكرى ميلاده الـ83 في سجون الثورة المضادة

بواسطة | يونيو 23, 2024

بواسطة | يونيو 23, 2024

المجاهد راشد الغنوشي في ذكرى ميلاده الـ83 في سجون الثورة المضادة

ليس غريبا أن تحل الذكرى الثالثة والثمانون لميلاد الأستاذ المجاهد الشيخ راشد الغنوشي، في 22 يونيو 2024، وهو في سجون الثورة المضادة ببلاده، وأن يخوض بجسده النحيل وعزيمته الصلبة معركة الأمعاء الخاوية قبل ذلك بعام.

فالغنوشي منذ اغتسل ليلة السادس من يونيو 1966م، و”وحَّد الله” راجعا إلى رحابة الإسلام، وتائبا من ضيق القومية وشطط الاشتراكية، لم يذق طعم الراحة، ولم تحدثه نفسه بالتخلي لحظة عن مقاومة الاستبداد والاستكبار، ولا هَمَّ ثانية بالتراجع عن الفكر الإصلاحي الوسطي، الذي هو إحدى خلاصاته السياسية الناصعة في تونس.

ترى الثورة المضادة في شخص الشيخ راشد الغنوشي  مَعْلما من معالم الوعي الإسلامي المعاصر، التي يجب أن تُهدم، وترى في سيرته النضالية الحافلة رمزا للسعي الدؤوب إلى الحرية والكرامة، يجب أن يعاقب صاحبهما بالسجن والتغييب ولو كان في سن الثمانين؛ ففي أدبيات الثورة المضادة وعرَّابيها لا يوجد احترام لشيبة إسلام، ولا تقدير لتضحية عمْر، ولا إكبار لإيمان عميق بالشراكة والإيثار، بل الانتقام والانتقام فقط.

يوقن الأحرار أن نباح الثورة المضادة وسعار جلاديها لن يضرا الشيخ راشد الغنوشي، ولن يدنسا سيرته الملحمية العظيمة، فهو شيخ ثمانيني تصدى منذ نعومة أظفاره لأعتى أنواع التوحش العلماني المعاصر، وكافح بين السجون والمنافي حتى تهاوت عروش أشرس الأنظمة في بلاده، وهو قائد مصلح آثر المصالح العامة على المكاسب الحزبية الآنية، فحين فاز حزبه في انتخابات متكررة عقب ثورة شعبية لم تُبطره السلطة، ولم تُسكره حُميَّا الحكم، ولا فَتَّ في عضده حجم المؤامرات.

كان الشيخ راشد الغنوشي بحكمته وصبره وحلمه صمام أمان لتونس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وحين استحكمت المؤامرة وحاق السوء بأرض الزيتونة وبلاد القيروان، لم يرجع إلى بيته أو يتقاعد في مزرعة ذويه في الحامة ليقضي بقية حياته بهدوء، بعيدا عن قلاقل السياسة وتحديات التصدي للمؤامرات، بل وقف شامخا من جديد “بعزم فتي وقلب ذكي”.

من المؤسف في ظل حملات تزييف الوعي، أن تكون سيرة قائد بحجم راشد الغنوشي مستقاة من إعلام الثورة المضادة، ومن تقارير خصوم الإيديولوجيا السوداء، ومن مقالات المتحاملين عليه من قليلي الفقه وضعفاء الديانة، وهي حملات مدبرة، لم تزل وزارات الداخلية سيئة الصيت وأنظمة الاستبداد ترعاها بعناية، والمغفلون يتلقونها باندفاع، متحاملين جميعا على رجل أفنى عمره دفاعا عن الإسلام، وتمسيكا بكتابه في بلاد كادت شدة الهجمات التغريبية تلحقها بالأندلس.

في محبسه الظالم منذ أكثر من عام يختلي راشد الغنوشي بربه، متدبرا كتابه العزيز، حافظا جوارحه، تتداعى إلى ذهنه مواقف كثيرة من مشوار جهاده الطويل، فيتراءى له رفاق الدرب قد حطوا رحالهم  عند رب كريم لا يُظلم عنده أحد، فيزداد عزيمة وصلابة في سبيل مبادئه، يستذكر الإمام القرضاوي والغزالي والمودودي والندوي وعصام العطار وحسن الترابي والزنداني ممن قضى نحبه، ويستذكر آلاف المصلحين الذين تغص بهم سجون الظلمة والمستكبرين في مصر وشقيقاتها، فيوقن أن الفجر قريب، وأن الخلاص قاب قوسين أو أدنى، وأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.

ستدرك الثورة المضادة وأذيالها أن اقتلاع الغنوشي من تونس مستحيل، فقد مات بورقيبه ورحل بن علي، وعاد راشد الغنوشي إلى الحاضرة التونسية تحمله الجماهير على الأكتاف إكبارا وإجلالا، فمن يستطيع اقتلاع جامع الزيتونة من تونس العتيقة؟ ومن يقدر على حذف جامع عقبة بن نافع والقيروان من تاريخ الإسلام في المغرب الإسلامي؟!

يتكئ الغنوشي على إرث إصلاحي عميق الجذور في تونس، يسير فيه على خطى عقبة بن نافع وسحنون وابنه، وابن أبي زيد ومدرسته، ويتقفى أثر ابن عرفة وابن خلدون، ويشيم بروق خير الدين التونسي، ومحمود قابادو وسالم بوحاجب وآل عاشور وجعيط  والنيفر وبيرم والخوجة وغيرهم من أعلام الزيتونة.

مهما اشتد ظلام الاستبداد، وأعاد الكرة بعد الكرة، فإن الغنوشي سيبقى رمزا إسلاميا وقائدا سياسيا حكيما، ومجاهدا صلبا لا تهد الأيام عزيمته، ولا تنال الليالي والمؤامرات من إرادته، كما ستبقى تونس مركزا نشطا من مراكز الإصلاح والثورة بفضل “ما أنجزه رجال الحركة الإصلاحية فيها، من فتح باب الاجتهاد، وإعمال آلياته في إعادة اكتشاف الإسلام عودا إلى مصادره الأولى، وإجراء الحوار بينها وبين ما استجد في العصر من علوم ومعارف ومشاكل، إلى جانب ما همشه الانحطاط من مواريث رجالات الإسلام العظام، فأحيوا تراث العمران الخلدوني، والسياسة الشرعية عند ابن تيمية، والمصلحة عند الشاطبي”.. كما يقول الغنوشي نفسه، فك الله أسره بالعزة والتمكين.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...