تفاهة الشهرة.. بين الطيّب صالح والممثل ماثيو بيري وعبد الوهاب

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 13 يوليو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 13 يوليو, 2024

تفاهة الشهرة.. بين الطيّب صالح والممثل ماثيو بيري وعبد الوهاب

يحكي جلال أمين في كتابه “شخصيات لها تاريخ” قصة عن زيارة الأديب السوداني الطيّب صالح إلى القاهرة، بعد توجيه الجامعة الأمريكية الدعوة إليه لالتقاء الطلاب في محاضرة يلقيها، وتعقبها مناقشة عامة.

جاء الطيّب صالح وألقى محاضرة ممتعة بالإنجليزية، كان عنوانها “تفاهة الشهرة”، وكانت تدور حول الفكرة الطريفة الآتية: “كلما حدث له شيء يجعله يعتقد أنه أصبح رجلًا مشهورًا، أصابه من ذلك بعض الشعور بالكِبر والخيلاء، حدث له بعد ذلك مباشرة شيء يجعله يشعر بأنه ليس في الحقيقة بهذه الدرجة من الأهمية، وبأنَّ آلافًا مؤلَّفة من الناس (المُهمِّين أيضًا) لا يعرفونه ولا يأبهون لوجوده”.

بعد انتهاء المحاضرة، فتح باب المناقشة، فإذا بإحدى الطالبات توجه له سؤالًا عن “القومية العربية” أو “الوَحدة العربية”، أو شيء من هذا القبيل، مما كان يتعلق بحادث سياسي مُهم كان قد وقع قبل ذلك بأيام قليلة.. ابتسم الطيّب صالح إشفاقًا على نفسه وعلى الطالبة، وقال لها ما معناه إن كونه أديبًا معروفًا أو كونه يعرف كيف يكتب قصة ناجحة، ليس معناه أبدًا أن يكون ممن يفهمون في السياسة، أو أن يكون رأيه في السياسة ذا أهمية، أو يفوق في أهميته رأي أي شخص آخر ممن لا يكتبون القصص.

لم تكن الإجابة متوقَّعة، فالعادة أن يتخذ الأديب الكبير أو الفنان العظيم هيئة المفكر الكبير لدى توجيه أي سؤال من هذا النوع إليه، ويُدلي فيه بدَلوه، أيًّا كانت بساطة تفكيره (بل وربما سذاجة هذا التفكير)، متى خرج عن نطاق فنه الذي يجيد.. والعادة أيضًا ألا يلتفت الناس إلى سذاجة هذا الفكر، بل يأخذوا أي شيء يصدر عن هذا الفنان الكبير، وكأنه الحكمة نفسها!

يُكمل جلال أمين وصف هذه الظاهرة بأنها خطأ شائع نقع فيه جميعًا، فالظاهر أن من الصعب على ذهن المرء أن يميز بين جوانب الإنسان المتعددة، وأن من الأسهل أن يحكم على الشخص ككل، حُكمًا واحدًا جاهزًا، لا يميز بين جانب من فكر هذا الشخص وجانب آخر.

المهم أن جلال أمين اتفق مع الطيِّب صالح تمامًا في هذا القول، على الرغم من اعتقاده الراسخ بأن معظم الحاضرين في المحاضرة لا بد أنهم أخذوه على سبيل المزاح، ورفضوا رفضًا باتًّا أن يتخلصوا من فكرة أن الطيّب صالح، ما دام أديبًا عظيمًا، لا بد أن يكون مفكرًا سياسيًّا عظيمًا في الوقت ذاته.

هذا التمهيد الممتع من جلال أمين عن الطيِّب صالح، قبل حديثه عن نجيب محفوظ في الكتاب، ليقول إنه يفرق بين عظمة أدب نجيب محفوظ وبين خياراته السياسية أو الفكرية التي يختلف معها، بل يختلف مع شخصيته نفسها، نقلني من تفاهة الشهرة، وكونها لا تعني الفهم في كل شؤون الحياة، إلى سعي الناس الحميمي لها.

فقد قرأ جلال أمين كتاب رجاء النقَّاش، الذي يضم سيرة لمحفوظ، وهنا شعر جلال بأن نجيب محفوظ، على الرغم من الشهرة الواسعة التي حققها، والنجاح الباهر الذي جلبه له الأدب، ناهيك عن حصوله على جائزة نوبل، وامتداد عمره إلى التسعين، على رغم ذلك، فإن جلال كان يتوقع ويأمل أن يكون الأشخاص المهمُّون الذين يتكلم عنهم نجيب محفوظ أكثر بكثير ممن ورد الكلام عنهم في كتاب النقَّاش، والأحداث التي يعلِّق عليها أكثر بكثير، والأماكن والبلاد التي طاف بها أكثر وأعظم.. هكذا يحاول جلال أمين زرع الشك في نظرة نجيب محفوظ إلى العالم والقضايا التي عاصرها، وعلى الرغم من براعة محفوظ الأدبية فإن آراءه في بعض المواضيع قد تكون موضع نظر ومراجعة.

ماثيو بيري والبحث عن الشهرة

ثم طالعت مذكرات الممثل ماثيو بيري بعنوان “أصدقاء وعشاق والشيء الرهيب”، لقد أفاض ماثيو في الحديث عن أثر طفولته في شخصيته، لكني توقفت عند سعيه المحموم – منذ المراهقة- للحصول على الشهرة؛ ففي عام 1986م، كان ماثيو متأكدًا من أن الشهرة ستغير كل شيء في حياته، وقد كان أكثر شخص توَّاق إلى الشهرة على وجه الأرض، وكان يحتاج إليها بقوة، وكانت الشيء الوحيد الذي سيعالجه – في ظنه- مما تعانيه نفسيته.

عندما انتقل ماثيو إلى العيش في لوس أنجلوس، شعر بالثقة بأنه سيصطدم بشخص مشهور، وقد يقدم ملحوظة للممثل نيكولاس كيدج في كابينة الطعام المجاورة مصادفة، وقد علم ماثيو أنه لا توجد للمشاهير مشكلات في الحقيقة، فكل مشكلاتهم اختفت لأنهم مشاهير! ويقول إن الشهرة ثم الشهرة كانت كل ما يرغب فيه من سعيه للبحث عن دور في السينما، هذا كل ما رغب فيه هو ورفيقاته من الفتيات، فقد اعتقد ماثيو أن الشهرة ستملأ تلك الفجوة الكبرى بداخله، التي كانت في حالة ازدياد لا متناهٍ.

بحثًا عن الشهرة

لقد تمسَّك ماثيو بشدة باعتقاد أن الشهرة ستملأ فجوة الوَحدة التي يعانيها، وقبل تجربة أداء مسلسل “فريندز” بثلاثة أسابيع، جلس ماثيو وحده في شقة بحي “صانسيت ودوهيني” بالطابق العاشر، كانت شقة صغيرة للغاية، ولكنها تطل على منظر رائع، وفجأة وجد ماثيو نفسه راكعًا على ركبتيه، وأغلق عينيه تمامًا، وصلَّى – وهو شيء لم يفعله مطلقًا من قبل- ‫ قائلًا: “أيها الرب، افعل بي ما شئت، ولكن أرجوك اجعلني مشهورًا”.

‏بعدها بثلاثة أسابيع، اخْتير ماثيو في مسلسل “فريندز”.. أصبح ماثيو مشهورًا، ولكنه تعلَّم أن الشهرة لم تكن إجابة مريحة على كل ما تحتاج إليه روحه، وهو يعلم أن هذا الأمر لن يصدقه أي شخص غير مشهور.

لقد نجح مسلسل “فريندز”، والشهرة التي طالما تطلع إليها جاءت بالفعل، إذ كان الممثلون في لندن مثل فرقة البيتلز، فقد كان الجمهور يصرخ خارج غرف الفندق بسبب شعبية المسلسل، وقد حرمته حياة الشهرة من التمتع بحياة التسكُّع وحريته في النوادي الليلية، فقد أصبح يشرب الكحول في شقته لأن ذلك أكثر أمانًا له.

يحكي ماثيو في مذكراته “كواليس صناعة الأفلام والمسلسلات”، وهو يعترف بأنه وراء كل ذلك البريق والكاميرات، كان يشعر بالجحيم بسبب إدمانه الخمور، ‏فمع هذا النجاح والأموال التي حصل عليها، وبعد مرور عام ونصف العام من التمثيل، كان يتعاطى خمسة وخمسين قرصًا في اليوم الواحد، لقد عاش ماثيو جحيم الإدمان، إدمان المخدرات والكحول، وتمنَّى ساعتئذ أن يتخلى عن كل المال، وكل الشهرة، وكل شيء، وأن يعيش في شقة بالإيجار وهو قلق بشأن الحصول على المال طوال الوقت، مقابل أن يتخلص من إدمانه.

لقد بدأتُ قراءة مذكرات ماثيو بيري، وكنت أفكر.. هذه أعجب مذكرات قرأتها تصف بشاعة إدمان الكحول والمخدرات، يبدو أنني أغرق في قراءة مذكرات الأدباء والسياسيين وعوالمهم، لكن عالم ماثيو بيري مختلف.. فيه مصحات وإدمان، وألم عقلي رهيب، وعلاقات عاطفية فاشلة، عانى ماثيو من ذئب الشهرة وذئب إدمان الخمور والبحث عن النساء وافتقاده الروحانية، والعَلاقة المضطربة مع عائلته، خصوصًا مع والده.

البحث عن النساء عند محمد عبد الوهاب

من الأمور التي جعلت ماثيو يشعر بأنه أصبح مشهورًا كونه دخل أحد الكازينوهات ووجد النساء يتوددون إليه، وهكذا انتهى عهد التودد ومغازلة الفتيات وهو متوتر، محاولًا أن يُلقي بعض الدعابات المتواضعة، وهذا ذكرني بالفنان محمد عبد الوهاب والمغنية أسمهان، فقد كنت أطالع كتاب “أسمهان تروي قصتها” للصحفي محمد التابعي، ووقفت عند قصة تعرُّف التابعي إلى أسمهان، التي سيخطبها لاحقًا.. تبدأ القصة في أمسية عليلة في صيف عام 1940م، في مصيف رأس البر، إذ جلس التابعي وأسمهان على شرفة الشاليه يتذكران لقاءهما الأول، وكان أول تعارف بينهما عند المغني محمد عبد الوهاب، ونقرأ الرواية على لسان أسمهان، وهي تقول للتابعي: هل تعرف لماذا عرّفني عبد الوهاب إليك؟

التابعي: علشان أعمل دعاية لك وللفيلم!

أسمهان: كلا، غلطان، السبب الحقيقي هو أنه كان يريد أن يشمت فيك!

سألها التابعي: كيف؟

وراحت أسمهان تقص عليه، كيف كانت في أثناء زواجها وإقامتها في جبل الدروز تزور القاهرة من عام إلى عام، وكيف أنها – بدافع حبها للموسيقا وللغناء- كانت تخشى أوساط الموسيقيين، وكيف تعرفت إلى عبد الوهاب، إذ كانت شديدة الإعجاب به وبفنه، وأنها كانت تزوره أحيانًا، وأنه غازلها، وأنها بادلته غزلًا بغزل.. ولكن الغزل أو المغازلة وقفت بهما في أول الطريق.

هنا سألها التابعي، بما أنه يعرف أن “الشقاوة” في دم أسمهان، وأن المغازلة طبيعة فيها: ولماذا وقفتما في أول الطريق؟

 قالت أسمهان: لأنه لم يعجبني.. عبد الوهاب في مجلس الغناء شيء يعجب ويفتن، وأما في مجلس العشق والغزل فإنه شيء آخر.. شيء لا يعجب ولا يفتن.. ضحك التابعي، وقال: هذا رأي لن تجدي سيدة أخرى توافقك عليه!

قالت: ربما.. فنساء وفتيات يعجبن بهذا النوع من الرجال.

قال التابعي: أي نوع؟

قالت أسمهان: الرجل المغرور! إن عبد الوهاب يريد دائمًا من المرأة التي يحبها أن توفر عليه كل عناء الحب! أن تكون لها جرأة الرجل وإقدام الرجل، وأن تترك له هو، لعبد الوهاب، حشمة المرأة وحياءها وخفرها، أي إن الأوضاع تنقلب! هو يجلس مطرقًا برأسه، وعلى المرأة أن تزحف إليه على ركبتيها، وليس عليه إلا أن يتفضل ويتقبل منها حبها وقُبلاتها وخضوعها تحت قدميه! هذا هو حب عبد الوهاب.

ثم هزت رأسها بشدة وهي تقول: لم يعجبني.. أبدًا.

هذه قصة ضمن كتاب أسمهان للتابعي، فيها لون من ألوان العلاقات بين الرجال النجوم والنساء، تذكَّرتها وأنا أقرأ عن حياة الممثل ماثيو بيري، لأن حياة النجوم تتشابه عند حصولهم على الشهرة، فهم يحصلون على المرأة ثم يكفون عن الركض وراءها، وقد لخص الصحفي جليل البنداري شخصية عبد الوهاب في كتابه “عبد الوهاب.. طفل النساء المدلل” بقوله:

“لقد خرجتُ من بحثي في حياة عبد الوهاب، أو طفل النساء المدلل، بهذه الحقائق: أن عبد الوهاب يجري وراء المرأة حتى ينالها، ثم لا يطيق بعد ذلك أن ينظر في وجهها!  وهو يجري وراء اللحن أو الفكرة الموسيقية حتى ينالها، ثم لا يطيق بعد ذلك أن يستمع لها! وهو يجري وراء القرش حتى يناله ويضعه في جيبه، فلا يطيق بعد ذلك أن يُخرجه من جيبه أو ينظر إليه! ولعل هذا هو الذي خلق منه فنانًا يجري دائمًا وراء المرأة الجديدة والفكرة الجديدة والقرش الجديد! وهو يكاد يكون الملحن الوحيد، الذي لم يكرر نفسه، فهو يطوي رصيده من النساء والألحان والفلوس، ولا ينظر إليه بعد ذلك، وإنما يسعى إلى رصيد جديد من النساء والألحان والفلوس.. هذا هو عبد الوهاب! إن عبد الوهاب خدّاع كالسراب.. لا يُرى إلا من بعيد”!.

ويحكي كامل الشناوي: “لقيت الأستاذ محمد عبد الوهاب، وكانت أعصابه مضطربة، وجهه شاحب، ونظراته زائغة، وفمه مرتعش كأن فيه بقية نغم للحن لم يتم، كل هذا بسبب اتصال الصحف به تسأله عن وفاة أحد الأقارب، ورغم كذب الخبر، فإنه قال لكامل الشناوي: خبر الموت يهزني ولو كان كاذبًا”.

ما أقرب الشَّبَه بين ماثيو بيري وما يحكيه جليل البنداري عن عبد الوهاب.

وقد عرَّفنا الطيّب صالح “تفاهة الشهرة”، وأنها لا تعني فهم كل شيء في نواحي الحياة، وأن بزوغ نجم الإنسان في مجال بعينه لا يعني براعته في الجوانب الأخرى، وعرّفنا ماثيو زيف وعود الشهرة في حل كل مشكلات الروح المتعبة، ورغم حصوله على المال والنساء والشهرة، ظل يعاني من أمور كثيرة في حياته، وفقد شعور الطمأنينة.. لم تُعطِ الشهرة ماثيو إجابات عن كل ما يؤرقه، ولم تشفِه من الوَحدة، وغرق في إدمان الخمور والحبوب، وفي المذكرات التي تخص ماثيو بكاءٌ كثيرٌ من الإدمان ومن معاناة الطفولة، ومن كثير من أمور الحياة.

ما أعجبَ هذه المذكرات التي تكشف زيف عالم الأضواء وبريق السينما وبريق الغِنى! إنها تكشف زيف حياة الفن وانحطاط الحياة الخلفية للنجوم.. حياة كالسَّراب، كما قال البنداري عن عبد الوهاب.

محمد عبدالعزيز

مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات

1 تعليق

  1. محمد صالح

    جميل جدا يا أستاذ محمد، شكرا لك
    سوف أبحث عن مذكرات ماثيو بيري لأطلع عليها أكثر، تبدو مشوقة.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...