المشكلة في “الكونسبت”!
بقلم: كريم الشاذلي
| 20 يوليو, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: كريم الشاذلي
| 20 يوليو, 2024
المشكلة في “الكونسبت”!
سائق التاكسي الذي شاركته ساعة كاملة من حياتي، نتقلب فيها سويًا بين زحام شوارع القاهرة، كان غاضبًا!
بدا هذا في لعناته التي يوزعها بسخاء على الجميع، وتذمره المستمر من كل الناس، المترجل منهم والراكب، وفي شكواه التي لا تنقطع من حرارة الجو، وسوء الأخلاق، وعدم تقدير نساء هذا الزمان لكفاح أزواجهن.
بين هنيهة وأخرى تنتابه حالة صمت يعلو فيها صوت أنفاسه، لا أشك حينها أنه يتعارك مع نفر من الجن، قبل أن يعود ثانية لينظر إلي طالبًا رأيي في الأسلوب الأمثل للتعامل مع ولده الذي لا يطيع أوامره، أو زوجته التي لا تشكر مجهوده، أو توقعي لما سيؤول إليه حال العباد والبلاد بعد قرار الحكومة إغلاق المحال التجارية مع صلاة العشاء!
بلا مقدمات أوقف سيارته على جانب الطريق ليحضر لنا كوبين من عصير القصب، وبمجرد أن انتهينا من شرب العصير فاجأت وجوهنا المرهقة نسمة هواء منعشة، استقبلها السائق بامتنان قبل أن يقول لي: قال لنا خطيب المسجد في صلاة الجمعة ذات يوم في تفسير قوله تعالى “ثم لتسألن يومئذ عن النعيم”، إن النعيم الذي سيسألنا عنه الله هو شربة الماء الباردة، ونسمة الهواء العليلة، ونعمه البسيطة التي لا نلقي لها بالًا، مشكلتنا أننا نتعامل مع الحياة وكأنه لا شيء يرضينا فيها، نعيشها وكأننا مغلوبون على أمرنا في كل شيء!
ابتسمت موافقًا على كلماته الحكيمة التي تضادّ ما كان يفعله قبل قليل، ويبدو أنه وعى ما ترمي إليه الابتسامة، فاستطرد قائلًا بحرارة وكأنه يدافع عن موقفه: مشكلتنا في هذا البلد أن كل شيء يتآمر علينا، بدءًا من خطيب المسجد نفسه، الذي ما يفتأ يخبرنا كل أسبوع أننا لسنا على ما يرام، وأن حالنا لا يرضي الله، ومصائبنا باتت عصية على الإصلاح، مرورًا بأنظمة وحكومات تعمل عملها في تخويفنا الدائم من الغد، وتلهب ظهورنا بسياط الترهيب وصدمات القرارات التي تمضي عكس مصالحنا، وانتهاء بإعلام سيئ يقتات من تخديرنا.. لقد أصبحنا شعبًا بائسًا رغم أنفه، ما نلبث أن نخرج من مصيبة إلا وندخل أخرى، بالنا أصبح مشغولا دائمًا بالبحث عن جدار آمن نحتمي به، والتجارب ما تلبث أن تخبرنا أن لا جدار يؤوي الغلابة في هذا البلد إلا الركض المتواصل، ومحاولة توفير بعض الجنيهات مخافة ما يأتي به الغد!
المشكلة أننا أصبحنا شعبا مشوها، هل تذكر الحوار الذي دار في فيلم “الكيف” بين جميل راتب، الذي أدّى فيه دور تاجر مخدرات، ويحيى الفخراني؟ ذلك الحوار الذي قال فيه تاجر المخدرات “لقد غششت الشاي بنشارة الخشب المصبوغة وتقبل الناس الأمر، وعندما ندرت النشارة وغلا ثمنها توقفنا عن الغش، فاتهمنا الناس حينها بأننا لا نرعى الله ولا نقدم منتجًا سليمًا! الناس هي التي تدفعنا للغش والاحتيال”. هذا المنطق المعوج هو نفسه الذي يتعامل به معنا “أصحاب البلد”.. يشوهون ذائقة الناس ثم يتهموننا بأننا شعب بائس لا نستحق الحياة، لقد تواطأ الجميع على تخريب “الكونسبت”، فصرنا شعبًا مشوهًا نركض على غير هدى، بحثًا عن شيء ضائع لا نعرف كنهه!
أشعل الرجل سيجارته الثالثة على التوالي نافثًا دخانها بعصبية وضيق صدر، قبل أن يلتفت إلي مكملًا: في أوقات كثيرة يزورني خاطر، وهو أنني بهذه الحياة قد ضمنت مقعدًا في الجنة! نعم.. حتى مع تقصيري تجاه تعاليم السماء! يقول النبي محمد فيما معناه إن الله لن يجمع على عبده عذابين، فإما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، مصر يا سيدي قطعة عذاب، والعيش فيها صار دربًا من دروب الجهاد بل ربما أكثر، الشهيد ينال درجته العالية بطعنة سيف أو رصاصة من عدو، ثانية أو ثانيتان وينتهي الأمر، أما نحن فننال من الطعنات في كل يوم وساعة ما جعل نفوسنا وقلوبنا مهترئة تمامًا، انظر إلى الناس والبؤس البادي على وجوههم وستعرف مقصدي جيدًا، إنهم يُعذَّبون رغم انفلات ضحكاتهم على المقاهي ليلًا، شهداء حتى وإن بدا منهم ما ينبئ عن سوء السلوك وخبث الطوية!
قطع حبل الحوار وصولي إلى بغيتي، هبطت من السيارة وأنا أنظر لها مبتعدة، ويد السائق تشيح لأحدهم في حنق وغضب، حيرتي تجاه هذا الشعب تزاد يومًا بعد يوم، قوم يعرفون الحقيقة لكنهم لا ينطقون بها، يدركون الصواب بيد أنهم لا يجدُّون السير إليه، يغضبون في غير مواطن الغضب، يرضون حين ينبغي التمرد، يصمتون عندما يكون الصراخ مطلوبًا!
سهل على رجل كهذا أن يحلل أزمته ما دام التحليل سيريح كاهله المتعب، وأن يشير إلى مواطن الداء ما دام لن ينتبه لإشارته أحد، لكنه في الأخير سيجتهد في حشر جسده بصعوبة في صفوف القطيع المتحرك، ذلك القطيع الذي يعرف كل فرد فيه جيدًا أنه مظلوم ومكلوم وبائس، لكنه بدلًا من الخروج عن النص، يلقي بغضبه على شركائه في البؤس، ويحقق ما طلبه منه ظالموه، مستمتعًا بشعور الضحية، متعلقًا بأمل ما ربما يعيد إليه راحة لا يعرف عنها شيئًا.
ابتسمت حينما تذكرت قوله بأن مشكلتنا صارت في “الكونسبت”، في قناعتنا وطريقة تفكيرنا ومعاييرنا التي طالها الخلل والعوار، شعرت أنه قد وضع يده على أول نقاط الحل، ومبتدأ التغيير، لا حل يرتجي إلا بإصلاح تفكير الناس، بتعديل ذائقتهم ليشعروا بالامتعاض تجاه ما هم فيه، لا حل يجدي إلا إذا صار الظُلم مُنكرًا في النفوس، والذل دونه الموت.
لا طريق إلا إذا شعر الناس بأن العدل والحرية حق مشروع كالتنفس، وليس هبة أو عطية من “أصحاب البلد” كما يسميهم صاحبنا.. لا حل حقًا إلا بتغيير “الكونسبت”، وتلك لو ندري مهمة الرسل والأنبياء والمصلحين في كل زمان ومكان.
2 التعليقات
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
الحل الوحيد أن نصحو من غفلتنا ونرجع إلى ديننا كي يعزَّنا الله ونستحق نصره لنا فالله أكبر من كل همومنا وأوجاعنا وآلامنا…والله أكبر مِن كلِّ مَن بغى وطغى وتجبَّر.
قال عمر رضي الله عنه :”نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله”
شكراً وجزاك الله خيراً أستاذ كريم.
الي والله انك لمست في الجرح
كتب الله اجرك وزاد الرجال من امثالك