لأجل غزة.. الثورة الرقمية تعود إلى العصر الحجري

بقلم: خالد صافي

| 21 يوليو, 2024

بقلم: خالد صافي

| 21 يوليو, 2024

لأجل غزة.. الثورة الرقمية تعود إلى العصر الحجري

وصلت التقنية في عصرنا إلى درجة عالية من التطور بإنترنت أسرع من البرق، وفتحت لك المجال للتواصل مع أصدقائك وعائلتك من أي مكان في العالم بدقة ووضوح مذهلين، وأتاحت لك التحكم في منزلك الذكي بلمسة إصبع.

وتطورت الاتصالات، وتقنيات الواقع الافتراضي (VR)، والواقع المعزّز (AR)، وتطبيقات إنترنت الأشياء (IOT)، من المدن الذكية إلى السيارات ذاتية القيادة، وزادت الأجهزة المتصلة بالشبكة، مع زيادة المستخدمين واستهلاكهم حجمًا مهولاً من البيانات في كل ثانية، حتى وصلنا إلى أعتاب الجيل الخامس (5G) في الاتصالات. وبالرغم من كل ذلك التطور الهائل، يعاني المغترب الفلسطيني في كل مرة يريد التواصل فيها مع أهله في غزة للاطمئنان على أحوالهم، في ظل حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال منذ أشهر.

أصل المعاناة

بحكم اتفاقية أوسلو وبروتوكول باريس، فإن الاحتلال هو المتحكم في قطاع الاتصالات في فلسطين، وإليه تمتد خطوط الاتصالات والكابلات بين الضفة والقطاع، كما أنه المسيطر على الكابلات الدولية، وبناء عليه يتحكم في هذه الاتصالات، بالقطع أو الوصل أو التشويش أو الاعتراض أو التنصت، ومنذ اليوم الأول للإبادة أعلن الاحتلال قطع الاتصالات والاحتياجات الأساسية عن قطاع غزة لينفرد بالمحاصرين.

كما قصف جيش الاحتلال خطوط التواصل والإنترنت بالتزامن مع هجمات عنيفة نفذها الطيران والمدفعية، ما أدى إلى انقطاع كامل للألياف الضوئية المغذية للإنترنت في القطاع، حيث قطع الاحتلال الاتصالات أكثر من 10 مرات بشكل كامل، ليمنع أكثر من مليوني شخص من التواصل مع أقاربهم خارج القطاع المحاصر أو داخله، ناهيك عن التواصل مع الإسعاف لإنقاذ جرحى قصف الاحتلال.

قد يتصل بك فلسطيني هاتفيًا أو على واتس آب من رقم يبدأ بالمقدمة +972 (التابعة للاحتلال)، وليس بالمقدمة +970 (التابعة لفلسطين)، وقد تقرأ في نهاية العنوان البريدي لصاحب الموقع الإلكتروني كلمة “إسرائيل” رغم أنه من غزة، وربما رأيت اسم “إسرائيل” على خرائط جوجل بدلاً من فلسطين، ذلك كله وغيره من صنع الاحتلال لسرقة الوجود الفلسطيني الرقمي.

حلول واختراعات

لجأ الصحفيون لاستخدام شريحة (eSIM) في محاولة للحصول على حل بديل عن انقطاع الإنترنت في قطاع غزة، صعد الأهالي أسطح المنازل بحثًا عن الإشارة لنشر صور المعاناة للعالم، اقترب النازحون من الشواطئ على أمل الحصول على عامود إرسال واحد يُسمع الكوكب استغاثتهم، ناشد النشطاء الملياردير إيلون ماسك لتزويد القطاع بخدمة الإنترنت الفضائي “ستار لينك” على غرار صنيعه لأوكرانيا في حربها مع روسيا.

اشترى بعض المحاصرين شرائح مصرية وجلسوا على الحدود لمعرفة مواعيد توزيع المساعدات في مناطق نزوحهم، أمضى كثيرون أيامهم في المشافي والمصارف وشركات الاتصالات لتحصيل خدمة إنترنت مجانية للتواصل مع أقاربهم، ركّب رياديون خلايا طاقة شمسية مهترئة فوق الخيمة أو أسطح المنازل المهدمة لشحن الهواتف وتوفير خدمة الإنترنت عن طريق الحزم، شيكل مقابل الساعة لو كنت واقفًا، وفي حال الجلوس على كرسي تصبح التكلفة ثلاثة شواكل، وكلها محاولات للوصول لحلول اخترعها المحَاصر داخل 360 كم مربع، ليدق الجدران كي يسمعه من هم خارجها.

معاناة مغترب

أما المغترب، فقد تسمّر أمام شاشات الفضائيات لمشاهدة المارة خلف مراسل القناة في كل تغطية إخبارية لعله يشاهد أحد أقاربه، ولم يتوان عن تجربة تطبيقات التواصل التقنية، وما جادت به الثورة الرقمية؛ عساه يصل لأهله ويطمئن على أحوالهم، مثل واتس آب وتيليجرام وسكايب ومسنجر وغيرها، ولكن بلا جدوى، وهناك من كان يرسل لأخيه على واتس آب نقطة (.) وينتظر حتى يظهر الصح الأزرق ليطمئن أنه مازال حيًا.

يعتمد الكتابة النصية بدلاً من الصور والصوت والفيديو لأنها أسرع في التحميل عند الطرف الآخر، يضغط الصور ويرسل الفيديو بدقة أقل للحفاظ على حزمة قريبه المحدودة، حتى الاتصال الهاتفي الدولي.. يضطر المغترب لأن يحاول مرات عديدة حتى تحن عليه شبكة الاتصال بالاستجابة لطلبه، ذلك لأن معظم شبكات الكهرباء المشغلة لأبراج الإرسال في قطاع غزة مدمرة.

أما عن أقذر الأساليب التي اتبعها الاحتلال فكان اعتراضه اتصالات المغتربين الدولية، واستخدام فتيات يتحدثن بلغة عربية تفتقر للحياء، كي تستدرجه إحداهن وتعرف معلومات أكثر عن أقاربه وأعدادهم وأماكنهم لاستهدافهم أو ابتزازه لتجنيده.. بعدها أحجم المغترب عن الاتصال بأهله للحفاظ على حياتهم.

كما تدين تدان

إذا كنت شغوفًا بربط الأحداث على مبدأ “كما تدين تدان” وأن “الجزاء من جنس العمل”، فقد تجد علاقة بين خبر حذف مايكروسوفت حسابات فلسطينيين مغتربين بشكل مفاجئ، وحرمانهم من التواصل مع عائلاتهم المحاصرة في قطاع غزة، بعدما حظرتهم من استخدام حسابات سكايب المملوكة للشركة، بدعوى أنهم خالفوا شروط الاستخدام دون أن توضح لهم كيف خالفوا الشروط، وبين إعلان شركة مايكروسوفت في الأسبوع ذاته عن وجود خلل تقني معلوماتي في نظامها بشكل مفاجئ، عرقل وصول المستخدمين في دول عدة إلى منصات الحوسبة السحابية الخاصة بها، خصوصًا تلك التي تعمل بنظام ويندوز وكراود سترايك فالكون.

وقد تبين أن العطل تقني وليس أمنيًا، وتم تحديد سبب المشكلة وحلها، ولكن بعدما تسبب الخلل في التأثير على الاتصالات وحركة الطيران ومحطات التلفزة وكثير من الشركات، في بلاد متفرقة حول العالم، العجيب أن المشكلة انحصرت في تحديثات ويندوز فقط، بينما لم تتأثر باقي أنظمة التشغيل الأخرى (لينكس وأندرويد)، وبسبب ذلك الخلل عادت بعض المطارات 50 عامًا للوراء، ‏فاستخدم الموظفون سبورة لكتابة أرقام الرحلات عليها، وأصدروا بطاقة صعود الطائرة بورقة مكتوبة يدويًا!

ظنوا أنهم قادرون عليها

ربما انقطعت الاتصالات لساعات لتنذر المتغافلين عن حق الفلسطينيين في التواصل مع ذويهم، ربما توقفت حركة المسافرين في المطارات ولم يسمح لهم بالتنقل، ليشعروا بمأساة مليوني محاصر في غزة لا يسمح لهم الاحتلال بالوصول إلى رفح، المنفذ البري الوحيد جنوب القطاع، منذ شهور طويلة.

ربما تعطلت مصالح الشركات وتوقفت أعمالها، وخسرت ملايين الدولارات في دقائق، لتعرف أن الخسائر الأولية المباشرة للحرب على غزة زادت عن 33 مليار دولار، بعد حصر 7% فقط من أضرار حرب الإبادة، حسب بيانات الجهات الحكومية في غزة.

ربما تأثر بشكل مباشر أكثر من 24 ألف عميل من الخلل التقني، موزعين بين المطارات والبنوك والمستشفيات والشركات العالمية بسبب توقف خدماتها كليًا أو جزئيًا، لينتبه العالم لتضرر كلي أو جزئي لحق بأكثر من 43 ألف مؤسسة في غزة، موزعة بين مقرات حكومية وشركات خاصة، ومدارس وجامعات، ومساجد وكنائس، ومستشفيات ووحدات سكنية.

ربما ظن العالم أنه قادر على الإفلات من عقوبة الظلم، فجاءته الإشارة بانهيار النظام السيبراني الذي ظن أنه قادر على حصاد ثماره، فكانت الإشارة الصادمة رحمة به قبيل العقاب بالتدمير والفناء، فقد قال عز وجل: ﴿حتّى إذا أخذت الأَرض زُخرُفها وَازَّيَّنَت وظنَّ أهلُها أنَّهم قادرون عاليها أتاها أمرُنا ليلًا أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تَغنَ بالأمس﴾ [يونس: 24].

القاتل بالصمت

لم يبق في الكون من لم يسمع استغاثة غزة، وطَرْقات جدران الخزان، وهي إذ تعدّ الأيام تكتب الطريق إلى النصر، وعلى جدران اليأس تخط أسماء كل من تخاذل وتواطأ وتآمر مع الاحتلال، ولا تغفل عن أولئك الذين وقفوا على الحياد وساووا بين الضحية والجلاد، كلهم سيأتيه يوم القيامة فردًا يُسأل عن دمها الذي على يديه مازال يقطر، وصوتها الذي بُحّ ولم يحرك فيهم ساكنًا، فالصمت مثل الرصاصة الإسرائيلية والصاروخ الأمريكي.. يقتل.

1 تعليق

  1. moujahed chraiti

    يجب إنشاء شبكة خاصة

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...