“سيد اللعبة”.. قصة هنري كيسنجر ودوره في الشرق الأوسط (1)

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 14 سبتمبر, 2024

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 14 سبتمبر, 2024

“سيد اللعبة”.. قصة هنري كيسنجر ودوره في الشرق الأوسط (1)

عندما كنت أحضّر حلقة وثائقية من برنامج مذكرات عن وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، بحثت عن كاتب وسفير له كتاب عنه، هو مارتن إنديك، وفعلًا وصلنا إليه وظهر في الحلقة يحلّل تجربة كيسنجر في الشرق الأوسط، وعندما رأيت كتابه مترجَمًا إلى العربية سارعت إلى الحصول عليه؛ فهو لا يقدم تفاصيل رحلة أحد أهم وأشهر رجال الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط وحسب، بل قصة محاولات صنع السلام بين إسرائيل وجيرانها من العرب، ويحكي الكتاب تفاصيل الصراع الدبلوماسي الذي دار في غرف التفاوض بين مصر وإسرائيل، وكيف تلاعب كيسنجر بالعرب.

سعى الدبلوماسي مارتن إنديك إلى فهم ما حدث في منطقة الشرق الأوسط، فقد وجد نفسه يعود إلى مراجعة مرحلة حرب أكتوبر 1973، فقد عاش مارتن هذا التاريخ وهو شابّ عندما كان طالبًا في الدراسات العليا في القدس، كان يسمع أخبار حرب أكتوبر ويسمع طنين صوت محركات الطائرات العملاقة في أثناء تشغيل جسر جوي لنقل الإمدادات العسكرية من الولايات المتحدة إلى قاعدة جوية قريبة منه، بهدف مساعدة إسرائيل على قلب مجريات المعركة في عام 1973، ثم استمع مارتن الشاب في الإذاعات إلى جهود وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في رحلاته المكوكية للتوسط في وقف إطلاق النار ثم إطلاق المفاوضات، خصوصًا أن مارتن إنديك  انغمس لاحقًا في هذا الأمر، وأصبح دبلوماسيًّا وسفيرًا للولايات المتحدة في إسرائيل.

وإذا كنت تظن أن المشاهير لا يهتمون بما يُكتب عنهم، فخذ هذه القصة:

عندما شرع مارتن إنديك في تأليف كتابه “سيد اللعبة”، قابل هنري كيسنجر عدة مرات، لكن بعد ذلك عيَّنه أوباما مبعوثًا في الشرق الأوسط، وهنا هاتفه كيسنجر عندما وصلت إليه الأخبار وسأله بصوت جهوري: هل تَولِّيك هذا المنصب مجرَّد ذريعة لتجنُّب تأليف الكتاب؟ فأجابه مارتن بالنفي، وأعرب له عن امتنانه لإرشاده له بشأن التحديات العديدة التي تنتظره في منصبه الجديد اعتمادًا على تجاربه الخاصة، كما اقترح عليه مارتن أن يساعده في إنجاز الكتاب، فسأله كيسنجر: هل أنت متفرغ لتناول الطعام غدًا؟

ورغم أن كيسنجر في التسعينيات من عمره، فإنه- كما يحكي لنا مارتن- ما زال يتذكر كثيرًا من الأحداث التي وقعت قبل أربعة عقود، كما يتذكر الحسابات الاستراتيجية والسياق الجيوسياسي الذي استرشد به في قراراته.. وكانت النتيجة كتابًا ضخمًا بعنوان “سيد اللعبة”.

الاستراتيجية.. هنري كيسنجر في البيت الأبيض

في 20 يناير 1969 في واشنطن العاصمة، دخل هنري كيسنجر البيت الأبيض مستشارًا للأمن القومي في اليوم الأول من تَولِّي نيكسون مقاليد الحكم، كان كيسنجر في الخامسة والأربعين من عمره، ولو عدنا إلى خلفية كيسنجر لنعرف كيف وصل إلى هذا المنصب، فستكون البداية مع حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، وبعدها بثلاث سنوات كتب كيسنجر دراسة سياسية حول الاستراتيجية النووية الأمريكية وقدّمها لمجلس العلاقات الخارجية.

تحدثت دراسة كيسنجر عن الرد المرن على تهديدات الاتحاد السوفييتي النووية، ومع هذه الدراسة برز اسم كيسنجر في نادي النخبة من الاستراتيجيين النوويين، ونجح الكتاب وأصبح من أكثر الكتب مبيعًا وقراءة على نطاق واسع في ذلك الوقت، وهكذا كانت بداية انطلاق كيسنجر مفكِّرًا في السياسة العامة.

لقد اكتسب كيسنجر خبرة سابقة عند خدمته في ألمانيا ضابطَ استخبارات للجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أدّت هذه التجربة -كما يشرح لنا مارتن في كتابه- دورًا مهمًّا في تشكيل شخصيته وسيطًا بين ألمانيا التي وُلد فيها، وأمريكا التي عاش فيها حياته الجديدة.

كان كيسنجر في تلك المرحلة المبكرة من حياته المهنية يسافر بالفعل إلى شرق آسيا، ومنذ كان كيسنجر في الثامنة والعشرين من عمره في جامعة هارفارد، عمل على توسيع شبكة معارفه على الصعيد الدولي، من خلال الندوة الدولية، وهي دورة صيفية سنوية تُعقد لمدة شهرين لنحو أربعين من القادة الشباب الواعدين من أنحاء العالم، وقد شارك في هذه الندوة بعض مَن أصبحوا قادة في بلدانهم مثل الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، والتركي مصطفى بولنت أجاويد، والماليزي مهاتير محمد، والإسرائيلي إيغال ألون.

كان كيسنجر يدعو صانعي السياسة في واشنطن لإلقاء محاضرات، فيأتون ضيوفًا في جامعة هارفارد، ويُمضِي كيسنجر الصيف في السفر إلى الخارج والاجتماع مع كبار المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال والمثقفين في أوروبا وآسيا، وقد مكّنَته تلك الاتصالات من دخول حلبة صناعة السياسة قبل انضمامه إلى إدارة الرئيس الأمريكي نيكسون.

ودخل كيسنجر نادي النخبة الحاكمة عندما قابل “نيلسون روكفلر” عام 1955، وكان روكفلر آنذاك مساعدًا للرئيس أيزنهاور للشؤون الخارجية، وقد أعجب بكيسنجر وعيّنه مديرًا لمبادرته السياسية الخاصة، حيث يدرسون التحديات الجوهرية التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل تحت كيسنجر طاقم قوامه نحو مئة شخص، وكان عمل كيسنجر مستشارًا لأحد أغنى المنحدرين من المؤسسة البروتستانتية البيضاء بمنزلة إعداد لكيسنجر لتولِّي المناصب الرفيعة، ودخوله الحقل السياسي عن طريق راعٍ أرستقراطي قويّ، وهكذا تَعلَّم كيسنجر كيف يتعامل مع الأغنياء والأقوياء، وتَعلَّم كذلك أهمية الإطراء والمديح لتحقيق أغراضه.

لا يعني ذلك أن الطريق إلى البيت الأبيض كان مفتوحًا بلا معوِّقات، فقد اقترب كيسنجر من إدارة جون كينيدي عندما استعان الرئيس بأساتذة من هارفارد، لكن بوندي- عميد كلية الفنون والعلوم في جامعة هارفارد- كان حذرًا من تألُّق صديقه كيسنجر، وبذل قصارى جهده لإبقائه بعيدًا عن البيت الأبيض، لكن كيسنجر وجد طريقًا آخر إلى الرئيس كينيدي عن طريق زميله المؤرخ آرثر شليزنجر، وبما أن شليزنجر من الدائرة المقربة للرئيس كينيدي فقد رتّب لكيسنجر زيارات متعددة للبيت الأبيض لإطلاع الرئيس على أفكاره، وهكذا التقت مصالح أهل السياسة في الاستفادة من العقول الاستراتيجية مثل كيسنجر، واستفاد كيسنجر في القفز من مقاعد الجامعة إلى دوائر الحكم.

وانضمّ كيسنجر بعد ذلك إلى إدارة الرئيس جونسون لتقديم مشوراته بشأن الحرب في فيتنام، وهكذا ارتقى كيسنجر من لاجئ يهودي قادم من ألمانيا إلى الاقتراب من دوائر صنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حيث وجد نفسه موضع ترحيب من الحزبين في أمريكا بسبب تألق فكره، بغضّ النظر عن كون لغته الإنجليزية بلكنة ألمانية واضحة، فضلًا عن خلفيته اليهودية.

يهودي البلاط.. كيسنجر في إدارة نيكسون

بحسب الرئيس نيكسون، كان قراره تعيين كيسنجر (أكاديمي هارفارد) أقربَ مساعديه في السياسة الخارجية قرارًا متسرعًا بشكل غير معهود عنه، فهو لم يكُن يعرفه، وكان التقاه مرة واحدة فقط، ويفسِّر مارتن ذلك بأنه أراد تعيين شخص ذي هوية يهودية واضحة، ينتمي إلى جامعة من أرقى الجامعات الأمريكية، وأيضًا أراد نيكسون توجيه السياسة الخارجية من البيت الأبيض مباشرة، وكانت أمريكا مشغولة في فيتنام، وكذلك يحتاج إلى التفكير في الموقف من الصين.

لقد وجد نيكسون في كيسنجر يهودي البلاط الذي يطور له الخيارات، وأعطاه كيسنجر فرصة العمر، ولو بقي كيسنجر في ألمانيا لكان من المحتمَل أن يتبع خطى والده مدرسًا في صالة للألعاب الرياضية في مدرسة ثانوية، لكن بدلًا من ذلك كان رئيس الولايات المتحدة يعرض عليه الفرصة لإعادة تشكيل السياسة العالمية.

تَولَّى كيسنجر المنصب عام 1968، ولم يكُن أفضل الأوقات، إذ شهدت هذه الفترة احتلال الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا، وانقطاع الاتصالات مع الصين، وانعزال الهند، واستمرار الحرب على طول قناة السويس بين مصر وإسرائيل، فضلًا عن الجدل داخل الولايات المتحدة حول فيتنام.

وعندما جلس نيكسون في البيت الأبيض، وجد أمامه أزمتين: فيتنام والشرق الأوسط، وكان قراره أن يعهد إلى كيسنجر بأزمة فيتنام، ويعهد إلى روجرز وزير الخارجية بأزمه الشرق الأوسط.

ذكر كيسنجر في مذكراته أن نيكسون “كان لديه شكوك حول ما إذا كان إيماني اليهودي قد يؤثر في آرائي أو يشوِّهها”، وهذا يفسِّر استبعاد نيكسون لكيسنجر من الانخراط في سياسة الشرق الأوسط حتى أواخر عام 1971، لكن كيسنجر كان مصمِّمًا على تجاوز مخاوف الرئيس الأمريكي نيسكون تجاهه، إذ تَمكَّن هذا اللاجئ اليهودي الألماني من النجاح وإقناع الرئيس بنفسه.

كان كيسنجر اليهودي الدخيل على البيت الأبيض يخفي قلقه على إسرائيل، فقد كان حذرًا في إظهار الدعم رغم أن إسرائيل كانت دائمًا ضمن اهتماماته الخاصة، لكنه بمكر وخبث أخفى هذه المحبة لإسرائيل، لأنه كان محلّ شكّ منذ البداية، كما ذكر كيسنجر في كثير من الأحيان عن تأثير المحرقة أو الهولوكوست عليه، إذ قال: “لا يمكن أن يموت ثلاثة عشر فردًا من عائلتك في المحرقة، ولا يؤثّر ذلك في هويتك”، والحل الذي نفّذه كيسنجر هو التوفيق بين هويته اليهودية ومصالح أمريكا القومية.

وقد دخل كيسنجر البيت الأبيض وهو لا يعرف كثيرًا عن الشرق الأوسط، فلم يكن كيسنجر كتب أي شيء عن تلك المنطقة، وكانت رسالة دكتوراه كيسنجر عن التاريخ الأوروبي، ولم يتطرق في رسالته إلى الإمبراطورية العثمانية ولم يزُر أي عاصمة عربية حتى ذلك الوقت، لكنه- على النقيض من ذلك- سافر خمس مرات إلى إسرائيل، وكانت الزيارة الأولى عام 1962، والتقي في هذه الزيارة بن جوريون أحد مؤسسي إسرائيل، والتقى نائب وزير الدفاع آنذاك شيمون بيريز.

رابين وكيسنجر.. القناة الخلفية بين البيت الأبيض وتل أبيب

كان إسحاق رابين بطل حرب إسرائيليًّا في حرب الخامس من يونيو 1967، وبصفته رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وبدلًا من التوجه فورًا للعمل في السياسية، التي كانت وما زالت المسار الطبيعي للقادة الإسرائيليين الناجحين، سعى إسحاق رابين لتولِّي منصب السفير الإسرائيلي في واشنطن، لاعتقاده أن الولايات المتحدة تمتلك مفاتيح رفاهية إسرائيل الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، إذ قدّم أوراق اعتماده للرئيس جونسون في أوائل عام 1968.

وكان للقائد الإسرائيلي صدى واسع في واشنطن التي غرقت في حربها الخاصة في فيتنام، ما جعل رابين يدخل بسهولة إلى أروقة السلطة في أمريكا، وأثبت براعة فائقة في حشد الدعم لبيع الأسلحة لإسرائيل من خلال عدة صفقات، أهمها قرار الرئيس الأمريكي جونسون بيع خمسين طائرة فانتوم لإسرائيل. وبعد مرور أربع سنوات أظهر رابين أنه لم يكُن دبلوماسيًّا تقليديًّا، من خلال تأييده العلني لريتشارد نيكسون خلال حملة إعادة انتخابه لرئاسة الولايات المتحدة.

يوضح مارتن إنديك في كتابه أن رابين كان مفكّرًا استراتيجيًّا مثل كيسنجر، رغم كونه خجولًا قليل الكلام، فقد جاء إلى واشنطن وهو على يقين أن الاتحاد السوفييتي عازم على تدمير إسرائيل من خلال إمداد العرب بالسلاح، لذا كان جدول أعمال رابين يعتمد على أولويتين رئيسيتين؛ أولاهما تزويد إسرائيل بأنظمة الأسلحة المتطورة اللازمة لمواجهة الأسلحة السوفييتية لدى الجانب العربي، والثانية ضمان تقديم دعم الولايات المتحدة السياسي والدبلوماسي، الذي تحتاج إليه إسرائيل لتأمين وجودها.

عُقد أول اجتماع بين رابين وكيسنجر في البيت الأبيض في مارس 1969، ومثّل هذا الاجتماع بداية لمحادثات عميقة تَرتَّب عليها مساعدة كل منهما الآخر، فطلب كيسنجر من سلاح الإشارة في البيت الأبيض تركيب خطّ هاتف مباشر آمن في مكتب رابين بالسفارة الإسرائيلية، يستطيع الوصول إليه بسهولة، وكانا يلتقيان سرًّا في غرفة الخريطة في الطابق الأرضي بالبيت الأبيض بدلًا من مكتب الزاوية الغربي الخاص بكيسنجر، الذي يتميز بنوافذ ممتدة من الأرض إلى السقف، ما يمكّن الصحفيين في البيت الأبيض من رؤية ضيوف كيسنجر. هكذا كان يصطحب كيسنجر السفير الإسرائيلي إسحاق رابين إلى غرفة الخريطة ليكونا بعيدين عن أعين وسائل الإعلام الفضولية.

جرت العادة أن يُعقد لقاؤهما الخاص صباح يوم السبت، عندما لا يكون في البيت الأبيض أحد، وهو اليوم الذي يوافق إغلاق السفارة الإسرائيلية بسبب عطلة السبت، ولقد ظلّت هذه عادة رابين عندما أصبح رئيسًا للوزراء في إسرائيل، وأصبح المؤلف مارتن إنديك سفيرًا للولايات المتحدة في تل أبيب.. كان رابين يدعوه لعقد لقاءات سرية معه صباح أيام السبت في شقته بعد انتهاء رابين من مباراته الأسبوعية للتنس.

بعد عقد اجتماعات أيام السبت هذه، كان رابين يستدعي إفرايم هاليفي، مدير مكتبه الذي أصبح فيما بعد رئيسًا للموساد، إلى مبنى سفارة مهجورة، لنقل تقارير رابين فورًا عبر قناة اتصالات سرية للموساد مباشرة مع سيمشا دينيتز، مدير مكتب رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، الذي كان يؤدِّي دوره بإرسالها إليها على الفور. كان يُشار إلى كيسنجر في تلك التقارير بالاسم الرمزي “شاؤول”، فيما كان الاسم المستعار لنيكسون هو “روبرت”. ومثلما أخفى كيسنجر هذه الاجتماعات عن زملائه في وزارة الخارجية، أخفتها مائير ورابين عن وزير الخارجية أبا إيبان، ووزارة الخارجية الإسرائيلية.

يوضح مارتن في كتابه أنه بخصوص كيسنجر ورابين، ستصبح هذه القناة الخلفية منتدى حميميًّا لتبادل الرؤى ووجهات النظر وتنسيق الاستراتيجية، وتقديم كل منهما للآخر التقارير الاستخباراتية الحساسة، فقد كان كيسنجر يعطي رابين روتينيًّا بروتوكولات اجتماعاته مع المسؤولين الأجانب، ويردّ رابين بالمثل من خلال تقديم بروتوكولات أو ملخصات اجتماعات رئيس وزرائه مع القادة الأجانب، بخاصة الكتلة الشرقية الشيوعية، لكيسنجر. كان كيسنجر حريصًا على التأكد من أن نيكسون على علم بتلك القناة الخلفية التي أنشأها، وكان نيكسون سعيدًا بها، لأنه كان مُعجَبًا برابين، وما دامت العملية سرية، فقد تَجنَّب المواجهة مع وزير خارجيته.

استخدم كيسنجر عديدًا من القنوات الخلفية المماثلة في جميع مساعيه المهمة في البيت الأبيض، إذ بدأت القناة الخلفية لفيتنام في اليوم التالي لتنصيب نيكسون، فسرعان ما أنشأ قناة خلفية مع السفير السوفييتي أناتولي دوبرينين لإدارة العلاقات مع موسكو والتفاوض بشأن اتفاقيات الحَدّ من الأسلحة الاستراتيجية.. وهذه القصة عن القنوات الخلفية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والبيت الأبيض تكررت كثيرًا لتجاوز الخارجية الإسرائيلية أو الخارجية الأمريكية.

انزعجت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية من هذه القنوات السرية وقالت ذات مرة: “هل أنا غير مهمَّة؟”، وحاولت هيلاري كلينتون وهي وزيرة خارجية عرض وظيفة على مارتن إنديك ليكون سفيرها في تل أبيب، ليفتح قناة مع نتنياهو بديلًا من تواصل نتنياهو مباشرة مع البيت الأبيض، لكن جون كيري وزير الخارجية أصر على التواصل مباشرة معه من تل أبيب، وكلفه ذلك هاتفًا آمنًا ليتصل بنتنياهو ثلاث مرات في الأسبوع، وأحيانًا في اليوم.

دور كيسنجر في توفير السلاح لإسرائيل

مع ربيع عام 1969 انتاب مستشاري الدفاع لنيكسون الشعور بالقلق من البرنامج النووي الإسرائيلي، وقرَّر وزير الدفاع ووكيل وزارة الخارجية تأجيل تسليم طائرات فانتوم لإسرائيل، وفي هذه اللحظة تَدخَّل كيسنجر لدى نيكسون ليمارس حقّ النقض أو الفيتو على هذا القرار..

وبعدها قابل نيكسون رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير ووافق على طلبها الحصول على الأسلحة، و200 مليون دولار سنويًّا مساعدات أمنية، ساعتها قال نيكسون عبارته: “ما دمت رئيسًا للولايات المتحدة فلن تكون إسرائيل ضعيفة عسكريًّا”، وهذا يوضح دور كيسنجر في توفير السلاح لإسرائيل، حتى إن إسحاق رابين قال في مذكراته إن “قصة مساهمة كيسنجر في أمن إسرائيل لم تُرْوَ بعد، ولكن يكفي أن نقول إنها كانت ذات أهمِّية قُصوَى”.

وفي عام 1970 التقى الرئيس الأمريكي نيكسون السفير الإسرائيلي رابين، وقال له: “في اللحظة التي ستحتاج فيها إسرائيل إلى سلاح، تَواصَل معي عن طريق كيسنجر، وسأجد طريقة للتغلُّب على البيروقراطية”.

كيسنجر وأزمة الأردن

تَطوَّر الوضع في منطقة الشرق الأوسط بين مصر وإسرائيل حيث تصاعدت حرب الاستنزاف، خصوصًا مع زيارة الرئيس المصري جمال عبد الناصر لموسكو والحصول على أسلحة دفاع جوي تؤمن الجبهة الداخلية، وفي هذه الزيارة هدَّد ناصر السوفييت بأنه إن لم يحصل على أسلحة فقد يتنحَّى ويأتي خلفًا له شخص يُجيد التفاهم مع الأمريكان.

وهذا الحشد الدرامي للقوات السوفييتية على خط قناة السويس كان يصب في مصلحة كيسنجر، لأنه دفع بقضية الشرق الأوسط إلى أجندة القوى العظمى، أي أمريكا والاتحاد السوفييتي، ولم يعُد خلافًا بين مصر وإسرائيل، وهذه القوى العظمى هي عالَم كيسنجر، واعترض كيسنجر على دخول السوفييت على الخطّ بهذه القوة، لكن نيكسون كان منشغلًا بردّ الفعل المحلِّي على قراره غزو كمبوديا.

مع خطف الجبهة الشعبية الطائرات في الأردن ووجود رعايا أمريكيين على متنها، يعرض كيسنجر مقترَحًا لتدخُّل إسرائيلي لمساندة الملك حسين، لكن نيكسون يرفض الاقتراح لأن هذا من شأنه أن يقوض مكانة الملك في العالم العربي وبين رعاياه، وفضّل نيكسون استخدام القوة الأمريكية حينما يستدعي الوضع، وأرسلت الولايات المتحدة حاملات طائرات إلى البحر المتوسط حتى ترسل رسالة إلى العراق وسوريا بعدم التدخل في الأردن، ومع عبور 70 دبابة سورية إلى داخل حدود الأردن، طلب الملك حسين من الأمريكان التدخُّل ولو عَبْر الإسرائيليين.

مع تطوُّر الوضع اتصل كيسنجر برابين واتفقا على ضربة جوية للقوات السورية لحماية مملكة الأردن، وكان هذا التعاون من أبرز أمثلة التعاون الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل، لكن تأخرت الضربة بسبب إبلاغ إسرائيل أمريكا أن القوات الجوية لا تكفي، وإذا دخلوا بَرًّا فسيعني ذلك رد فعل من العرب، بالتحديد عبد الناصر، وكذلك بدعم من السوفييت.

يستعرض الكتاب الدبلوماسية النشطة في هذه اللحظة المهمة، التي نجح فيها الملك حسين في ضرب القوات السورية بلا تدخُّل إسرائيلي أو أمريكي في سير العمليات، لكن خلف الكواليس كانت إسرائيل تحضِّر خطة للتدخل، وكانت أمريكا تنسِّق مع إسرائيل كل خطوة.

هذه القصة التي نراها هذه الأيام عادية في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، كانت قفزة في عام 70؛ فقد شكرت إدارة نيكسون إسرائيل على التنسيق معها، وأثبتت إسرائيل قيمتها الاستراتيجية في الحفاظ على عروش دول صديقة لها، ولكن الأمر الأكثر إرضاء لكيسنجر أنه هزم روجرز، وزير الخارجية الأمريكي، وأقنع نيكسون بتبنِّي نهجه الاستراتيجي في المنطقة.

لاحقًا بعد مرور ثلاث سنوات، وفي لقائه في غرفة الخريطة مع السفير الإسرائيلي سيمشا دينيتز، خليفة رابين، تَذكَّر كيسنجر بحنين قائلًا: “هل تتذكر الأزمة الأردنية؟ لم أرَ قَطُّ مثالًا أكثر فاعلية في إدارة الأزمات من هذا، فقد عملنا جيِّدًا”. وبعد مرور ستة أيام من انسحاب الدبابات السورية من إربد، في 28 سبتمبر 1970، تُوُفّي الرئيس عبد الناصر بعد أزمة قلبية وبَذْله جهودًا مضنية للتفاوُض على وقف إطلاق النار بين الملك حسين وياسر عرفات، ما كان له بالغ الأثر في المشهد العامّ في المنطقة العربية.

بقية قصة كيسنجر في المقال التالي..

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...