وصية طفلة شهيدة من غزة
بقلم: عاصم النبيه
| 10 نوفمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: عاصم النبيه
| 10 نوفمبر, 2024
وصية طفلة شهيدة من غزة
لم نكن نعلم شيئا عن وصيتها قبل دفنها، وصية كتبتها طفلة صغيرة في غزة، ابنة أختي رشا (10 أعوام)..
وجدنا وصيتها بين الأنقاض، تقول فيها: “وصيتي إذا استشهدت أو توفيت.. أرجو أن لا تبكوا عليَّ، لأنني أتعذب عندما أراكم تبكون، وأتمنى توزيع ملابسي للمحتاجين، وأريد توزيع إكسسواراتي لـ (رهف وسارة وجودي ولانا وبتول)، علب خرزي لـ (أحمد ورهف). مصروفي الشهري 50؛ 25 لرهف و25 لأحمد.. قصصي ونوتاتي لرهف، ألعابي لبتول. وأرجو ألا تصرخوا على أخي أحمد، وأرجو الالتزام بالوصيّة”.
تقول الوصية عن رشا الكثير، يمكننا أن نرى مستوى الرقي الذي تربت عليه هذه الطفلة، والجهد المبذول في تربيتها وتنشئتها، جلي من وصيتها أنها طفلة حنونة، بدأت بطلبها ألا نبكي عليها لأن بكاءنا سوف يؤلمها، أي قلب كانت تملك رشا؟ أي إحساس مرهف ذاك الذي يجعل طفلة بعمرها توصي أهلها ألا يبكوا عليها إذا رحلت، وأي اهتمام تشعر به تجاه الناس كي توصي بتوزيع ملابسها على المحتاجين، وأن تعطي ما تبقى من أشيائها وألعابها لأصحابها.
طلبت رشا أن لا يصرخ أحد على أخيها أحمد، أحمد الطفل اللطيف المتفوق في مدرسته، الحافظ للقرآن الكريم، كانت تعتقد أن أحمد لن يصاب بأي أذى، وأنه سيبقى من بعدها حيا ليأخذ أشياءها ويعيش حياتها، لكن الحقد كان أكبر من أحلامها، رحل أحمد معها، باتوا ليلة كاملة على أرض المستشفى بأكفانهم جنبا إلى جنب، حملناهم إلى المقبرة على أكتافنا معا جنبا إلى جنب، وناموا في قبر واحد، أحدهما بجوار الآخر.. جنبا إلى جنب، إلى الأبد هذه المرة.
رشا وأخوها أحمد (11 سنة) تعرضوا للقصف بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2024، في منزلهم في البلدة القديمة في مدينة غزة شمالي القطاع، يومها أخرجناهم من بين الأنقاض، ليعيشوا بعدها أسابيع أخرى من الحرب والخوف والجوع، ألقى الاحتلال يومها صاروخين، كأن إسرائيل أرادت أن ترسل لكل واحد منهما صاروخاً خاصّاً، لكن معجزة ما حدثت ليخرج كلاهما بإصابات طفيفة.
قام الأبوان بإصلاح جزء من البيت المدمر، وعادوا له لأنه لا توجد أماكن متاحة في غزة، ثم تمر الأيام ويُلقي الاحتلال عليهما صاروخين آخرين، بينما كانا يدرسان في المكان ذاته الذي نجوَا فيه أول مرة، لكل واحد منهما صاروخه الخاص أيضاً، لكن لا معجزة حدثت هذه المرة، وارتقى الطفلان جنبا إلى جنب معا، كما عاشا معا، وكما خافا وجاعا معا.
كان ممكناً أن يصف العالم هذه الحادثة بجريمة حرب، لكنها حدثت في غزة وارتكبتها إسرائيل، فاستمر الصمت الدولي.
رحل أحمد ورشا في الثلاثين من سبتمبر 2024، وهو التاريخ ذاته الذي ارتقى فيه الطفل محمد الدرة قبل 24 سنة، كأن إسرائيل مصرة على أن تُذكّر العالم بتاريخها في قتل الأطفال على مسمع ومرأى العالم أجمع.
يعجز العقل عن إدراك السبب الذي جعل طفلة في عمرها تكتب وصية وفاتها، ما الذي كان يدور في بالها؟ وماذا فعلت هذه الحرب بروحها كي تعلم يقينا أنها مفارقة لهذه الحياة، وأنها يجب أن تكتب وصيتها، وتوزع أشياءها على أصدقائها الأطفال من أقاربها.
رشا واحدة من 17 ألف طفل قضوا في هذه الحرب، لا ندري حقا من كتب وصيته ومن لم يفعل، بعضهم لا يزال تحت الأنقاض منذ أشهر، حتى حق الطفل في قبر خاص معروف الموقع لم تسمح إسرائيل به في حربها ضد أطفالنا. يخيل لي -وأتمنى أن يكون حقيقة- أن الأطفال لا يموتون في الحروب، هم يهربون من الخوف والجوع والحرمان، فلا يجدون بوابة إلا الموت ليدخلوها، هناك ينتقلون ويختبئون بعيدا عن ضوضاء القصف وأصوات المدافع وهدير الطائرات.
بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فقد قُتل أكثر من 10600 طفل بحلول أغسطس 2024، وأصيب أكثر من 15300 طالب، حتى المدارس التي تحولت إلى ملاجئ فقد دُمر أكثر من 90% منها. بالمقابل فإن كثيرا من الأطفال الذين نجوا من الموت صاروا أيتاما؛ فبحسب إحصائيات الأمم المتحدة يوجد 17 ألف يتيم في غزة الآن، ما جعلها تلقب بمدينة الأيتام. هذا بالإضافة إلى آلاف الإصابات لأطفال فقدوا أطرافهم، حيث أفادت منظمة “أنقذوا الأطفال” في يناير 2024 أن أكثر من 10 أطفال يفقدون أطرافهم يوميا منذ بدء الحرب.
لا زلت أذكر يوم جاءتني رشا تحمل مذكراتها التي كتبتها بعد نجاتها من القصف الأول، لتقول لي: “خالو، انشر لي على الجزيرة، احكيلهم عني” كانت رشا تريد أن تخبر العالم عن قصتها وعن نجاتها وعن أحلامها، لكن العالم لم يكترث حتى جاء اليوم الذي رحلت فيه تاركة وصيتها، لينتبه العالم فجأة أن طفلة عمرها 10 سنوات كتبت وصيتها، نشر عنها العالم، وكتبت عنها وسائل الإعلام..
لكن، من يكتب عن آلاف الأطفال الذين قتلوا في هذه الحرب؟ من يخبر العالم أن هؤلاء ليسوا أرقاما، وأن كل طفل من هؤلاء كانت له أحلام ومذكرات يكتبها، وحياة يرغب أن يحياها قبل أن يموت؟
إلى ذلك الحين، أخشى أن طفلا ما في غزة يكتب وصيته الآن.
مهندس، كاتب، باحث دكتوراة
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق