تابعٌ في الخير.. لا رأس في الضلالة
بقلم: هديل رشاد
| 22 يوليو, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: هديل رشاد
| 22 يوليو, 2024
تابعٌ في الخير.. لا رأس في الضلالة
إنّ البحث عن الحقيقة هو عماد العمل الصحفي، ووتده الذي ترتكز عليه مهنة الصحافة، فللقارئ حق على الصحفي في أن يسخّر أدواته وشبكة علاقاته كي يضع يده على الحقيقة، وينقلها إليه دون زيادة أو نقصان منه.
وما تتيحه صاحبة الجلالة للمنغمسين في بلاطها يعد حظوة في حال استفاد منها ابن المهنة، وطوَّعها ليس بغرض الكشف عن الحقيقة، بل في أنسنتها، وعادة ما يتنامى هذا الدور للصحافي عندما يكون هناك ضحية وجلاد، ليستحيل دوره من ناقل للحقيقة إلى جعلك تعيش أحداث الحكاية بتفاصيلها على لسان من عايشوها، وليجعلك جزءاً مما عاشه هو لبلوغ هذه الحقيقة، متحدياً معيقات بالجملة، واعتبارات لها بداية لكن لا نهاية لها..
ولهذه المقدمة سبب يتجلى في محاولاتي المستميتة لتوثيق شهادات عدد من جرحى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، الذين نُقلوا إلى دولة قطر بمكرمة أميرية قبل إغلاق المعابر كافة، فقد لا يصدق البعض أنَّ انتظار الموافقة في مثل هذه الأحايين قد يمتد لأسابيع، بل لشهور؛ ومن واقع خبرتي التي أصفها بالمتواضعة رغم بلوغها عامها الـ20، فقد باتت الصورة جلية كي تجيب على أسئلتي المتعلقة بالأسباب، لاسيما في مثل ظروف الحروب أو الكوارث الطبيعية.
فالأمر بكل تأكيد له انعكاسات نفسية على الضحايا دون أدنى شك، إلا أن طول المدة سمح لليأس أن يتملكني وأن يباعد بيني وبين اللقاء بهم، وأن أشتمّ بهم رائحة الوطن الذي باعد الاحتلال الصهيوني الغاشم بيني وبينه، للأسباب ذاتها التي يحياها كل فلسطينيي المهجر، ويعيشها الفلسطيني في القطاع أو في الضفة الآن، ومنذ أن وطئت قدم المحتل النجسة أرض أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
إلا أنَّ الإصرار والعزيمة، وإيمان المعنيين بأهمية السلطة الرابعة في توثيق شهادات عدد من الجرحى، يسّر تحديد موعد للقاء بعدد منهم، حتى بدأت أسمع دقات قلبي المتسارعة أعلى من صوتي حينما أَخبرني أحد المعنيين بموعد ومكان إجراء اللقاءات، فهذا الارتباك كان نتيجة طبيعية للحظة إدراك بالمسؤولية الملقاة على عاتقي، لأكون الصحافية الممتلئة بالحياد، والبعيدة كل البعد عن الانحياز أو التعاطف، لأنقل حديثهم مجرداً إلا من إنسانيتهم، لأكون صوتهم للعالم الذي صمَّ أذنيه منذ 75 عاما عن مجازر الاحتلال، التي تُرتكب بتوقيع ممهور باسم الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وبريطانيا، وبتخاذل المنظمات الأممية التي لا تقوى إلا على صرف أرطال من الشجب والاستنكار والتنديد.
وكان الأول من يوليو الجاري هو اليوم الموعود، اليوم الفصل بين أن تسجل موقفا حيال ما يجري في قطاع غزة وبين أن تكون ضمن قطيع “لا سمح الله”. فالأمر لا يقتصر على أن تكون صحفياً أو طبيباً أو ناشطاً اجتماعياً لتسجل هذا الموقف، الذي اختلافك معي فيه يفسد الود الذي بيني وبينك كله، بل مطلوب أن تكون إنسانا، تميز الخبيث من الطيب.. وهنا أستذكر قول ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: “فإن الرجل يكون تابعا في الخير، خير من أن يكون رأساً في الضلالة”.
عند وصولي إلى مركز الجراحة التخصصي الواقع في مدينة الدوحة، مقر علاج عدد من جرحى غزة، أُثقل رأسي بالأسئلة؛ بين كيف سأبدأ؟ وكيف سألجم عاطفتي، فمهما حاولت الحياد فهم أبناء وطني وعقيدتي؟ وكيف سأواسيهم، فمصابهم جلل؟.. فهذه الأسئلة التي ملأت رأسي سرعان ما تبخرت عند صعودي والفريق الذي يرافقني إلى الطابق الرابع؛ وهناك استرعى انتباهي حينها خلية النحل التي تعمل على راحة جرحى من نوع خاص، فمصابهم جلل، وألمهم كان باتساع الأرض، العالم كان شاهداً على جروحهم، وعلى تضحياتهم الجسام.
استقبلتني مجموعة من الطبيبات، اللاتي سهلن المهمة في التأكّد من جاهزية المرضى لاستقبالنا حتى وإن كان لديهم علم مسبق بقدومنا، إلا أنني كنت أفضل قبل الدخول إلى أي منهم، أن تسبقني إحدى الطبيبات للتأكد من استعدادهم التام للحديث معنا، فاجترار الألم ليس هينا، وجروحهم لم تندمل بعد.. خلال هذه الثواني التي تفصلني عن غرفة أحدهم كنت أطرح بعض الأسئلة على الطبيبة التي كانت تصطحبني إلى غرفهم، حتى أُكوِّن فكرة عن المريض قبل الالتقاء به والحديث معه.
كان سؤالي الأهم في كلِّ مرة كيف هي صحته النفسية؟ ثمَّ السؤال عن نوعية الإصابة، وإلى أين وصل بمراحل العلاج؟.. فهذه الأسئلة لم تكن عبثية، بل هي فرصة لتهيئة النفس، وضبط المشاعر في المقام الأول، حتى لا أبدي تعاطفا مذموما قد يؤثر عليهم سلبا، لكن عندما كنت أسأل الطبيبة عن وضعهم النفسي، كانت دوما تجيبني: نحن نتعلم منهم الصبر والقوة.. فهذه الإجابة جعلتني أتنفس الصعداء، وأشعر بأنَّ مهمتي باتت أسهل إلى حد ما. وعندما تطأ قدمي والفريق الذي يرافقني أولى عتبات الغرفة، وأبدأ بالسلام وبتعريف المصاب أو المصابة بنفسي، وأرى ابتسامة مصحوبة بـ “الحمدلة” أعلم بأن قوة الإيمان وصدقه خلقا في غزة الإباء.
ورغم الإيمان وقبول القضاء والقدر، فإنَّ لكل منهم قصة، فنغم وشيماء وشهد وعبد الله، الجرحى الذين التقيت بهم، جميعهم يتقاطعون في حجم الألم، إلا أنهم يختلفون في سرده، فلكلٍّ منهم حياته، وطموحاته، وأحلامه المدسوسة تحت وسادته، محدّثا نفسه بتحقيقها يوماً، إلا أنَّ الحرب المستعرة على غزة وعلى شعبها الأعزل لم تمهلهم للملمتها، بل تناثرت مع أشلائهم التي ملأت المكان، ودمائهم التي روت الأرض دلالة على أنهم أصحابها.
ختاما..
حتى كتابة هذه السطور أسفر عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وفق آخر حصيلة، عن استشهاد 38 ألفا و983 فلسطينيا، غالبيتهم من النساء والأطفال، وإصابة 89 ألفا و727 آخرين، وفق وكالة الأنباء القطرية، فيما لا يزال آلاف الضحايا تحت الركام وعلى الطرقات، لا تستطيع طواقم الإسعاف والإنقاذ الوصول إليهم. وتعد المجازر المستمرة للاحتلال استكمالا لجرائم الإبادة الجماعية، التي يرتكبها بحق المدنيين الفلسطينيين العزل للشهر العاشر على التوالي، ويتم التركيز على استهداف مناطق تجمعات النازحين، التي أعلنتها قوات الاحتلال مناطق آمنة!.
2 التعليقات
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
فعلا مقال مؤلم للأمانه .. اللهم ارحم ضعفنا وقة حيلنا وهوانا يارب العالمين
ما أجمل هذا المقال !!!
برغم حالة الشجون التي سيطرت عليّ و على أغلب القرّاء ( إن لم يكن كلهم ) إلا أنه مقال قريب جداً من القلب و لن يضيرني أن أكرر قراءته عشرات المرات و أنا متأكده في كل مره سأشعر بنفس المشاعر و ستملأ صدري نفس الحسرات و عيني نفس العبرات إن لم تكن أكثر ،مقال كُتب بحرفية كاتبة قادرة على وصف الموقف و كأنك تعيشه و قلم صحافية صادقة متمرسة ، فعندما يجتمع الإيمان بالقضية و العلم الإلمام بها ينتج عنه مقال ثريّ بثقل هذا .
أشكرك أستاذة هديل .. بالرغم من كل الدموع التي سكبتها و أنا بين السطور و ددت ألا أصل إلى الخاتمة . شكرا لك من القلب على مشاركتنا هذه الرحلة استثنائية لزيارة أهلنا الجرحى على أسرة الشفاء بإذن الله .