يجب أن تنتهي الحرب، الآن!

بقلم: عاصم النبيه

| 5 أكتوبر, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: عاصم النبيه

| 5 أكتوبر, 2024

يجب أن تنتهي الحرب، الآن!

بعد عام من الحرب، لا أدري كيف نجوت من الموت رغم أنه قريب جدا، أقرب مما أتخيل أو يتخيل أحد، ذاكرتي متعبة مع 365 يوما من البؤس والشقاء، كل الصور قد لا تعبر عن المشاهد القاسية التي رأيتها خلال عام من الإبادة.

لقد دفنت بقايا متفحمة لصديق، وشاهدت أطفالًا يتامى يتحولون إلى أوصياء ومسؤولين على أشقائهم، ورأيت فلسطينيين آخرين يحملون بقايا أطفالهم في أكياس بلاستيكية، غير متأكدين مما إذا كانت جميع أجزاء الجسد تعود للطفل ذاته.

شهدت تحويل مستشفى إلى قاعدة عسكرية مؤقتة، لتتحول لاحقا إلى مقبرة، أعرف ناجين ماتوا بسبب التهابات ناتجة عن جروح طفيفة، لأن الاحتلال يمنع دخول حتى المراهم والمضادات الحيوية الأساسية إلى غزة بشكل تعسفي ومخالف لكل القوانين الدولية.. غزة مغمورة برائحة الدم، وكثيرون يعانون من إصابات خطيرة، حروق، أطراف مبتورة، وصدمات نفسية.

أصبح المدنيون العاديون في غزة أكثر مهارة في إعادة استخدام صناديق الذخيرة الإسرائيلية الخشبية الفارغة، وتحويلها إلى حطب للطبخ في ظل انقطاع غاز الطهي لأشهر طويلة. حوّلنا سياراتنا إلى منازل، وخيامنا إلى مدارس وعيادات، وأغطية النوم إلى نقالات طبية، صرنا نفضل النوم بين الأنقاض بدلاً من العيش في ملاجئ الأونروا التي تتعرض للقصف بشكل مستمر. ومع تكيفنا مع هذا الواقع المرير، يبدو أننا جميعًا أصبحنا “تجسيدا حيّا لجنازات معلقة”.. كما قالت أم ثكلى ذات مرة.

أشاهد الأطفال الصغار حولي يحملون الماء لمسافات طويلة، يجمعون الحطب للطبخ، يبيعون الأشياء على الطرقات ليساعدوا عائلاتهم في النجاة، وهم بالإضافة إلى كل ذلك، يعانون من التوتر والتبول اللاإرادي والتشنجات؛ فقد انتقلوا إلى معاناة نفسية خطيرة.. قال دومينيك ألين من صندوق الأمم المتحدة للسكان عن أطفال غزة: “يجب أن يكون الأطفال في حضن دافئ عند أهاليهم، لا محمولين في أكفان ليدفنهم آباؤهم”.

التأثير النفسي لا يصيب الأطفال فقط، بل يصيب البالغين من جميع الأعمار.. لقد قضينا السنوات الثمانية عشرة الأخيرة في العيش تحت الحصار، والتجويع، والقصف، بينما يتم إلقاء اللوم علينا دائما! ومع ذلك فإن الادعاء بأن شيئًا لم يتغير خلال كل تلك الفترة غير صحيح؛ لأن الوضع يستمر دائما بالتدهور، وسط تجاهل واضح من العالم.

أختي نسمة مثلا، المولودة عام 2008، صارت اليوم بعمر 16 عاما، كانت تحصل دائما على معدل 99% في المدرسة، لكنها بالمقابل لا تعرف أن الكهرباء يمكن أن تستمر 24 ساعة في اليوم، والأقسى من ذلك أنها نجت حتى الآن من 5 حروب، نزحت عشرات المرات، ونجت من مجاعة محتومة، وخرجت من تحت الأنقاض، وتسكن الآن في بيت شبه مدمر في غزة، التي كانت ولا تزال أكبر سجن مفتوح في هذا العالم.

خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، رأينا قيمة الحياة البشرية تتضاءل إلى كيس دقيق، وأحيانا أقل! يهتم العالم بالتجارة العالمية في البحر الأحمر أكثر من اهتمامه بحياة أكثر من 41,000 إنسان قتلوا في هذه الحرب المجنونة! ماذا لو تعرض 17,000 طفل يهودي للقتل، هل كان العالم سيظل صامتا؟ بالمقابل نرى يوميا المزيد من الأطفال مقطعين، بعضهم سحقته المباني، وآخرون مزقتهم الشظايا بسبب الانفجارات دون أن يتحرك قادة العالم.

أنا وأشخاص كثيرون في الشمال اضطرنا لطبخ الحشائش وأوراق الشجر لكي ننجو من المجاعة.. لن أنسى يوم أحضرت ابنة أختي لينا (3 سنوات) ورقة، ورسمت عليها رغيف خبز وطلبت من أمها أن تضع لها ساندوتش جبنة.. تخيل! طلبت ساندوتش في ورقة! أما أحبابنا وأصدقاؤنا الذين نزحوا إلى الجنوب، فيعيشون على علب الفول والفاصولياء أو ألواح التمر المدعمة بالفيتامينات التي انتهت صلاحيتها عام 2023.. تسمي وكالات الإغاثة ذلك مجاعة، لكن الأجدر أن نسميه تجويع.

أنا محظوظ لأنني أتمكن من أكل وجبة واحدة يوميا، لكن وفقًا للأمم المتحدة، هناك العديد من العائلات في غزة تأكل وجبة واحدة كل يومين أو ثلاثة أيام بسبب نقص المساعدات. كما تقول منظمة أوكسفام إن الغزيين يستهلكون 245 سعرة حرارية فقط من أصل 2100 سعرة حرارية مطلوبة يوميا.

صحيح أن مئات الشاحنات الممتلئة بالمساعدات تقف على أبواب غزة، مصطفة لأميال مع محركاتها المطفأة، تنتظر أسابيع للحصول على إذن بالدخول، لكن هناك أيضًا العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة التي تمنع وصول المساعدات إلى غزة. من المفارقات أن هؤلاء الأشخاص يتلقون تبرعات معفاة من الضرائب من الولايات المتحدة وإسرائيل، بينما يواجه من يرسل الأموال إلى غزة عبر التحويل البنكي وغير ذلك من الوسائل قيودا كثيرة، بالإضافة إلى عمولات تصل إلى 20% في بعض الأحيان.

الناس العاديون في غزة قلقون بشأن نقص الغذاء، وانهيار البنية التحتية الطبية، وتراكم النفايات، وحرارة الصيف.. غزة بحاجة ماسة إلى أقراص الكلور لتعقيم المياه، والمساعدات الطبية، ولكن حاجتها أكثر إلحاحًا إلى الماء والدقيق والبيض والخضروات، وليس فقط علب البسكويت المدعمة بالفيتامينات والأطعمة المعلبة.

لقد قضيت ساعات طويلة في انتظار دوري في طوابير المخابز، ومراكز توزيع الدقيق، وآبار المياه التي تعمل جزئيا، ومجموعات الإغاثة التي تقدم طرود الطعام المتشابهة والمكررة! لكنني لست مجرد رقم.. أنا مثل 2.3 مليون غزاوي آخر، لدي عائلة وأطفال، أشقاء وذكريات، آلام ومشاعر.

ربما تعبت من كل هذا، وربما أنا متعب من السؤال: متى سينتهي كل هذا الألم؟. لكني لا أترجى العالم أن ينتبه لمعاناتنا فقط، أريده أن ينتبه إلى نفسه وينهي هذه الحرب، لأن استمرارها يقتل الإنسانية، ويجعل هذا العالم مشاركا في قتلنا بقوانينه وأنظمته ومجالسه الدولية.

لكي ينعم هذا العالم بالأمن يجب أن تنتهي هذه الحرب.. الآن.

عاصم النبيه

مهندس، كاتب، باحث دكتوراة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

من زمزم إلى الذّبيح عبدالله.. إرهاصات بين يدي الولادة

من زمزم إلى الذّبيح عبدالله.. إرهاصات بين يدي الولادة

"إنّي لنائمٌ في الحِجر إذ أتاني آت فقال: احفر طَيبة؛ قال: قلت: وما طَيبة؟ قال: ثمّ ذهب عني، فلمّا كان الغد رجعتُ إلى مضجعي فنمتُ فيه، فجاءني فقال: احفر برّة؛ قال: وما برّة؟ قال: ثمّ ذهب عني، فلمّا كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة، قال:...

قراءة المزيد
 هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (1)

 هيكل.. حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (1)

علاقتي مع كتابات الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل معقدة، قد تأخذ موقفًا مما يكتبه وتتهمه بكثير، ابتداءً من التحايل على المعلومة وتعديل تفسيرها، إلى عدم إيمانه بالديمقراطية.. لكني أعود إليه كمصدر وشاهد عيان في قضايا تاريخية كثيرة، والأهمّ كواحد من أجمل الأقلام الصحفية في...

قراءة المزيد
البنتاغون يتوقع اضطرابات كبيرة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض

البنتاغون يتوقع اضطرابات كبيرة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض

تتزايد المخاوف في أوساط البنتاغون بشأن عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث يُخشى أن يسعى لتنفيذ وعود انتخابية قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة على الجيش الأمريكي، الذي يُعرف بحياده السياسي. من بين هذه المخاوف، توجيه الجيش للعمل داخل الولايات المتحدة،...

قراءة المزيد
Loading...