المشتبك.. عنوان موت أفضى إلى حياة!

بقلم: سعدية مفرح

| 28 أكتوبر, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: سعدية مفرح

| 28 أكتوبر, 2024

المشتبك.. عنوان موت أفضى إلى حياة!

مرغ أنوفهم بالتراب حياً وميتاً.. فأثبت للعالم كله أن قوة أسلحتهم لا شيء أمام قوة إيمانه..

ظنوا أنهم سيغتالونه قصداً مع سبق الإصرار والترصد.. فقتلوه بالصدفة! فكانت تلك الصدفة بمثابة خيبة أمل لنواياهم الخبيثة، إذ لم يدركوا أن أسطورة الشهيد الحي يحيى السنوار تتجاوز حدود الحياة والموت في المفاهيم التقليدية، وستكبر وتتسع لتكون يقيناً إنسانياً يضع صاحب الاسم في سجل الأبطال النادرين في التاريخ الإنساني كله.

عندما اقتحمت المسيّرة البيت الذي فجروه فوق رأسه وهم لا يعلمون أنه هو، بدا هادئا في مقعده، بيد مقطوعة ضمدها بسلك حديدي، وعصا التقطها من فوضى المكان حوله، وبعينين لم يستطع غبار التفجير أن يحجب عنهما وضوح الرؤية.

اعتاد العدو على اغتيال من يراه عقبة في طريقه من قادة النضال، وفي كل مرة تتكرر الحكاية.. يظن العدو المتمترس بغطرسته أن المقاومة ستنتهي بنهاية القائد، فيتفاجأ أن النهايات بعيدة، وأن كل موت يفضي إلى حياة جديدة، تتوزع في الأجساد الصغيرة حوله، إذ تكبر لتتسلم الراية!. والراية هذه المرة كانت عصا التقطها المقاتل المشتبك وهو يعيش لحظاته الأخيرة من حطام المكان حوله، ليرميها على عدسة المسيّرة التي رصدت وجوده الملثم، في انتظار فلسطين الحرة حتماً.

تحركت المسيّرة بسرعة، وذهبت العصا في فضاء واسع من التاريخ الفلسطيني المليء بالرموز والحكايات المتوارثة والموت المحتفى به في السماء.. لا بد أن طفلاً فلسطينياً نجا للتو من مذبحة طازجة سيمسك بتلك العصا، وهو في طريقه لقيادة المشهد وإعادة رسمه في غضون سنوات قليلة.. السلسلة النضالية خلال العقود الثلاثة الأخيرة في فلسطين واضحة في دلالتها؛ لا موت فيها سوى بالشهادة، ولا حياة فيها سوى بالنضال..

أما السنوار، فقد تحرر من المعتقل مكتمل الوجدان ممتلئ الروح واضح الهدف، ليشق بعصاه الطوفان..

في السابع من أكتوبر 2023 كانت ساعة الصفر، وكان الطوفان.. وفي السابع عشر من أكتوبر 2024 كانت ساعة الصفر، وكانت الشهادة التي توقعها كل من يعرفه عن قرب وعن بعد. لكنْ، لا أحد كان ينتظر حدوثها بهذا الترتيب التاريخي غير المسبوق؛ واضحة، مصورة، منقولة للجميع على الهواء، وبعدسة العدو الذي اجتهد طويلا لطمسها تحت أكذوبة الأنفاق، حتى وجد نفسه شاهدا عليها ومساهماً في صناعتها.. بمفارقة فريدة في بابها!

توهموا أنهم سيقبضون عليه ليعيدوا اعتقاله والتنكيل به.. فكان بانتظارهم في الميدان، بعدته وعتاده، بسلاحه وكتيب أذكاره، بمسبحته وطلقته الأخيرة.. في كل مواجهة، كان يقف شامخاً، ملهماً لكل من حوله، مؤمناً أن المعركة ليست فقط ضد الأعداء، بل ضد الإحباط واليأس.. وجوده في قلب المعركة كان يعكس إيماناً عميقاً بالله ، وبالناس وبفلسطين الحرة.

وعدوا شعبهم بأنهم سيرغمونه على الاستسلام، وأنهم سيصورنه خارجاً من النفق رافعاً راية بيضاء منهزماً منكسراً، بعينين زائغتين وقلب يرتجف وبلا صوت، فأرغمهم على الاستسلام أمام قوة المشهد النهائي؛ بطلاً في عنفوانه، لم تشغله يده المقطوعة، ولا جمجمته التي تهشم ربعها، ولا دماؤه التي سالت على كل جيده عن فكرته الأولى والأخيرة سبيلا لتحرير فلسطين.. المواجهة بالسلاح، ولو كان مجرد حجر أو عصا.

توهموا أنهم يعرفونه وقد أمضى في معتقلاتهم نصف عمره تقريبا، فاضطرهم للجوء إلى فحص الـ”دي إن إي”، حتى يتأكدوا أنهم قتلوه!. كانت تلك اللحظة بمثابة انتصاره الأول في برزخه الجديد، إذ جعلهم يسعون خلف خيالهم، بينما هو في الواقع يسير نحو الشهادة بشجاعة لا تُضاهى.. لم يكونوا يعلمون أن الأمل الذي زرعه في قلوب رفاقه سيستمر في التوهج، وأن الشعلة التي أشعلها لن تنطفئ.

اعتقدوا بأن المقاومة ستنتهي.. لكنها ستستمر كالعادة بعد استشهاد كل قائد. فالسنوار، برؤيته الاستراتيجية وعزيمته الفولاذية، زرع في قلوب أتباعه روح المقاومة.

كل شهيد يصبح علامة فارقة، ويُعزز الفكرة بأن النضال لا يتوقف بغياب أحد، بل يمتد كالأجيال المتعاقبة التي تحمل الرسالة ذاتها.

لم يتخندق ولم يتفندق، ولم يترك غزة لحظة واحدة لوحدها.. كان دوماً في الصفوف الأمامية، مشتبكاً مدافعاً عن كل شبر من أرضه، ما أضفى على وجوده قيمة عظيمة. لم يكن خائفاً من الموت، بل كان متلهفاً للانغماس في معركة الحق، حيث كان يُدرك أن حريتهم تبدأ من استعادة كرامتهم.

اتخذ قرار التحرير، وكان أهلاً لقراره الحر.. كانت تلك الكلمة “تحرير” تعني له كل شيء، وليس مجرد مصطلح سياسي. عُرف بنضاله العنيد في سبيل الوصول إلى حقوق شعبه، ولم يكن ينظر إلى الأمور بعين واحدة، بل احتضن جميع تفاصيل معاناتهم وآمالهم.

تمنى الشهادة، ونالها.. وبموته لم يتوقف الحلم، بل تحول إلى واقع يُجسد تضحياته.

ستظل ذكراه حية، وستبقى مسيرته نموذجاً يُحتذى به للأجيال المقبلة.. لن ينسى الناس كيف وقف في وجه العواصف، وكيف صار مثالاً يُلهمهم في كل زمان ومكان.

هو رمز لمقاومة لا تنتهي، وعنوان للإرادة التي تتجاوز الحدود!. لقد أثبت للجميع أن الأبطال لا يُصنعون من ظروف سهلة، بل من الأزمات والتحديات، وأن الحرية لا تأتي بسهولة، بل تتطلب إيمانًا عميقًا بالتغيير، وتضحية لا حدود لها.

سعدية مفرح

مستشارة ثقافية من الكويت

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...