الخطاب الديني بين التجديد والتبديد
بقلم: احسان الفقيه
| 30 يوليو, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: احسان الفقيه
| 30 يوليو, 2024
الخطاب الديني بين التجديد والتبديد
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها”؛ رواه أبو داود.
التجديد تبع لخصائص هذا الدين من الخلود والشمول الذي يتناول كل إنسان في كل مكان وزمان، لذا كان أمرا لازما لمواجهة المحدثات وتبدل الأحوال وابتعاد الناس عن الشريعة بتقادم الزمان.
والمجدد قد يكون فردا أو مجموعة من الناس، وقد نبه ابن حجر رحمه الله على هذه الحقيقة، فقال: “لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه في الطائفة”.
ونظرا لأن التجديد كلمة قد تتقاذفها الأهواء، وتحار في إدراك معناها أفهام العامة، فقد وضع العلماء تعريفات لبيان معنى التجديد. جاء في “عون المعبود”: “المراد من التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات”، وهذا هو مضمون ما ذكره الأقدمون حول تعريف التجديد، إلا أن المعاصرين قد أضافوا إليه بعدا آخر، وهو تنزيل الدين على واقع الحياة ومستجداتها.
وربما لم يكن هذا من ضمن تعريفات الأولين، نظرا لأنه أمر بدهي يدور مع خصائص الإسلام ويحسن العلماء القيام به، أما في عصرنا هذا ومع ضعف العلم وكثرة الطاعنين في الإسلام، فقد وجب التنبيه على اشتمال التجديد لتنزيل أحكام الإسلام على واقع الناس، لذا أجمل الدكتور عدنان محمد أمامة في رسالته الجامعية الموسومة بـ “التجديد في الفكر الإسلامي”، مضامين التجديد فقال: “تجديد الدين يعني: إحياء وبعث ما اندرس منه، وتخليصه من البدع والمحدثات، وتنزيله على واقع الحياة ومستجداتها”.
وعلى ذلك فالتجديد يشمل تنقية العقيدة مما طرأ عليها من علم الكلام وآراء الفلاسفة، وربطها بالسلوك، ومواجهة البدع والمحدثات، ونشر العلم الصحيح المبني على الكتاب والسنة الصحيحة، وتنقية الأحاديث من الموضوع والضعيف، وتنقيح التفاسير من الإسرائيليات والخرافات، وإحياء منهج أهل السنة في التزكية بعيدا عما اختلقه أهل الأهواء، وتصحيح التصورات والمفاهيم، وترك التقليد الأعمى، وإظهار السنن وإحياء ما اندثر منها، وإماتة البدع، وإحياء منهج الصحابة في النظر والاستدلال، والتلقي للتنفيذ، وتنقيح كتب التراث مما علق في بعضها من الخرافات والغلو في الأشخاص.
بيد أنه قد انطلقت في واقعنا المعاصر دعوة خبيثة لهدم هذا الدين وتفريغه من محتواه تحت مظلة “تجديد الخطاب الديني”، وهي دعوة يكاد يجمع عليها كل المناوئين لمنهج أهل السنة والجماعة، من التغريبيين وأدعياء الفكر التنويري وغيرهم، مفادها تطويع الدين لمتطلبات العولمة، والسير في ركب النموذج الأمريكي، و”أنسنة” الإسلام وسلبه خصوصياته، بحجة التعايش السلمي وقبول الآخر، مع أن الإسلام في صورته الصافية هو الذي يؤصل ويدعو إلى التعايش الإنساني، وإقرار مبادئ السلام والعدل والرحمة والتسامح، ولا يصح أن يحاكم الإسلام بشذوذ بعض المنتسبين إليه من أهل الغلو والتشدد.
وكعادة المروجين للباطل، يزينونه ويلمعونه ويلبسونه ثوب الحق؛ ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فقال: “ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها”، رواه أبو داود.
التجديد بمعناه المحرَّف يُخضع الأحكام الشرعية للعقل، ويجعله حاكما عليها، ومن ثم يصبح الدين رهن اختلاف الآراء والأذواق وأنماط التفكير، علما بأن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم، وقد أفرد لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة ماتعة بعنوان “درء تعارض العقل والنقل”، فلا يتعارض النص الصحيح مع العقل السليم، وإن كان ثمة تعارض فيرجع إما إلى عدم صحة النقل أو فساد العقل.
التجديد بمعناه المحرَّف يتيح العبث في أصول الدين، والتعدي على القطعيات والثوابت، فوفق هذا المنهج الفاسد تتبدد معالم الدين وتضيع هوية المسلمين ومرجعيتهم.
التجديد بمعناه المحرَّف يتضمن الحذف من الدين والزيادة عليه بما يتواءم مع المفاهيم العصرية السائدة، فبناء على ذلك يمكن سن قوانين تساوي بين الذكر والأنثى في الميراث تماهيا مع دعوات المساواة بين الجنسين، مع أن المرأة ترث ما يزيد عن الرجل في أكثر من ثلاثين حالة، فالعدل لا ليس بالضرورة أن يعني المساواة.
التجديد بمعناه المحرَّف يجعل الشريعة محاصرة زمنيا، بحيث يتم التحلل من التشريع بدعوى أنه كان ملائما لظروف عصره! ولله در الإمام مالك رحمه الله، إذ يقول: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.
ومن بوابة رعاية الفقه المقاصدي ينفذ أرباب التجديد المزعوم، ونحن نقر بأهمية هذا الفقه، إلا أن هؤلاء يرون تقديم المصلحة على النص بشكل مطلق، ولو كان النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وعلى هذا يصبح الربا مباحا إذا كان يحقق مصلحة فردية أو جماعية، مع أن الدين قد جاء بما فيه مصالح العباد في كل زمان ومكان.
هذا التجديد المزعوم يؤدي إلى إقرار إسلام جديد، لا يحمل من حقيقة الإسلام التي نزل بها سوى بعض القيم الروحية والأخلاق الإنسانية العامة، إسلام مفرغ من محتواه، مسلوبة خصائصه، إسلام مطوع لأهواء الناس.
هذه الدعوة الخبيثة، التي يزعم القائمون عليها والمروجون لها أنها سبيل القضاء على التطرف والإرهاب، إنما تؤجج بالفعل روح التطرف وممارسات الإرهاب، لأن المنهج الإسلامي يحمل في مضمونه وروحه وشكله التسامح والتعايش السلمي ومبادئ السلام.. ولم يعرف غير المسلمين الأمن والأمان إلا في عصور هيمنة الإسلام، حيث لا إكراه في الدين، وحيث العدل مع المخالف ولو كان من غير أبناء الدين، وحيث عصمة الدماء لكل صاحب دين مسالم غير محارب، وحيث تنظيم العلاقات مع النظام الدولي؛ فإذا تم تفريغ هذا الدين من محتواه، ليوافق المفهوم المنحرف للتجديد، فإنه يجعل علاقة المسلم بغيره عرضة للتفسيرات الشخصية، فمن ثم تكون الفوضى.
لا يكون التجديد في الإسلام إلا إذا حددنا الفوارق بين الأصول والفروع، بين الثوابت والمتغيرات، بين النص والاجتهاد، وبين القطعي والظني؛ وإلا كان تبديدا لا تجديدا.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
0 تعليق